الثلاثاء ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم محمد أسعد قانصو

الكهرباء مقطوعة!..

.. قبل أيام دعاني أحد الأصدقاء للسهرة عنده، ولم أجد بدّا من تلبية دعوته خوفاً على نفسي من تهمة الاعتزال، وخوفاً على صديقي من زعل قريب.

وما إن استقرّ بيّ المجلس واستفتحت بالسلام، حتى توافد على صاحبي جمع من الأصحاب، عرفت لاحقاً أنهم معتادون على السهر عنده. وما هي إلا هنيهات حتى تمزّق السكون وتبدّد الهدوء، وعلت الأصوات وتجاذب الرفاق أطراف الكلام، ونلت حظّاً من المشاركة المقتضبة، لكنني فضّلت ليلتها السكوت والاستماع أكثر، فأنا أفضل الإنصات هذه الأيام..

.. واحتدم الجدال، ودارت الأرض دورتها في تلك الغرفة الصغيرة المتواضعة، وخيّل إليّ كأني أسير في قافلة مكتوف اليدين، معصب العينين بغير وجهة، والقافلة تجول أصقاع العالم العربيّ المشغول بالثورات، الباحث عن الذات..

وتحطّ القافلة رحالها في قطر عربيّ، ويبدأ الرفاق التحليل والتنظير، وإسقاط الأحكام، ومحاكمة الشعب، ومحاسبة النظام. وتسير القافلة إلى قطر آخر، ويستأنف الساهرون التعليل والتبيّين ليخلصوا إلى آراء متابينة متماثلة، ووجهات نظر متقاربة متباعدة.

ولكم استوقفني وأعجبني هذا الوعيّ السياسيّ، وتلك الإحاطة العفويّة غير المتخصّصة لدى هؤلاء الشّبان، رغم اختلافهم وتنوّع آرائهم، و أدركت معها قدرة اللبنانيّ المثقل بالهموم والمتاعب على المتابعة والتحليل، ورغبته بإبداء الرأي، واعتبار أنّ كلّ ما يجري في هذا العالم يخصّه ويعنيه.

لكنّي شعرت بالخيبة أيضا، إذ إنَّ القافلة التي صالت وجالت في بلاد العرب لم تدخل لبنان!، ولم يعلُ صياح ساسة السهرة لشأن هذا البلد الذي يقيمون فيه، ولا أعرف السبب، وأخاف أن أعرفه حقّا!..

لكنّ حديث النفس قهريّ، ولم ينثني عن إطلاق تحليلاته هو الآخر في جمجمتي التي ضجّت صخباً سياسيا، وامتلأت دخاناً كثيفاً من نراجيل القوم المحلّلين.

وتراءى لي أنّ في لبنان من يفكّر عن الشّعب بالوكالة، ويحلّل عنه، ويقرّر له، فلماذا يتعب نفسه في جدال فضوليّ، ولماذا يعنّي النفس بما يحضّر لها في مطابخ ولاة الأمر القائمين.
وبينما يستمرّ الجدال و يتصاعد الدخان، وعيناي المسكينتان تتكلّفان توزيع نظرات الإعجاب على الخطباء الحاضرين، ورأسيّ يومىء قبولاً وتسليماً لكلّ المتحدثين، وإذ بضوء يشّع في الغرفة وينطفئ سريعا، ليطفئ معه الجدال العقيم، ويطلق بعض الألسن بالسبّ واللّعن للكهرباء وساعتها، وللمسؤولين عنها..

هذه اللمعة الخاطفة كانت أشبه بنذير للقوم الذين امتدّت بهم السهرة على ضوء شمعة، وقد انطلقوا يحلّلون وينظّرون للعالم وهم غارقون بالعتمة لولا هذه النحيلة الجميلة المضحيّة..

لقد ذكّرتنا اللمعة أننا قوم ما زلنا نستجدي كهيرباء، ونستمطر الماء، ذكّرتنا أننا في دويلات لا نحسد عليها، تحكمها المكاسب والمصالح الطائفيّة والمذهبيّة الضيقة، ويتمترس فيها اللبنانيّ خلف كتابه السماويّ ليحقد بالله على أخيه، وربما ليقتله باسم الله أيضا، متناسياً جوعه وفقره وذلّه، متجاهلاً فراغ يديه أمام باب المدرسة والمستشفى، متنكّراً لصمته القاتل أمام عينيّ طفله وهو يطالبه بأكثر من الخبز، وأبعد من حديقة الدار، ذكّرتنا أننا في بلد أولى بالتغيّير الجذريّ لأنّ إنسانه يفتقد الشعور بالكيان والوجود..

نعم ذكّرتنا أنّ الكهرباء مقطوعة وأنها سوف تبقى مقطوعة حتى إشعار آخر.. أو ينتبه الشّعب..

وحتى تجيء الكهرباء ونبصر النّور.. تصبحون على وطن!..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى