الأحد ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١

وقفة مع المسرحية الوطنية «ذلك الشهيد أبي»

سمير مجيد البياتي

احتضن المركز الثقافي فرقة المسرح الحر التي قدّمت مسرحية (ذلك الشهيد أبي) وهي مسرحية متميزة عبرت عن الوضع الراهن الذي يعيشه اليمن الحبيب، في هذه الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد، في ظل الأزمات والتهديدات الخارجية لطمس حضارته العريقة وإدخاله في صراعات ونزاعات سياسية، تتسبب في تهديم البُنية التحتية التي بناها وحرص عليها الإنسان اليمني المحب لوطنه وحضارته، وهو صاحب الحكمة والعقل الراجح، ولكنه يتعرض لعناصر دخيلة على ثقافته وهدوئه تحاول تهديم كل ما هو جميل وأصيل، فذلك اليمن الشامخ برجاله ومفكريه، وبمدينته الساكنة الهادئة، تدخل الوطاويط المشبوهة لزعزعة أركان استقراره واستقرار حياة مدينته وأمنها، وتبثّ روح الرعب وزرع الخوف، وتبقى رموز الشباب والآباء والأمهات المخلصين بوعيهم الصادق تنهض لمواجهة تلك الهجمات الشرسة. لقد استمتعنا مع جمهور الحضور بفكرة المسرحية التي كتبها الأديب والشاعر، والمسرحي د. إبراهيم أبو طالب بلغة شعرية عالية البناء حيثُ كانت مفرداتها ومعانيها تصلنا عبر الممثلين المبدعين، وهم يتحركون كالنسمات التي تحرك مشاعرنا فتدخل قلوبنا، فبعضها يفرحنا ويضحكنا، وبعض الحوارات تدهشنا بتعبيرات شخصياتها المتقنة فتبكينا، نعم لقد أبكتنا وبحرقة المتألم، فكم كان الشاعر المبدع أبو طالب قريبا من الحدث، وقريبا إلينا في لغته الحساسة الصادقة العبارة لقد (دخل إلى الجرح وغاص فيه، وأخرج الدمع من المقل) إنه الشاعر والمسرحي والناقد المتمكن، وهو واحد من أهم الأدباء والنقاد الشباب الذين يتميزون بحضورهم الثقافي والأكاديمي في المشهد النقدي السردي والإبداعي اليمني المعاصر، ونصه المسرحي هذا بأحداثه وحواراته بدا غايةً في الوطنية ، والولاء لليمن الحبيب الذي هو غاية كلّ أديب صادق متفاعل مع قضاياه، وشاعرنا برهن عن ذلك بمسرحيته المتماسكة المتناغمة بنصها أولاً، ثم بإخراجها ثانياً الذي سيطر فيه المخرج الكبير والمبدع الجميل/ الأستاذ جميل محفوظ على خشبة مسرحه، وقد أجاد في تحريك شخوصه والانتقال بهم من زاوية إلى أخرى من زوايا المسرح وفضائه، وبذلك قدّم لوحات يومية معاشة كما نراها في الشارع والحياة، وكان لكل شخص دوره بالحوار والمحادثة بعضهم مع بعض والسير والوقوف هنا وهناك، فأجادوا في رسم الحركة وتمثيلها، مع استخدام المؤثرات الصوتية المناسبة، وكذا أصوات إطلاق الرصاص فتمكن من إدخال الرعب والخوف، والتأثير على المشاهدين من خلال الإنارة للمسرح بشكل عام على أركان المسرح أو الإنارة الفردية في عدد من المشاهد، ومن ضمن الرؤية الإخراجية الملفتة للتقدير تلك التفاعلية بين الممثلين والجمهور حيث كسروا الحاجز بين الخشبة والجمهور فجاءت بعض حواراتهم وحركتهم بين صفوف الجمهور متميزة وجديدة على الإخراج التقليدي، وعلى الرغم من روحه التجديدية في أسلوب إخراجه إلا أن هناك بعض الملاحظات التي كنت أتمنى أن يتم التركيز عليها، ولعلّ أبرزها من وجهة نظر مشاهد مهتم هي أنه عند عرض مشهد المارة في الشارع وحركاتهم العفوية والمتقنة في بداية أحداث المسرحية وهي حركات مدروسة مترابطة بحوارات داخلية يقوم بها كل ممثل على حدة وقد استغل المخرج مساحة المسرح كاملة، وإنه بذلك قدم لوحة سينمائية جميلة، كنا نودّ أن تطول لنتأمل تفاصيلها، ولكنها انقطعت بدخول حوار مهم لثلاث شخصيات هي (الأب، والابن، والأم) جاءت في وسط هذا الزخم – المشهد الحركي- الذي ربما غطّى على أهمية الحوار واستيعابنا الكامل له، لأن (العقل لا يجمع كلّ الصور) في نظرة سريعة، فكان من الأفضل أن ينفضوا – مثلاً- أو يهموا بالخروج من منافذ الديكور وجنبات المسرح، لكي يتسنى التركيز على الشخصيات الثلاث بحوارها المهم الذي سيترتب عليه فهم النص المسرحي ومتابعة الخيط السردي فيه، ولعل ذلك قد أحدث شيئا من التشتيت أو الإرباك، فمتابعة المشاهدين لحركات المجاميع التمثيلية جعلتنا لا نركز على الحوار، تلك هي الملاحظة الأولى والملاحظة الأخرى: أن مشهد الاستشهاد للأب والابن لم يعط حقه فقد كان أسرع مما ينبغي حيث انقضى سريعاً فلم يؤثر بنا كثيرا.

وعلى الجملة فقد كان أداء الممثلين جيدا جدا كلٌّ بحسب دوره، ولكن برزت شخصيات بقوة وبتفاعل كبير فكان أداؤها قمة في الروعة والإتقان والتأثير، ونذكر منهم الفنان/ عصام القديمي (في دور الأب /الشهيد) فقد تفوق بأداء الشخصية وتمثيلها وأثبت وجوده ونجوميته كفنان، حيث جسّد شخصية الأب الحنون والجندي الغيور الذي يدافع عن وطنه ويحبّه ويستشهد دفاعا عن ثوابته واستقراره، أما الفنان/ إبراهيم الزبلي (دور الابن) فقد استخدم تعابير وجهه في اكساء طابع الانفعال على ملامح الشاب الذي يحب أن يرى وطنه يزدهر ولا يتعرض للمحن، أما الفنانة/ مروة خالد (دور الأم) فقد أبدعت بأدائها، وقد سيطرت علينا بحواراتها المؤثرة والحنونة، وقد برعت في مشهد توديع زوجها الشهيد مع الطفلين: (سام ناجي، و واريني توقير خان).

أما الفنان/ عبد العزيز البعداني (دور مواطن) فعلى الرغم من أن مشهده كان صغيرا ولكنه كبير ومؤثر، وذلك باستخدام النظرة والتأمل وكان حواره عميقاً يعالج جوهر القضية، وينمّ عن قدرة فنان عارف ماذا يقدم؟. أما الصوت الجهوري الذي عبّر عن كلّ الأسى والحزن والألم الذي يعيشه الوطن فقد برز في دور الفنان/ عبده منصور (دور مواطن) وقد وصّل رسالة كبيرة من خلال أدائه المتقن، ويأتي دور الفنان المتألق/ أحمد المعمري (دور مواطن أيضاً) مجسدا الشخصية المحبة لمدينتها العريقة بتاريخها وتراثها وجوها وقد أحسن أداءً، وقد توّجتْ الدور المؤثر الفنانة/ أمل إسماعيل التي أظهرت براعة معهودة في الأداء لما تمتاز به من خبرة وصدق فني وهي تبحث بلهفة عن ابنتها الجميلة الوديعة الحنونة فتفتش عنها في كل الوجوه ولدى المارة معددة مناقبها ولا يخفى الرمز في بحثها عن ما نفقده في الصراع الدائر من الأخوة والمدينة والضمير الوطني، فكانت كلماتها تدخل إلى القلوب فأبكت كل الحضور، لأن تفاعلها مع الحدث كان كبيرا جدا ومتماسكا، إنها لا تقول جملا أو عبارات عادية، ولكنها كانت تصرخ في ذواتنا من داخلنا يأتي صدى كلماتها إنها فنانة بحق تجيد الدور وتؤديه بإبهار، فجمل الدكتور إبراهيم أبو طالب الشعرية أبكتنا ولكن بصوتها هزتنا من الأعماق، وكان المخرج جميل محفوظ موفقاً في تحريك هذه المبدعة.

مسرحية (ذلك الشهيد أبي) عملٌ جدير بالمشاهدة وبالعرض مراراً لأنه يحمل رسالة وطنية كبيرة في توعية الشباب والناس جميعا، إنه عملٌ جماعي، وهناك فنانون خلف الكواليس كان لهم فضل في نجاحه نزجي لهم التقدير والاحترام في رسم الحركات التعبيرية والمؤثرات الصوتية والموسيقى والديكور والإضاءة والسنوغرافيا وتجهيز الخدمات والإدارة المسرحية وغيرها.

الجدير بالذكر أن المسرحية قد لاقت صدى واسعا عند من شاهدها – في عرضها الأول- ، وقد أقيمتْ حلقة نقاش في نادي القصة –إلمقه شارك فيها عدد من الأدباء منهم القاص والروائي محمد الغربي عمران، وكاتب هذه الورقة، والقاص زيد الفقيه، والقاصة نجاة باحكيم، مدير عام مكتب الثقافة بأمانة العاصمة، والقاصة بلقيس الكبسي، والباحث محمد محسن الحوثي، في حضور المؤلف، ورئيس فرقة المسرح الحر الفنان/ خالد مشوار، وبعض الفنانين، وعدد من الأدباء والمثقفين، مؤكدين على أهمية مثل هذه الأعمال الفنية الراقية نصاً وإخراجا وأداءً.

سمير مجيد البياتي

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى