الجمعة ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
الصورة الشعرية وجدلها الداخلي

في قصيدة «إبحار في هوامش الحلم»

عبد الغني فوزي

مدخل:

تعتبر الصورة الفنية من المفاهيم النقدية التي أولتها الدراسات أهمية بالغة، كون القصيدة تنهض على التصوير الفني كشرطية إبداعية ؛ تحقق للنص شعريته. وبالتالي لغته الإيحائية التي تعدد الدلالة والصياغة اللغوية. مع التأكيد أن «للشعر الجديد أشكاله الخاصة؟، فللقصيدة الجديدة كيفيتها الخاصة، وطريقتها التعبيرية الخاصة، ولها بمعنى آخر نظامها الخاص» 1. وغير خاف، أن الصورة وبالأخص منها الشعرية تنهض في بنائها على تقنيات بلاغية قديمة وحديثة (تشبيه، مجاز، استعارة، خرق...) ؛ وعلى مكونات أساسية في التشكيل كالفاعلية النفسية والخيالية..هنا تبدو الصورة كتركيب من المكونات ـ عبر لغة كثيفة ـ في سعي دائم إلى ردم الهوة بين المعطيات، ضمن عالم تخييلي يشترط السياق وشعرية المواقع التواصلية.

أستحضر هذا المفهوم، لأتناول من خلاله الصورة في قصيدة الشاعر مصطفى الجزار المعنونة ب «إبحار في هوامش الحلم» ، الصورة كتشكيل وفاعيات. وطبعا لا يتحقق ذلك اعتباطا ؛ بل من خلال شرط ذاتي وريؤي ما.

ـ ملمح الصورة الشعرية في القصيدة:

تنطرح قصيدة «إبحار في هوامش الحلم» كصور معدودة، تبعا للموضوعات والمقاطع التي تمتد لهيكلة الصور وتقطيعها. وعليه، ففي المقطع الأول يمكن عنونة الصورة بسطوة الآخر على عالم الشاعر اللصيق بمكان وزمنية خاصة. تقول القصيدة:

نزع البريق
من أفواه الأزقة المتعبة
سار يهذي خلف ظلي
ويرسم دوائر مجدولة بدمي
كاهن يعظ وجه النهار
ويلملم في صدره
أرصفة ليلي

المتكلم من خلال تقنية الاستعارة، يصف «الكاهن» بصفات تحوله من مألوفيته إلى متعدد في الدلالة والإيحاء. فامتد بذلك إلى الكثير من الوجوه التي تسلب شرارات الأفق المضمخ بالتعب والبحث المستمر عن عالم بديل. هنا يمكن تلمس التوليفة ـ من الذات والآخر ـ التي تكون معها الصورة شبكة من الأبنية الداخلية، بعضها يتعلق بما هو نفسي والآخر بالمتخيل ؛ كون الأنا المتكلمة في النص تعبر عن خبايا ومجردات ـ في التمثل والإحساس ـ ببعض اللوازم اليومية والواقعية التي تم تشخيصها وتجسيدها من قبيل: أفواه الأزقة المتعبة، أرصفة ليلي، دوائر مجدولة بدمي... طبعا، يحتاج هذا من الشاعر ـ عبر ذاته المنطرحة في الكتابة ـ إلى طاقة تخييلية تتحرك ضمن سياق شعري يحفظ للنص وحدة لحمته وامتداده الطبيعي. وبقدر ما أن للصورة جدلها الداخلي، فإنها تسعى لتقديم أفكار هي عصارة تجارب ومواقف؛ بل ومقروء ومشاهدات..أقول تقديم أفكار عبر إيحاء الصورة، للتأثير في المتلقي والتقاطع معه في ما هو وجداني وخيالي، ضمن واقع وثقافة ما. لتغدو الرسالة الشعرية في شكلها التصويري كمشترك إنساني، يقتضي معايشة جماعية تحرك الوجدان، وتوسع من إمكانية الخيال في المعايشة والتمثل.

نقر هنا، في سياق تعاملنا مع النص المطروح لهذه المقاربة، أن المقطع الأول يقدم لنا صورة واحدة مركبة، تتعدد مكوناتها، في علاقة الشد والجذب بين الذات والكاهن. فتتعدد الصفات في توالد درامي مركز حول الذات. الشيء الذي يجعل هذه الأنا تصر في مواجهتها السيزيفية على مواصلة المشوار، ضمن التكالب الآتي من الآخر في صوره العديدة. يقول النص:

وأنا أقاتل الصمت حتى يرحل
من الشقوق المتكاسلة
عاريا أسبح في سراب موشى
بقاعات خاوية
وحدي أقاوم الألسن الملقاة
على هوامش دفاتري الصاخبة

إن الصفات التي تتقمصها الذات غير عادية، أي أنها تمر كما يقر عز الدين إسماعيل في كتابه «الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» بإحساس رهيف ولغة شعرية خاصة ورؤيا...أي خلفية المبدع والشاعر في الكتابة. فتتجسد تلك الصفات عبر لغة إيحائية، تنبني أساسا على توترات تركيبية وتواصلية مع اللغة المألوفة، ومع الأنساق الثقافية والتواصلية. فالذات تقاتل الصمت على طريقتها الفردية ؛ فتبدو كأنها في مواجهة مع الآخر في صوره العديدة التي تحد من حرية الإنطلاقة، والتمدد في عالم خال من الإكراهات والقيود , الإكراهات التي يجسدها الشاعر في تلك الجوقة ذات معزوفة الخضوع والطاعة للفرعون ؛ في إشارة لكل طاغية لا يلتفت على الرغم من مياه الجسر التي تجري. واضح هنا ، أن العودة للذات ومركزتها، إذا لم تغذ نقديا ومعرفيا وإبداعيا ، تكون هذه الذات عالة على صاحبها، وعلى نصها ككتلة من المشاعر الغافلة دون رصد ولا حوار .تقول القصيدة نفسها:

الجوقة تعزف ذات ركوع
في خلفية مشهد ملون
بتقديس الفرعون الممدد

ـ الصورة الشعرية وجدلها الداخلي:

غير خاف، أن القصيدة المعاصرة على انعطافاتها، تنهض على الصورة بشكل أساس. وقد يتميز شاعر عن آخر، في كيفية التوظيف والتصوير الفني. في هذا السياق، فالصورة في شعرنا العربي المعاصر غدت متشعبة الداخل كتقنيات وفاعليات. كما أن الوحدة العضوية جعلت بعض القصائد تتحول إلى صور واحدة شاملة . تقول الناقدة بشرى موسى صالح: " للصورة الحديثة دورها المتميز الذي لايستهان به في البناء العضوي للقصيدة، علاوة على قيمتها وقدرتها على الكشف وإشاعة التجانس والتلاؤم في القصيدة كلها "2. وهي نفس الفكرة التي أوجهها في اتجاه هذه القصيدة، إنها صورة تولد وتتوالد في تصعيد درامي يمنح للصورة غنائيتها المتشظية ، في تبادل للأدوار والمواقع ؛أو ما يسميه إليوت بالمعادل الموضوعي.

في صميم قصيدة مرتعشة، تسند جوانب الداخل، يعمق الشاعر مصطفى الجزار نصه دون غموض أعمى أو تأليف بارد خال من الأعصاب الشعرية، نص متشابك العلاقات، من ذلك العلاقة بالمكان. فيغدو هذا الأخير منطلقا من خلال ثأثيث جديد، ينبني على نظام خاص. تقول القصيدة:

تقول غيمة يعانقها الليل
أن المطر يسكن عندنا
وقد رأيناه اليوم مكتئبا
بضع قطرات فررن من البيت
وذهبن الى السوق المتهاوية

وعليه، يمكن تصنيف النص في حقوله الدلالية إلى خانتين كبيرتين ؛ الأول يتعلق بالذات وما يرتبط بها، والثاني بالآخر في صوره السالبة. فالذات تمثل لقيم الرفض والتطلع لأفق بديل من خلال معادلات كالغيمة ـ المطرـ البريق... وقد تتحول هذه الكلمات الى رموز في سياق القصيدة. والآخريتحدد في الليل والذئب والفرعون..الشيء لذي خلق تعارضات متوازية، موجهة بحس رؤيوي، ينهض على تعدد في المقروء، وبالأخص في الشعر العربي والتاريخ والانفتاح الحارق على اليومي. لذا نرى النص أحيانا يميل إلى حد الانحدار، إلى بعض المفارقات اليومية، دون أن يفقد النص شعريته ؛ نظرا لتمرس الشاعر وتغنيه ـ بألم ـ بمأساة الأمة العربية. وأظن أن هذه الإشارات الواقعية في النص ( كيف تحلم بخبزي؟ـ كابوس ـ يمطرك بلهبي... خلق للصورة شحنتها الساعية إلى تبليغ المأساة الفردية والجماعية عبر استعارات وإنزياحات تتولد عن قرب، وبسلاسة أحيانا دون تكلف أو غموض يغلق الصورة ويشرنقها أمام المتلقي. يقول فيكتور هيجو في مقدمة أحد دواوينه: " إن الشاعر يجب أن يكتب بروحه وقلبه..." .وقد نعزز هذا الكلام بقولة عميقة للناقد العربي عز الدين إسماعيل :" إن الشعر الجديد لم يلغ الوزن ولا القافية لكنه أباح لنفسه أن يدخل تعديلا جوهريا عليهما لكي يحقق بهما الشاعر نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه.."3

على سبيل الختم:

ثمة على الساحة الشعرية العربية الآن أصوات جميلة وعميقة، تنسج فرادتها ومشروعها الشعري، خارج العموميات التي تجنح إلى تصنيف الشعراء إلى ملل ؛ اعتمادا على إجراءات لا تمعن النظر في النصوص والآفاق الإبداعية. وبإمكان المقاربات المجهرية التي تنطلق من النص الواحد ؛ أن تجابه شعرية النصوص دون عموميات أو استلاب نظري يخدم أصول النظرية، ويجعل النص كتعلة لبناء استراتيجيات نقدية. وإذا حصل، يمكن أن نخلص إلى الإقرار بأن الكثير من القصائد العربية هنا.. هناك تتغذى على طاقة خلاقة ،تسبح في الألم الإنساني بأشكاله وألوانه. وبالتالي، تبدو المحاورات الشعرية واللحظات المشهدية حاضرة بقوة في التخييل الذاتي ـ الشعري الذي يعتمد الصورة، ليس كوسيلة إبلاغية فقط ؛بل كنفس في كينونة القصيدة. ف " الشعر المؤهل أكثر، لتحقيق التواصل الإنساني هو الشعر الذي يراهن على البساطة والتجربة وثراء الصورة الشعرية " 4. وهو ما سعينا إلى إبرازه بحذر،حتى لا نكسر بلور القصيدة.

ـ هوامش:

ـ مصطفى الجزار، قصيدة " إبحار في هوامش الحلم "، ديوان العرب، دجنبر
2011

1 ـ أدونيس، " زمن الشعر "، دار العودة ـ بيروت 1978، ص 9

2 ـ بشرى موسى صالح، " الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث "، المركز الثقافي العربي 1994، ص 145

3 ـ عز الدين إسماعيل " الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية "، دار العودة، بيروت 1981، ص 65

4 ـ حسن نجمي، " الشاعر والتجربة "، دار الثقافة ـ الدار البيضاء، 1994، ص 19

عبد الغني فوزي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى