الأحد ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

تقلبات في زمن التغيير....

ارتسمت الذكريات الماضية على وجهه تجاعيد عميقة، فعاش التغيير، لم ينسى ذلك اليوم الذي أثلج صدره، حين وافقت من أراد أن تصبو رفيقة درب، شكر مالكه، الذي أحس بمعاناته وسهر الليل الطويل، نهيقا بمناجاة من أحبها، فهام على إطلاق النهيق شعرا حموريا، أشادت بذلك مجموعة الحمير، التي طربت وشاركت بعزف سيمفونية النهيق الليلي، حين سماعه، الجميع علم برغبته في الزواج، حتى صاحبه قال لنفسه.. لقد آن الأوان لأن يجد له من تؤنسه في وحدته، وإلا سيغدو عنيدا، وذاك لا يمكنني ترويض عناده، ضربه لن ينفعني جدوى في تسيير أمور، سأحصل له على رفيقة، حتى يكفيني شره وعناده، بالنسبة له لم يتصور أن الاستقرار يمكنه أن يولد الطاقات، وقدرات كبيرة، فمنذ ارتباطه وهو يعمل، يكد بشكل غريب، هذا ما لا حظه أيضا على صاحبه الإنسان، حين ارتبط بمن هي من جنسه، وجده يصحو نشيطا يحدوه الأمل، في الجد والعمل، يعود إلى البيت محملا بالعديد من الأشياء، تلك التي تثلج قلب صاحبته، لترضى عنه، وحتى لا تقلب حياته إلى جحيم، هكذا سمع من صديق لصاحبه، حين التقى به ذات يوم، علم انه سيتزوج، فقدم له النصيحة قائلا:
 عليك أن تكون قادرا أمام متطلباتها الحياتية، فالمرأة جنس يألف الأشياء التي تلمع، إلى جانب الكلام الناعم، حيث أنه يلقي ضفافا ندية على حياتك، حاول أن لا ترى ما هو قبيح فيها، وإن رأيت غض الطرف، وأعمل على معالجته بالإشارة الغير مباشرة، لا ترخي حبلك على الغارب، حتى لا يطلك فتخنق نفسك، كن شديدا ساعة غنج، وأدرك أن وراء كل رغبة طلب حاجة، إياك إياك، ألا تكون فحلا معها، فتلك خيبة الآمال لرجولتك، وبداية التسلط عليك.

كانت تلك نصائح صديق صاحبي أليه، بذلك رأيت أنه في سعادة وسلام، نعم هناك منغصات لا تخلوا الحياة منها، لكنها تذوب تحت سقوف ليلية، الواقع إن حياتي قد تغيرت كثيرا، تسارعت الأيام بي، كنت أشعر فيها أن السعادة قد بلغت ذروتها، فنسيت كل من حولي، مرغبات التغيير، ما يطال الإنسان من أحداث الوطن، ناهيك عن المتغيرات التي أكلت الأخضر واليابس، ذلك أني كنت أنتظر قدوم من سيرث حِملي الكبير، ويرفع عن ظهري هموم أعوام جدب وقحط.

انتظرت.... وانتظرت حتى جاء ذلك اليوم، الذي رأيت وجه جحشي الصغير، يا له من جحش جميل، رحت ألامسه، أداعبه، شكرت من جاءت به إلى عالمنا هذا، صدفة غريبة!! كان صاحبي قد رُزق طفلا أيضا، وشاءت الصدف أن يتعلق ولده بجحشي الصغير، نمت علاقة بينهما، فكلاهما حيوانان صغيران، الفرق أحدهما ناطق بلسان متلون، والآخر بنهيق ثابت، كنت أقوم دوري، اهتم به وبأمه كثيرا، لا أريد لهما التعب فهذا واجبي، شعرت أن صاحبي يميل إلى العطف على جحشي، فزاد ذلك من تقديري له، حتى في ذات يوم، خرجنا فيها للعمل باكرا، كانت زوجة صاحبي قد أخذت رفيقتي في رحلة إلى بيت أهلها، فكان لابد أن يرافقها جحشي الصغير، حدث ذلك دون علم مني، علمت بعد أن عدت وصاحبي إلى البيت، فلم أجدهما، طفقت أنهق بشدة صارخا، ناشدا البحث عنهما، تذكر صاحبي، فأخبرني أن زوجته وولده قد أخذا صاحبتي وولدي، إلى زيارة أهلها، سيعودان بعد قليل، القليل.. يا لهذا العالم البشري، الغرابة في التصرف، تدل على الجهل بالأشياء وكيفية التعامل معها، كم كنت اقتل نفسي في درء العمل عنهما؟ كونهما يخصاني، إلى أن البشر لن تتغير طباعه، فأنا لا زلت ملكا له، حماره العبد، وكل ما لي بات له، تماما كما هو ملكا للذين تسلطوا عليه، وجعلوه ملكا لهم، حين سرقوا استحقاقه الآدمي، نفوه ليعيش مع عالم الحيوان، انتظرت ... وانتظرت، تأخر الوقت، كان صاحبي قلقا أيضا، جاء مسرعا إلي، فجأة ركب!! ضاربا برجليه على بطني، والتي لم تذق الطعام منذ علمت بذهاب جحشي وأمه، ساورني القلق، صاحبي كذلك، وإلا لم خرج متوترا هكذا!؟ ناشدا السرعة، جريت بكل ما أوتيت من عزم، لم يؤثر الجوع على قدرتي في الحركة، كنت أعرف الطريق جيدا، بعدما أخذني صاحبي إلى هناك عدة مرات، لم أكن اكترث لِلَغوه وحديث نفسه بلومها على السماح لها بالذهاب دونه، يا لي من أحمق قال لنفسه: كيف سمحت لها بالذهاب؟ وأنا أعرف أن الطريق وعر مليء بالمخاطر، سمعت ما قاله... فجن جنوني، أخذت أجري بسرعة كبيرة، أحسها هو، فقال:
 اهدأ قليلا... أتراك سمعت ما قلت!! ففهمته، إذا كنت أنت الحمار قلق على اهلك؟ فكيف بي أنا! إذن هيا أجري.

لا أدري كم من الوقت أخذت المسافة، إلا إننا وصلنا بسرعة، فوجدنا جميع من في البيت خارجه، تساءل صاحبي عن الأمر، قالوا له: وقد سمعت ما دار، أن جحشي الصغير ذهب بعيدا، بعد أن ركض ولعب مع ابن صاحبي في الخارج، ثم تأخر الوقت، خرجوا للبحث عن الولد حتى وجدوه، إلا إن الجحش لم يكن معه، جن جنون أمه حينها، نهقت مرات ومرات عليه دون رد، خرجت هي الأخرى للبحث عنه، لم يكن أحد قادرا على الوقوف بوجهها، وإلا لقتلته، وما أن سمعت بذلك جن جنوني أنا الآخر، فنهقت بصوت عال جدا مناديا عليهما، إلا أن الصوت ضاع هو الآخر، في فضاء القرية، جريت وأنا أنهق عَلِ أسمع ردا على نهيقي، لكن دون فائدة، جرى صاحبي خلفي، أمسك بلجامِ، لم أتوقف، ضايقني بشدة، ضربته برجلي، رميت به بعيدا، صرخ!! قف يا مجنون.. انك حمار فعلا، هيا توقف! خذني معك سأبحث وإياك عنهما، ذلك ما جعلني أقف للحظة، حتى امسك بالحبل وأخذ يجري معي، هنا وهناك، كان الليل قد جاء ليلقي بالظلام عقبات أمامنا، عدة مرات أراد صاحبي العودة، إلا أني رفضت، نال التعب والإرهاق مني، لحق أقارب زوجة صاحبي به، ليكونوا معه، لم يرغب في العودة معهم، رغم أنهم قالوا له، لنجره جرا، قد يعاند، حينها نضربه حتى يقتنع انه لا مجال للبحث ليلا، كما أن البقاء في هذا المكان خطر عليك وعليه، أتركه إذا شئت هنا بعد أن تربطه بوتد في الأرض، اترك له بعض الماء والعلف، ولنعد، فإن كان لك نصيب أن لا يصيبه شيء فنجده حيا في الصباح الباكر، قنحن لا نسمح لك أن تبقى معه وحدك، إن لك عائلة تقلق عليك، اقتنع أخيرا برأيهم... يا له من إنسان!!! تركني مجرد أن فكر بعائلته وقلقه عليهم، أما أنا فحمار، يمكن استبداله في أي وقت، أما عائلتي فإلى الجحيم، لم تكن خدمتي له تشفع لي، تجعله يفكر أني أحس، أشعر وأحب، قد يكون أسمي حمار، لكني احمل قلبا وإحساسا، وان صاحبتي هي من خففت ارق الليالي، ورفعت من قدرتي على تحمل الحياة ومغبتها، أما جحشي الصغير فكان الأمل في أن اجعل منه حمارا، يستطيع أن يغير ما يظنه الناس عنه، فكم كان يسعدني حين يقول لي ويسألني؟ متى أكبر وأصبح حمارا مثلك... يا لجحشي المسكين! يريد أن يصبح حمارا مثلي، بالرغم أني لم أتمنى ذلك له، لكن حبه لي جعله يتمنى ذلك، مر الوقت قاسيا عَلي، لم أستطع الحركة بعد أن قيدوني بقوة، لكني شغفي ولهفتي، زائد حرقة قلبي، جعلتني اقطع الحبل بعد أن لكته أكلاً، يا لعدم وفاء بني الإنسان، لما أقوم به، ذلك الذي خلته يقدره ويثمنه، همت أبحث نهيقا هائما في جوف الليل، حتى جاء الصباح ثم لحق به الليل، ثم الصباح التالي، ولا زلت ابحث، خارت قواي، سقطت على الأرض فاقدا الوعي...،

لم أشعر إلا وأنا في نفس مكاني، مع جدراني، التي لَزِمت الصمت الطويل، وما أن أفقت، حتى نهقت نهيقا أفزع الجميع، أخذت أرفس بأرجلي الأربعة أي شيء أمامي، حطمت السياج الذي وضعت فيه عنوة، كان صاحبي قد قفز جريا نحوي، محاولا تهدئتي، قائلا: اهدأ إنك مرهق تعب، فقط اقضي ليلتك هذه وأعدك سنخرج معا في الصباح، للبحث عن أهلك، صدق ذلك، قلت في نفسي، كيف أصدق!! أنك ستفي بوعدك، وبالأمس القريب، تركتني وحيدا عرضة للهلاك، لا وفاء للإنسان، مادام ذلك يتعارض مع مصلحته الشخصية، قد خبرت ذلك عن الكثير من الحمير، فقد قالوا لي، لكني كذبت مزاعمهم تلك، أتضح إنها الحقيقة، فالوفاء من شيم الحيوان، لا الإنسان، سحقا لكم يا ذوي الوجوه المتعددة، والمتلونة، لكني سأصبر حتى الصباح، فما باليد من حيلة، كما أني لا زلت أحس نفسي مرهقا، لذا سكنت وهجعت، للركن الذي كانت صاحبتي وأبني يقبعان فيه، انبلج الصباح، نهقت بقوة، حتى جاء صاحبي، هَمَ بي إلى الخارج، وصلنا إلى خارج المدينة، استوقفه أحد الأشخاص، طالبا حمل بعض بضاعته إلى مسافة ليست ببعيدة، تطلع صاحبي نحوي معتذرا، فعليه التزامات أيضا، وافق على تلك الأجرة، وفي أثناء الطريق قال الراكب: لقد سمعت بالأمس قصة عجيبة، قالوا: كان هناك وعلى الطريق العام، أنثى حمار ميتة، وبقربها جحش صغير، كان هذا الحيوان المسكين قد صدمته ناقلة كبيرة، بعدما دفعت بصغيرها بعيدا، فتلقت الضربة، ماتت في ساعتها، توقف الحمار فجأة بعد أن سمع القصة، حرك صاحبه الحبل محاولا حثه للسير، لكنه وقف وقفة حمار عنيد، لاحظ الراكب ذلك فقال:
 ما بال حمارك هذا! ولم توقف؟

فقال صاحب الحمار:
 لا عليك أكمل القصة.

كانت قد شدته هو أيضا، فأكمل قائلا.. الغريب ليس هذا، الغريب أن من روى لي القصة كان مسافرا ساعة وقوع الحادث، وحين عاد من سفره بعد ثلاثة أيام وجد الجحش الصغير ممدا ميتا بجانبها، يبدو إنها أمه، يا لوفاء الأم بحرصها على ولدها والدفاع عنه، ويا لوفاء الجحش بعدم تركه أمه التي فارقت الحياة، حتى مات بقربها، جن جنون الحمار حين سمع تلك القصة، رفض برجليه العربة، وطفق يجري في غير وعي، جن جنونه أخذ ينهق بشدة وبحرقة، انقلبت العربة بما فيها جرها بصعوبة، أدمت ظهره ولحق الألم بكل جسده، كأنه أراد تذوق معاناة ما حدث لزوجته وجحشه، هرب بعيدا دون أن يفكر إلى أين يقوده الهرب، والى أين يقوده المصير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى