الاثنين ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١

قراءة وتأويل لقصيدة «متادور»

رياض عبد الواحد

النص

  1. البحر... مثل الريح
  2. البحر... لا يستريح
  3. البحر في الساحة قرن من القصدير
  4. ثور جريح
  5. البحر جرح يصيح
  6. مرتجف الأعضاء... كالأغصان
  7. البحر ظل شاحب اللون
  8. البحر... ها قد أطبقت أجفان
  9. البحر... غير الآن... لا يستريح
    تعتمد قصيدة (متادور) على بنيتين أساسيتين هما: (بنية التكرار التراكمي) والبنية الصوتية... وتركز القصيدة على مظهرية اللازمة المركزية / البحر / الذي يلح الشاعر بقصد إظهار امتداده السطحي والتحرك الأفقي عليه للوصول إلى هدهدة نفسية داخلية إزاء ما هو عياني منعكس على ما هو داخلي. تقع الجملة رقم (1) في دائرة دلالة الامتداد والتوسع والحجز، إذ تمنحنا مفردة / البحر / تلك الدلالة مما يؤدي إلى عملية تعطيل غير مصرح بها نصيا إضافة إلى إن دلالته الأخرى تكرس فعل القطيعة عن الآخر.أما السطر رقم (2) فلا ينفك عن مواصلة الفعل الحركي، إذ أن دلالة الريح اللها ث و التتابع والإثارة. ونلاحظ – هنا – إن الشاعر تمكن بنحو ناجح من التحكم بالتوزيع الصوتي للمفردات، ولا نغفل ما لذلك من أثر وعلاقة فنية بالدلالة، إذ أن تكرار حرف / الحاء / هو تكرار للهاث والتتابع والحركة إضافة إلى إن هذا الحرف المهموس (يتضمن عنصر المكان ذاتيا، إذ ان القوة الذاتية للحاء متعاظمة في الأعلى، حيث لا يمكن حدوث تعاظما لا في حركة ما، والحركة تتضمن المكان، وهي حركة شديد وكلية، أي إنها تنطوي بنحو غير منظور على حركات حروف أخرى تعمل في خدمتها، فكل حرف يحمل مناهضة لهذا فأن حروف كلمة البحر لها حركة فـ:

الباء انبثاق الحركة

الحاء تعاظم الحركة

الراء تكرار الحركة

فالحركة لا تصف البحر الآن ولكن عند التكوين فالبحر، لم يسم لسعته بل للحركة التي تكوّن بها (1). إذن حرف الحاء ينم عن حركة نشوء سريع تسبقها حركة حرف الباء المشرئبة من مكمنها بعيدا عن المركز الخطان المنقطعان للدلالة على الحركة ذات النشوء السريع بما يكفي لانعدام الزمن فقط، وما بين المركز والحركة ممتلىء بعنصر المكان (2). ويحاول السطر رقم (3) استبدال الخواص اللاواعية، أو منتجة كما في السطرين (4) و (5). ففي الأول واعية وفي الثاني منتجة وان كان الإنتاج مرمزا بيد انه لا يستحيل شعريا. اذن المنتجات الفرعية منتجات مخالفة / الثور الجريح + الأغصان المرتجفة + الظل الشاحب... ودلالة هذه التوصيفات دلالة مرتبطة باليأس واللاتطلع. ونلاحظ إن الفعل / لا يستريح / يشير إلى عدم توقف الدهشة لكن ذلك لا يستمر، اذ يبدأ العد التنازلي بواسطة الجمل الاسمية المرتبطة بدلالة / الصفة والموصوف /( ظل شاحب) ثم العودة للحركة ثانية بالأفعال المضارعة مما يؤدي الى تدفق الحدث وسرعة جريان الإيقاع المتحقق في ذلك. ان التشبيه الحاصل في رقم (1) يحمل في طياته اختلافا في البنية التركيبية، اذ ان البحر دالة لسانية مكانية، بينما / الريح / دالة لسانية زمانية،الا ان هناك جامعا بينهما هو التقلب غير المحسوب او المقرون بزمن معين، ولا ينفك هذا التقلب الذي تترشح من كينونته البنيتان آنفا عن إدامة زخم توسيع الصورة المرئية نصيا لا واقعيا ليصبح ديدنها المستمر متحققا في عدم الاستراحة بمعنى لا استراحة البحر. هذه الدوال المكانية الاسمية تتواشج مع زمنها المحكوم بدوال مخالفة تزحزح المكان غير المحدد بأبعاد تفصيلية غير انه معتنى به بواسطة التوصيفات الخارجية غير التقليدية. فالشاعر لم يأت بأي وصف مستهلك بل نهضت توصيفاته على صيغ تعبيرية راقية لم تقف عند مسار واحد بل انبثقت منها مجموعة من البؤر الدلالية الثانوية غير المحكومة بسمت المكان الكلي كونه مهيمنة مركزية.

وسعى النص الى توزيع ملامحه العامة بين / النصيص / وبين / المتن / لكي لا يفتقر المكان الى المحايثة الزمنية لأن فعل / الهياج / المتحقق في كينونة / البحر / مرتبط بمواجهة / المتادور / على الأرض من خلال حرف سيروة دلالة البحر. هذا التناوب الشعري لم يلغ الأفعال الجارية في فضاء البؤرة المركزية، ولم يتخل عن مترشحات / النصيص / الفعلية التي هي على طرفي نقيض من فعل / الهيجان / المتحقق في / البحر / ولو كان غير هذا لأنفض النص من بدايته وأنفرط عقده الثمين، ففعل التخييل قد مكننا من تقصي القوى الخفية العاملة على إبراز الدفق الشعري لكن من البؤرة المركزية و / النصيص /، فالنص محكوم بمؤثرين: الأول مؤثر رئيس / البحر / والثاني يحتل المكانة نفسها مكررة بيد انه غير طاف على السطح وهذا هو الإبداع الآخر للشاعر. ان المؤثر الاول يمثل زمن التحدي وهو – ايضا – القوة الدافعة باتجاه الآخر لأنه – كما أسلفنا - الفضاء الذي يتحرك به ومن خلاله الشاعر، فالتوصيف المكثف للمكان / البحر / والمعبّر عنه بلسان راو خارجي قد خلق فعلا شعريا ناميا بواسطة زمن السرد الذي يرويه الراوي. إذن انكفاء النص على نواته المركزية ليس انكفاء سلبيا إنما هو من اجل حركية فاعلة به وله، غير أنها متوزعة مرة بنحو متلاش، وأخرى بنحو هيجاني والسبب في ذلك يعود الى عدم التفريط بالخيط الرابط بين النصيص والمتن وان بدا ذلك غير واضح لفعل القراءة غير الواعي، ولما كان المكان غير مغلق على فعل يستحث فعلا تدوينيا على مستوى الحدث فأنه يتشكل عبر مواجهة زمنية آنية، ولهذا يحقق المكان فعله التشكيلي بواسطة أبعاده غير المنظورة، الثائرة بداية والمستكينة نهاية من جانب البعد الحسي والمنظوري الذي يكسب النص كثافة مشهدية وتحفيزا عيانيا لأجتلاء الصورة الكلية.

ان الملاحظ على شعرية الشاعر اقتداره المتميز وصنعته الدقيقة في تجسيد الفكرة بنحو ترميزي وتشفيري يلح ويجسد ماهو حسي ومؤثر من خلال الخصائص التشكيلية التي هي خصائص أشارية ملمحية. ويشكل الإيحاء المعبر عنه كخلاصة قيمة هامة في شعر حسين عبد اللطيف اذا ان جمله الشعرية قصيرة لكن مخرجاتها كبيرة وثرة. انه يضغط الحدث بهذا الابحاء المكتنز والخلاصة غير المقفلة، وبهذا يحقق ذلك الإيحاء مبتغاة في إنتاج عاملين واحد بلاغي وآخر أسلوبي مما يشيع مناخا" نفسيا" ووجدانيا" لا يقف عند حدود المقتربات المرسومة له حتى إننا نحس وكأننا على ظهر ثور هائج يمشي في البحر، او كأن البحر نائم على ظهر ثور. وتشبيه البحر / بجرح يصيح / كناية عن الفقدان الذي يضاهي بدلالته الصورة التي تسبقه/ البحر ثور جريح، هذه الصورة الضدية المعبر عنها مرة بجملة فعلية ومرة بجملة اسمية أضفى على الصورة حركة متجددة للبحر مرة متجددة وأخرى ساكنة. هذا التزامن له مرجعية واقعية، فالسكون ثم الحركة جزء من عملية التدافع الوجودي من الوجود الذي يكتنف كل شيء على وجه الطبيعة فتشبيه البحر بالجرح ماهو الا عملية زحزحة المألوف إلى المرمز لأنه مرتبط بالعامل النفسي الذي لايمكن ان يقر له قرار.

اذا" / البحر جرحا" يصيح / صوت لايمكن إسكاته و / البحر ثور جريح هيجان باتجاه الهمود. هذه الدلال المتعارضة وان بدت متشابه في ما يخص جرح، جريح / لا انها تقود الى معطى واحد هو الاستلام لما بعد الجرح والجريح حتى ان تسلسل الجمل جاء بنسق تنازلي، فجملة / جرح يصيح / وردت قبل جملة / ثور جريح لان الأمور متجهة صوب النهاية / الموت /. اذا" ( المتادور ) يلعب دورين، دور البحار ودور القاتل. وهو / في حقيقة الأمر / قاتل حتى في دوره الأول لكنه متخف مقنّع لا نراه مثل ما نراه في دور القاتل فيما يخص الثور الجريح من قبله اما عملية سحب البحر الى الساحة في السطر رقم (3) فهي عملية إفراغ البحر من محتواه المادي لكي يستطيع البحار / المتادور قتله في النهاية.هذا التضايف بين الهم الشخصي والهم العام محاولة لإضفاء الشرعية على هذا الهم بوساطة الزج بالاحتياطي الدلالي لتجسيد مكوّن ارضي مهم.. فالماء والإنسان وجها الحياة وما اغتيال الأول الا اغتيالا للثاني، وقتل الثاني ما هو إلا تحجيما لدور الأول. إذن ابتسامة البحر وقتله كناية عن استباحة الآخر خارج الحدود الفيزياوية للأول. هكذا يسعى الشاعر لتفجير المكان برمته لكي يبقى على حركيته ، فاعليته، صخبه ينام البحر من دونها مثلما ينام الثور الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة. اذن حركية المكان جسدت الفكرة التي أراد الشاعر ان يوصلها عبر تقنيات كثيرة منها التضاد والتمثيل والتشبيه وعنفوان الحركة وتصادم العناصر وإحلال الجزئي مكان الكلي. كل هذه التنويعات تحاول ان تضفي على حركية المكان حالة من الشد والتوتر الذي يثري النص ويحيله الى كتلة قابلة للانفجار في اية لحظة. ان هيمنتي القلق والبحث عن اليقين هما المهيمنتان الأسلوبيتان الرئيسيتان لهذا لم تفارق التوصيفان أمكنة الشاعر المغلقة بهاتين المهيمنتين. فاختيار / البحر/ في مواجهة / المتادور/ او مواجهة المتادور للبحر بصيغ وتوصيفات تبادلية مرمزة وخيالية تمت من خلال مستويين احديهما الموت والآخر مواجهة ذلك الموت على الرغم من معرفته الحسية او الشعورية.

هكذا تنساب حركية المكان أي نزوله من النسق صاعد باتجاه النسق النازل وبنحو عنقودي. هذا الانسياب ليس اعتباطيا" بل انه مقصدي يتماهى والحالة النفسية الداخلية للشاعر التي تبحث ع كون تطمئن اليه النفس بعد هذا الحراك الزمني الطويل والصاخب، حراك ألذات وأمكنتها الغير مستقرة. يستعير الشاعر شخصية المتأدور المغايرة ويسحبها الى زمنه ليكون المتأدور مطاوعا" نصيا" للشاعر بمعنى ان مغادرته تعادل معاناة الشاعر المتلاطمة مثل أمواج البحر، لذلك فرمز / المتأدور المغامر / الباحث عن الشهرة الكاشف عن حقيقة الأشياء يحمل بعدين: الأول يرصد علاقة الشاعر بفعل المغامرة غير المحسوبة لأنها تحمل في كينونتها قصدية الموت والثاني علاقة البحر في الثور وبالمتادور. العلاقة الأولى علاقة ايجابية لأنها جزء من النزعة الذاتية المتأصلة بالاثنين معا" والعلاقة الثانية علاقة سلبية من حيث المخرجات النهائية، اذ ان الثور البحر مثخنان بما يدفع الى نهايتهما المحتومة. البحر مسحوب الى الساحة من دون مادته الأساسية / الماء /، لذلك جاء الوصف مرتجف الأعضاء لان الماء هو الجلد الخارجي الذي يغطيه ويعطيه الدفء والثور مثخن الجراح ان النص وان بدا بعيدا" عن إدخال الشاعر في المعادلة او حتى المتادور الا ان وجودهما مدل عليه بنحو مقنّع تقنعا" خفيفا" او مشار اليه إشارة اخفائية في سياق الهمود الحاصل في السطور (7و8و9) والتي تشير الى انكفاء فعل الامتداد والتحدي والهيجان لان الأمر وصل الى غايته بدليل القرينة المتولدة من شحوب الظل المجسد للبحر فما هو / شاحب اللون دليل الهدوء وهدوء البحر موته من الناحية الدلالية لا الفيزياوية. ان هدوء البحر او شحوبه مسألة مهمة لأنها تتعلق بشخصية الشاعر ذاتها / المغامرالذي هدأ بعد حين من الزمن زمن اللحظة الحرجة نهاية العمر.

فالفائض الدلالي ركز على الأطر اللغزية الخاصة بلعبة الانزياحات الشعرية التي تولدت نتيجة التراكمات الكمية والتوالدات الصورية المشبعة للدلالات في ضوء التحول مما هو واقعي الى ماهو رمزي / مشفر. فالصور جميعا" تدور حول ( البحر، المتادور، الشاعر ) لكننها تأخذ لقطات مشفرة تبتعد عن ان تكون مغمورة او مطمورة بفعل المفردة ومعناها حتى لا تستقر عند مدلول بعينه وبهذا تخرج من معطف المحسوس الواقعي الى فضاء ماهو تجريدي او تخرج مما هو تجريدي لتدخل في دائرة ما هو واقعي، فالبحر هو الطغيان والقهر الاستلاب الا ان ما يقابل ذلك مجازا" إنما هو العطاء والحياة والأمن. ان الانزياحات التي تتحقق في ضوء معطياتها الدلالية تبقى انزياحات محسوبة بعناية فائقة لتعبر عن حيوية المشهد المرسوم، فالتوصيفات الملحقة بالبحر ذات منتوجات دلالية معاكسة كما أوضحنا. هذه المعاكسة حققت تحولا" في ما هو ظاهراتي الى ماهو غير موجود في اصل الموصوف / البحر.

فالبحر كان يمكن ان يوصف / صوتا" راعدا" او / أسدا" جريحا" الا ان استعمال ( قرن من القصدير) هو من باب تفعيل المحاور الابدالية وإشاعة الاستثنائي. فوصف البحر بالثور الجريح زاد من بلورة اقترابه من فعل المتادور وبذلك حصل انسجام مع مخرجات النصيص هذه الاستبدالية إجراء قصدي اذ ان للصفة / قصدير / مغزى حمل بعدين اولهما المتانة والنصاعة والقوة، وهو مغزى شكلي يقترب من قرن الثور والمغزى الثاني يوحي بسمة ظاهرة هي الضراوة والغلظة المفترضة في عملية مواجهة المتادور لكن هذا الانزياح يكف عن عمله حيت يبدأ الجرح واضحا" على البحر الذي يبدو شاحبا".هذا الصوت هو المرادف لعملية فقدان دم كثير يؤدي حتما" الى موت محتم وهذا ما تحقق فعلا" في السطر الثامن الذي يتعانق مع سابقه ليزودنا بمعطى دلالي مشترك يؤول الى نتيجة واحدة هي / الموت. ان الفكرة المركزية التي يعالجها فعل السرد تتبؤر في السطر التاسع الذي يعود بنا الى ماهو عقلي فالأشياء في فكرتها الميتافيزيقية ابنة زمنها (وليس للزمن من واقع الا في اللحظة، فاللحظة هي الوحدة في قيمتها الميتافيزيقية الخالصة) 3. لذلك لخص الشاعر هذه الحقيقة في السطر الأخير.

فالبحر ابة لحظته / زمنه، والمتادور في فعله ابن لحظته وما يقاومه ايضا" ابن لحظته. هكذا يلخص الشاعر فلسفته او يفلسف مواقفه عبر اللحظة / الخلاقة، ويجعلنا نردد مع (روبنال) (ان الفكرة التي نملكها عن الحاضر الآن هي من القوة ومن البداهة الايجابية ما يجعهله فريدة. ان بين الإحساس بالحاضر الإحساس بالحياة تطابق مطلق) لقد حققت هذه القصيدة تضايفا" مهما" بين ما هو حسي / ملموس وما هو تجريدي وتجسدت لنا براعة الشاعر في تحقيق الموازنة بين ماهو تعبيري وما هو تأثيري من خلال الفضاءات الدلالية العميقة والانزياحات الأسلوبية الراقية عبر صياغات بنائية رصينة مدركة بل ومستوعبة أسرار اللعبة الشعرية

الإحالات:

1-اللغة الموحدة ج1 / عالم سبيط / مكتبة بلوتو م بغداد / 1999 / ص 129

2- المصدر نفسه ص 126

حدس اللحظة / غاستون باشلار / تعريب رضا عزوز / دار الشؤون الثقافية / 1986 / ص 20 -3

رياض عبد الواحد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى