السبت ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢

صناعة الطب في الصين .. قصة نجاح وتفوق

علي بدوان

قبل خمسة أعوام كاملة، وتحديداً في اليوم التاسع عشر من يناير من العام 2007، كنت قد خضعت لعملية جراحية معقدة في مشفى (تيانجين) في جمهورية الصين الشعبية، والمسمى بالمشفى المركزي الأول، التابع لجيش الشعب الصيني.

العملية الجراحية المعقدة، كان عنوانها عملية (نقل كبد) أو عملية (زرع كبد)، وهي عملية كانت قبل عقدين من الزمن أشبه برحلة فضائية غير مأمونة إلى كوكب المريخ، أو أشبه بمغامرة علمية طبية غير مأمونة العواقب. لكنني والحمد لله، أعبر الآن نحو العام السادس منذ خضوعي لتلك العملية الجراحية المعقدة، متمتعاً بصحة جيدة، وبوضع طبيعي جداً، أكاد أنافس فيه الأصحاء ممن لم يخضعوا لعمل مماثل من نفس العمر الذي أنا فيه.

فكيف أرى الأمور الآن، ولماذا استوجبت حالتي الخضوع لتلك العملية، وما مشاهداتي للواقع الطبي في جمهورية الصين الشعبية، التي باتت تهتم بهذه القطاع أيضاً باعتباره قطاعاً منتجاً وداعماً كأي قطاع آخر، يحظى باهتمام الصين واقتصادها المتسارع في نموه...؟

في البداية، أشكر الله سبحانه وتعالى رب العالمين، الذي لولاه في نهاية المطاف لما تم لي عبور ناجح لهذا الامتحان الصعب والقاسي، ولما تم لي البقاء على قيد الحياة، وعلى سطح المعمورة وتحت شمسها، وفي هوائها. فالفضل كل الفضل لرب الكون.

وفي البداية أيضاً، أشير بأن إصابتي المؤلمة في الخاصرة اليمنى من جسدي، وفي منطقة تموضع الغدة الكبدية، جاءت في سياقات العمل الوطني الفلسطيني.

إن من حسن حظ الكائنات الحية، والإنسان منها، أن خص رب الكون تبارك وتعالى الكتلة الكبدية، وهي أكبر غدة في الجسم، بميزات متعددة، دفعت علماء الطب لوصف الكبد بالعضو النبيل. فالكبد ينمو ويعوض نفسه باستمرار، خصوصاً حال تم اقتطاع أي جزء منه لسبب أو لآخر. كما أن جزءاً صغيراً منه (بحدود 10%) من كتلته البالغة تقريباً (كيلوجرام واحدا في جسم الإنسان عموماً) يكفيه للقيام بكامل عمله المناط به داخل جسم الكائن الحي. وانطلاقاً من ذلك فان تفاقم الإصابة امتد بي على مسافة عقدين ونيف من الزمن، ليصبح جسدي بعد العام 2002 أمام استحقاق عنوانه (ضرورة القيام بعملية نقل كبد) وإلا فان الأمور تسير نحو الختام البيولوجي لهذا العضو النبيل في الجسم وفشله التام، وبالتالي في الوفاة.

وعليه، كان لابد من الانطلاق النشط والبحث عن البلد المناسب لإجراء عملية (نقل الكبد)، فكانت العوائق تتمثل في عدة عناصر، أولها التكلفة الباهظة لهكذا عملية جراحية معقدة. وثانيها وجود متبرع (زرع كامل نقلاً من كبد شاب متوفى بحادث بعد وفاته مباشرة) أو زرع جزئي (من شاب حي يتم اقتطاع ثلث كبده لينقل إلى المريض). وثالثها وجود قوائم انتظار طويلة في معظم مشافي الدول التي تتوافر فيها تلك الخدمة الطبية (أوروبا الغربية والولايات المتحدة والهند والصين).

وإزاء تلك العوائق، كان لابد من البحث عن المكان الأفضل الذي يحقق عدة عناصر في آن واحد، لجهة الجودة، وانخفاض الكلفة، وقائمة الانتظار القصيرة الزمن. وبالطبع فان الخيارات صبت لصالح مشفى تيانجين في الصين، وقد قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم (ابحثوا عن العلم ولو في الصين) وهنا بتنا نبحث عن الطب ولو في الصين.

ومن المعروف بأن مشفى تيانجين المركزي الأول التابع لجيش الشعب الصيني، يفتح أبوابه للمرضى الأجانب أحياناً لإجراء عمليات نقل الكبد والكلى، ويغلقها في أحايين كثيرة، حيث يتم رفض قبول الأجانب.

لقد وفقت في نيل قبول المشفى، وخضعت بالفعل لعملية نقل كبد كامل من جسم شاب صيني ل ايتجاوز عمره الخامسة والعشرين من العمر وقد توفي في حادث سير، وتم نقل عضوه الكبدي إلى جسمي خلال ساعات قليلة من وفاته، في عملية استغرقت بحدود عشر ساعات متواصلة، تمت بعد منتصف ليلة التاسع عشر من يناير 2007، وقد أجرها فريق طبي متكامل بقيادة البروفيسور (جيو جي جين) وقد فاق عدد أعضائه المائة والخمسين مابين جراح ومخدر وممرض وممرضة، توافدوا إلى غرفة العمليات كلاً في الوقت المخصص له لإجراء عمل محدد أثناء سير العملية الجراحية، وقد توجت نهايتها بقرار البروفيسور (زيانج تشين) مدير المشفى الذي أعطى إشارة بإغلاق البطن بعد أن اطمأن لوضع الكبد الجديد، وقيامه بإفراز المادة الصفراء بشكل ناجح ووفق المقاييس المطلوبة.

في تلك البلاد البعيدة، والعميقة في تاريخها وحضارتها القديمة، لمست الفارق الكبير بين شعوب تنهض وتحاول أن تعيد بناء أمجادها، وبين حالنا العربي حيث المراوحة بالمكان. ففي المشفى في تيانجين كان الطبيب الصيني إنسانا قبل أي شيء آخر وليس بتاجر. والطبيب الصيني يطور نفسه باستمرار حيث تضم الطواقم الطبية أجيالا من الأطباء، فالطبيب القديم يأخذ بيد الطبيب الجديد. كما أن الطبيب الصيني يتابع مريضه حتى أخر لحظة، ولا يتذمر من الأسئلة التي تطرح عليه من قبل المريض أو مرافقيه، بل العكس تماماً فانه يغرق معهم في شرح التفاصيل كما كان يحدث بيني وبين مدير المشفى البروفيسور زيانج تشين الذي كنت كل يومين وثلاثة أجلس معه في مكتبه ويشرح لي التفاصيل. وإضافة لذلك فان الأطباء الصينيين أكثر حذراً في وصف الأدوية من نظرائهم العرب، فهم يتجنبون وصف الأدوية كما يجري عند أطبائنا العرب العجولين بكتابة قائمة الأدوية الطويلة، والقابلة للتغيير السريع من طبيب إلى آخر.
وفوق كل ذلك، إن الأطباء الصينيين يعتبرون أن عملية إبلاغ المريض مباشرة عن وضعه الصحي بالتفصيل هو واجب قانوني عندهم، بينما الطبيب في عالمنا العربي بشكل عام يتوجه بالشرح المقتضب عن حالة المريض إلى الأهل وليس للمريض مباشرة، ولا يتحمل السؤال بل يتذمر منه. والطبيب الصيني يبقى متابعاً حالة مرضاه لحظة بلحظة حتى درجة الملل والانزعاج التي يبديها المريض لكثرة زيارة الأطباء المفاجئة بين ساعة وساعة لغرفته.

وخلاصة القول، إن تجربتي المرة والمريرة، مع العمل الجراحي الصعب الذي خضعت لهاس في الصين الشعبية، كانت في جانب منها بمثابة رؤية ومشاهدة لواقع الصين والنهوض الكبير لهذا التنين العملاق الذي بات اليوم قريباً من موقع القطب الأكبر في الخريطة الدولية.

علي بدوان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى