الثلاثاء ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم فيصل سليم التلاوي

النعاس يغشى المدينة

واصل إبراهيم رصده لهذه الظاهرة الجديدة، التي بدأت تنتشر بين طلابه في الأيام والأسابيع الأخيرة، وعدّها ظاهرة مَرَضيّة تستحق المتابعة والدراسة، فقد صار عدد الغائبين يزداد يوما بعد يوم دون علة ظاهرة، وإنهم ليتذرعون بأعذارٍ واهيةٍ مختلقة. أما من حضر من الطلاب فإن غالبيتهم صارت تدمن فرك عيونها الذابلة، وتتابع مطّ أفواهها بتثاؤب يتخلله أحيانا أصوات منكرة، وكأنها لم تنم قط ليلة أمس.

تعجب إبراهيم للمشهد الجديد، الذي صار يتكرر في كل صف من صفوف المرحلة الثانوية، ولا يقتصر على صف منها دون آخر، فيعيقه ذلك عن إتمام دروسه وإكمال منهجه. إذ لا سميع بين طلابه ولا مجيب. وجلهم بين نائم أو متثائب آيلٍ إلى النوم ، فكأنه يشرح لنفسه. وحار في تفسير هذه الظاهرة:

 أية داهية دهتهم بصورة جماعية؟ وألقت بهذا الخدر والنوم الثقيل على أبدانهم؟

قررإبراهيم أن يوسع دائرة اهتمامه بهذه الظاهرة، أن يلاحظ عن بُعدٍ حركة هذه الصفوف في صحوها ونومها في حصص غيره من المدرسين. لقد داخله الشك في نفسه:

 أيكون العيب فيَّ أنا؟ في نبرات صوتي الهادئة، وأسلوبي المنظم إلى حد الرتابة، التي تجلب لهم النوم.

 لكنني أدرس بهذا الأسلوب منذ سنين، وما شاهدت نوما جماعيا ولا تثاؤبا بالجملة إلا هذه الأيام.
صار يمر في حصص فراغه أمام الفصول المشرعة الأبواب، فيلقي نظرة عابرة، ويفتح الموصد منها أحيانا على حين غرة، متذرعاً بالحاجة إلى كتاب منهجي أو قلم أحمر أو غير ذلك، وهال إبراهيم ما رآه. إن ما يحدث في حصصه ما هو إلا غيض من فيض ما شاهده في حصص غيره. إنهم يغطون في نوم جماعي. المدرس أمامهم باسط ذراعيه، ملقٍ برأسه على الطاولة، والطلبة نيام إلا قلة منهم على مفترق اليقظة والنوم، يتغامزون ويتلامزون.

لم يكن الحال مقتصرا على صف دون آخر، بل شمل جميع الصفوف العليا.

فقد إبراهيم صوابه، ولم يهده تفكيره إلا إلى مدير المدرسة يبثه شكواه، ويطلعه على هذه الظاهرة المستجدة، لعله يجد عنده حلا لهذه المعضلة التي استفحل خطرها.

قرع باب الإدارة الموصد فما أجابه مجيب. تجرأ وفتح الباب فما وجد أحدا، أعاد غلقه مثلما كان، وسأل مدرسا وثانيا وثالثا عن المدير، فما سمع سوى إجابات مقتضبة ساخرة متهربة، توحي بأنها تعرف أمراً وتقصد إخفاءه.

 على الله.

 راح مشوار ويرجع.

 عنده شغل في الإدارة، يعود وقت الصلاة.

هذه الإجابات المتهكمة جعلت إبراهيم يفيق من غفلته ويتساءل:

 كيف لم أنتبه لذلك؟ منذ أسابيع ما شاهدت المدير إلا عن بُعد لدقائق معدودة عند طابور الصباح، ثم كأنما تنشق الأرض وتبتلعه، فلا يبين إلا عند صلاة الظهر، يسبقه صوته زاجرًا الطلاب، حاثًا إياهم على إسباغ الوضوء، والخشوع في صلاتهم. فإذا قضيت الصلاة لبس طاقية الإخفاء من جديد.

مع من سيثير موضوع النوم إذًا؟ كلما حدّث مدرسا استمع له لحظات ثم تشاغل عنه بأمر آخر، وأعرض عنه ولم يشف غليله.

في اليوم التالي غادر المدرسة مبكرا بعد انتهاء حصصه، لمراجعة بعض شؤونه في مديرية التعليم, إذ لم يجد من يستأذن منه.

وصل مديرية التعليم، طرق بابًا إثر بابٍ، فما وجد موظفا على مكتب، ولا مراجعًا أمام شباك، كأن الإدارة قد خلت من موظفيها.

صعد للطابق الرابع ، إلى القاعة التي يعهدها تزدحم بمكاتب أكثر من عشرة موظفين، وتغص دائما بالمراجعين، فما وجد غير موظف واحد منكفىء على وجهه فوق مكتبه، يغط في نوم عميق. انسحب إبراهيم على رؤوس أصابعه متراجعا، حتى لا يوقظ النائم الكريم، إذ كيف سيبثه شكواه لو أيقظه ، أم أنه سيقول له:

 (جئناك يا عبد المعين تعيننا، إذا أنت يا عبد المعين في حاجة لمن يعينك)

استغل فرصة عدم انتهاء الدوام الرسمي، لقضاء بعض أموره العالقة في الدوائر الرسمية. فهيهات أن تتاح له فرصة الانفكاك لسويعات في يوم دوام رسمي.

عرّج على البلدية لتوقيع بعض المعاملات، فتكرر أمام ناظريه المشهد المفزع الذي خبره قبل لحظات في مديرية التعليم. المكاتب خاوية من موظفيها، وإذا ندر وعثر على موظف قد تخلف عن غيره من الفتيان الذاهبين، وجده وقد ضرب النوم على عينيه. فاستحالت المرارة في فم إبراهيم إلى سخرية - وشر البلية ما يضحك- فينطلق لسانه مخاطبا الموظف الوحيد المنكفىء فوق مكتبه، وهو موقن أنه لن يسمعه:

 ماذا بقاؤك والفتيان قد ساروا؟

يغادر إلى شركة الكهرباء، ليسدد الفاتورة المستحقة قبل أن ينتهي موعد الاستحقاق ويقطع التيار. يدلف إلى قاعة المحاسبين، فيجدها خاوية كأن لم تكن تعج بالمراجعين المصطفين في طوابيرهم في مثل هذا الوقت من النهار. وما وجد فيها حتى و لو شاهدا نائما مثل الذي وجده في الدائرتين السابقتين.

أخذت الظنون بعقل إبراهيم كل مأخذ، حتى صار يشك في نظره، ويعجز عن تأويل ما يراه:

 ما هذا النعاس الذي يغشى المدينة؟

ما اعتاد أن يرى مشهد النوم الجماعي في كل مكان في هذه البلاد إلا في نُهُرِ رمضان، حيث يسهر الناس حتى صلاة الفجر، فلا يتبقى لهم من الليل ما يهجعون فيه، ومع أنهم يؤخرون الدوام إلى الساعة التاسعة، إلا ان ذلك لا يفلح في إيقاظ عيونهم الوسنى التي تستسلم للنوم العميق، ما إن تصل مقرات أعمالها وتستقر وراء مكاتبها.

لكن أين نحن من رمضان؟ لقد انقضى منذ أشهر. فأية داهية دهتهم وأورثتهم هذا النوم الجماعي؟ وذهبت به ظنونه إلى أبعد من ذلك:

 أتراهم مرضى؟ هل أصابهم مرض النوم الذي تسببه ذبابة (تسي تسي) التي قرأ عنها في مرحلة الدراسة الإعدادية، وأن هذا المرض ينتشر في السودان وسائر إفريقيا. ولم لا؟ والمدينة ملآى بالسودانيين من المعلمين والممرضين والعمال الزراعيين. أتراهم نقلوا هذا المرض، أم صحبتهم ذبابتهم إلى هذه البلاد؟

وانهالت على مخيلة إبراهيم تأويلات غريبة شتى لهذا النعاس الذي يداهم المدينة، حتى صرفته عن نومه بدل أن تصيبه العدوى فينام مع النائمين.

أمضى ليلته تلك ساهرا لم يغمض له جفن، تتناوشه الوساوس بشأن ما قد يكون سبب هذه الطامة الكبرى، التي عمّت كل مكان، وما هداه تفكيره إلى تأويل لها، كما أن أحدا لم يفصح له عن حل لهذا اللغز المحيّر. تهادى لأذنيه صوت المؤذن مناديا لصلاة الفجر, توضأ وتوجه للمسجد لأداء الصلاة.

أذهله أن الصفوف الثلاثة أو الأربعة التي كان يألفها من المصلين، قد انحسرت إلى صف يتيم لم يكتمل .تطلع يمنة ويسرة ووراءً، باحثا عن عشرات الوجوه التي كان يألف تواجدها في صلاة الفجر، والذين كانوا كل ليلة يمدون أعناقهم بحثا عمن تأخر عن الصلاة، فإن لم تسعفهم الأعناق فبألسنتهم، كأنما هم موكلون بتسجيل الحضور والغياب. يتطاولون بقاماتهم متباهين بأبنائهم الصغار الذين ساقوهم سوقاً للصلاة، يفاخرون بهم من حضر للصلاة منفردا دون ولده.
 أين هم اليوم؟ إن إبراهيم يفتقدهم جميعا ويتساءل:

 من للحضور والغياب اليوم؟

عاد إبراهيم إلى منزله، وقد ضاق ذرعا بهذا الكابوس الذي يحاصره، وبهذا الطوفان من النعاس الذي يحاصر المدينة في كافة مرافقها، حتى في صلاتها، ولا يجد من يفسره له. عزم في غده أن لا يبقى المبصر الوحيد بين عميان كما يعتقد في نفسه، أو الأعمى الوحيد بين مبصرين كما يعتقد زملاؤه.

ألح على زميله عبد المنعم أن يفسر له ما يدور حوله، وإلا فإنه قد يرحل عن المدينة فجأة دون أن يخبر أحدا، في أي لحظة يضيق فيها صدره عن تحمل شكوكه وهواجسه.

حاول عبد المنعم ان يصرفه عن التفكير في شؤون غيره ما دامت لا تمسه بسوء:

 مالك وللناس؟ أصحوا أم ناموا؟ ألست تؤدي عملك وواجبك، وتتقاضى مرتبك كاملا غير منقوص، فما الذي يضيرك من نومهم أو يقظتهم؟

 يا رجل؟ كيف أؤدي عملي؟ كيف أعيش صاحيًا في عالم نيام ولا أتأثر؟ ستوضح لي ما استغلق عليّ فهمه بقدر ما تعلم من الأمر ، وإلا فلن أبقى بينكم يوما واحدا .

 يا سيدي ما دمت مصرًا كل هذا الإصرار فسأدلك على الخطوة الأولى فقط، وتكمل باقي الخطوات بنفسك .

 هات, دلني على خطوة ، شبر ، سنتمتر أوليّ وأنا أكمل الطريق ..

 إذن تذهب بعد عصر هذا اليوم إلى محل (الفارس) للستلايت، الواقع في وسط السوق، وتشتري لاقطا إضافيا وتصطحب معك العامل المختص ليثبته ويبرمجه لك. ولا تنس أن تؤكد عليه:

 أريد لاقطا للقناة الإخبارية العربية A.N.N، وستجد بجانبها قنوات أخرى لا يهمك أمرها كثيرا. إنها قناة إخبارية سياسية تقدم برامج تحليلية رصينة،خاصة بعد منتصف الليل. وستصرفك عما أنت فيه من انشغال بنوم الناس وصحوهم.

 أتسخر مني يا رجل؟ وما علا قة الأخبار بالنوم الجماعي الذي يغشى المدينة؟

 قلت لك جرّب هذه الخطوة الأولى، وستنفتح أمامك الأبواب الموصدة من تلقاء نفسها واحدا تلو الآخر، ولا إضافة لدي على الذي قلته لك. أنت حر، تستمع لرأيي وتنفذه أو تضرب به عرض الحائط، ولا تسألني ثانية عن الهم الذي يؤرقك.

ذهب إبراهيم من فوره بعد صلاة العصر إلى المحل المعروف، وابتاع اللاقط الموصوف، ولم ينس كلمة واحدة مما أوصاه به عبد المنعم عن المحطة الإخبارية الرصينة, وفهم العامل الباكستاني الوصفة المطلوبة. رافقه إلى سطح منزله. ثبّت له اللاقط وبرمج له القنوات كلها. قال إبراهيم مؤكدا:

 أنا يهمني أن تبرمج بوضوح قناة A.N.N.

 معلوم رفيق, كل زبون يقول هكذا أولا.

فرح أبناؤه مساء ذلك اليوم باللاقط الجديد، وتنقلوا عشرات المرات بين القنوات الألمانية والفرنسية و البولونية والتركية و A.N.N العربية الوحيدة على هذا القمر، ثم خلدوا من بعد تمتعهم إلى نوم عميق.

لكن إبراهيم لم ينس وصية صاحبه عبد المنعم، في أن الخطوة الأولى في حل اللغز الذي يحيره، ستبدأ بعد منتصف الليل على قناة A.N.N

عندما انتصف الليل باشر إبراهيم مهمته الاستطلاعية، متنقلا بين القنوات باحثا عن قناته الموعودة، التي ستحل له اللغز المحير. ضغط على جهاز التحكم مارًا عرضًا على قناة ثانية فثالثة فرابعة، وإذا به يتسمر فجأة، تحملق عيناه و يفغر فاه أمام قناة تعرض فلما إباحيًا كاملأ.

لبد إبراهيم أمام تلفازه كأنه خشبة مُسنَّدة، لاتطرف له عين، ولا يتحرك من بدنه طرف. يتابع مدققًا بعينين منهومتين، فيتأمل ما لم يتأمله بتمامه من قبل، و تستجد أمامه فنون ما خبرها في واقعه الفعلي، وهو المتزوج منذ نيف و عشرين عامًا.

واصل سهره و حملقته متتبعًا عرضًا إثرعرض، و نسي ال A.N.N وأخبارها
وتحليلاتها. فإن نهض أحد أبنائه في هدأة الليل متوجهًا للحمام، أو يريد شربة ماء، بادر سريعا إلى تغيير القناة، فإذا اطمأن لعودة المستيقظ إلى مهجعه، عاد سريعا إلى قناته، آسفا على اللقطات القليلة التي فاتته.

لبث إبراهيم على حاله متخشبا أمام تلفازه ذاهلا عما حوله. ما انتشله من ذهوله إلا صوت المؤذن مناديا لصلاة الفجر.

ما تزحزح إبراهيم من مقامه قيد أنملة، وهمس في سره:

 لينقص الصف اليتيم مصليا آخر هذا الفجر.

وظل إبراهيم على هيئته تلك حتى أدركه الصباح، وتوقف تلفازه عن عرض غير مباح. فنهض يفرك عينيه مجهدا نفسه في مغالبة النعاس، وتوجه إلى عمله ناعس الطرف، لينضم إلى جيش النُعَّس ناعسٌ جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى