الأحد ٥ شباط (فبراير) ٢٠١٢
إشكالية اللغة في
بقلم فراس حج محمد

«صيادون في شارع ضيق»

ثمة إشكالان بارزان فيما يتعلق بلغة رواية "صيادون في شارع ضيق" للروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، أما الأول فهو أن لغة النص في الأصل هي الإنجليزية، والثاني أن اللغة في شكلها الحالي، وأعني بذلك النص المترجم، ليست لغة جبرا عدا الفصل الثالث عشر، فاللغة هي لغة د. محمد عصفور المترجم.

وبناء على ما تقدم، فإن الرواية تثير العديد من الأسئلة فيما يتعلق باللغة، ولعل أهم سؤال تثيره هذه القضية: هل تعد لغة د. عصفور لغة جبرا فتُحاكم الرواية لغةً على أنها لغة جبرا أم يُكتفى بالفصل الثالث عشر، وينظر إليه دون سواه باعتباره هو الذي يمثل لغة جبرا؟ وهل هذا الفصل وحده كاف للحكم على لغة الرواية بشكل كلي؟

أما بالنسبة للإشكال الأول، وهو لماذا كتب جبرا روايته بالإنجليزية؟ فقد طرح هذا السؤال من قبل د. عصفور مقدما الإجابة بقوله: "إن الرواية هي عمل أدبي دعائي…. موجها إلى جمهور القراء الناطقين باللغة الإنجليزية خاصة في بريطانيا حيث نُشرت"1، وإن كان لهذه الإجابة مبرر، إلا أن الرواية لا تركز على القضية الفلسطينية لتصحح مفاهيم الغرب تجاهها، فلم تحتل هذه الفكرة من الرواية إلا بقدر ما احتلت أي فكرة أخرى منها، فتساوت مع بقية الأفكار المعروضة، بل إن طبيعة المجتمع العراقي بطبقاته المختلفة ومثقفيه كانت هي الأبرز في الرواية، وليس القضية الفلسطينية.

وأما الإشكال الثاني، وهو ما يتعلق بالترجمة، فتثار حوله العديد من الأسئلة منها: لماذا تأخرت الترجمة حتى عام 1974، وبقيت بين يدي المترجم ما يزيد على سبعة أعوام؟ ولماذا يترجمها د. عصفور؟ ولم يترجمها جبرا نفسه، مع أنه قد ترجم الفصل الثالث عشر؟

ولعل د. عصفور قد قدم إجابة عن هذين السؤالين؛ فبخصوص السؤال الأول يقول: "إنه من حق الرواية أن تظهر بالعربية قبل سبع سنوات على الأقل ،...، غير أن ظروف عملي الخاصة لم تمكني من إنهائها إلا حديثا"2، أما يتعلق بالترجمة فإن د. عصفور يوضح سبب إقباله على ترجمته للرواية، فبالإضافة إلى كونه تلميذا لجبرا، فإنه "كان مؤهلا لترجمتها من ناحيتين على الأقل، أولها أنه فلسطيني مثله "جبرا" ومثل بطل روايته "جميل فران"، وثانيهما أنه يعرف المكان الذي تدور فيه الأحداث معرفة وثيقة"3.

أما لماذا لم يترجم جبرا الرواية بالكامل؟ فلعله لم يرد أن يكتب رواية واحدة مرتين، أما الفصل الثالث عشر من الرواية، فقد سبق لجبرا أن نشره بالعربية ضمن مجموعته القصصية "عرق وقصص أخرى" قبل أن ينشر "صيادون في شارع ضيق" باللغة الإنجليزية.4 وبذلك يكون جبرا قد ترجم النص العربي إلى اللغة الإنجليزية وألحقه بالرواية، وليس العكس.

وبعد؛ فإنني سأعتمد في مناقشة لغة المتن الحكائي على هذا الفصل وحده، وذلك لأنه هو الذي يمثل لغة جبرا، ويتمتع بمساحة نصية تسمح باستيعاب القضايا التي تهتم اللغة ببحثها في الجنس الروائي.

يعيش الدارس في هذا الفصل مع شخصيات متعددة، وكلها تتحدث بلغة من مستوى واحد، هي لغة السارد نفسه الذي كان يعيد كلام شخصياته بلغته هو. والملاحظ على هذه الشخصيات أنها شخصيات مثقفة، على درجة كبيرة من الوعي، فالمستوى اللغوي والفكري الذي تحدثت به يناسبها تماما، وقد وجد في بعض الأحيان تدنيا في المستوى اللغوي، ليصبح قريبا من العامية، ومن ذلك ما جاء على لسان توفيق الخلف متحدثا عن عدنان طالب:" مسكين. ليس عنده عشرة قروش ليتعشى عشاء مثل الناس"5، وكذلك قول عدنان طالب مخاطبا توفيق الخلف" خليت الرجولة لك"6، وقوله مخاطبا جميل فران عندما رآه عائدا من حفلة العشاء في بيت سلمى: "ها، أعدت من دار سلمى؟ إيدك بالدهن"7، وإذا ما دقق الدارس في هذه المواضع يجد أنها بعيدة عن المناقشة الفكرية، وجاءت على لسان الشخصيات، وهي في حالة متحررة من النظام اللغوي الصارم، فظهرت اللغة على طبيعتها كما هي في الواقع.

أما من حيث تفاعل اللغة لتعبر عن موقف الشخصيات، أو ما يطلق عليه النمط الديناميكي، هذا النمط الذي يصاحب الشخصيات المتوترة القلقة أو المتحمسة لفكرة ما، فقد ظهر هذا النمط في هذا الجزء من الرواية في مواطن كثيرة منها: كلام المستمعين لقصيدة عدنان طالب، وقد انفعلوا بجمالها:"رائع! أعد، بالله أعد"8. فرد توفيق الخلف الغاضب على عبد القادر ياسين بعد قوله "أعني أن الصهاينة يتمنون لو نعتقد نحن بأن علينا جميعا أن نعود إلى الصحراء"9، فيجيبه توفيق صائحا: "يا ابن الـ ... لقد رأينا أمثالكم في حرب فلسطين، إنني أعرف عدد الشعرات في مؤخراتكم، كل واحد منكم، ملأتم الدنيا كلاما وتشدقا، ولكن في ساعة العمل تحجرت مفاصلكم..."10.

وقد وقع الكاتب في خطأ نحوي تركيبي في قوله" في مؤخراتكم، كل واحد منكم"، والصواب أن يقول: في مؤخراتكم مع حذف "كل واحد منكم" أو يقول :"في مؤخرة كل واحد منكم" فلا تستقيم الجملة نحويا إلا بأحد التركيبين، ولعله خطأ طباعي.

وأما النمط الإستاتيكي الهادئ فهو المسيطر على الرواية بشكل عام، وليس على الفصل الثالث عشر وحده، ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث عشر على لسان جميل فران متحدثا عن توفيق الخلف:" .... ورغما عن كرهه للمدينة، فلا بد أنه قضى عددا من السنين في كنفها عندما درس في إحدى كليات بغداد كما يستدل من حديثه..."11.

وعلى هذه الشاكلة من الهدوء وعدم الانفعال يسير كلام السارد في الرواية، فهو سارد ـ كما أسلفت ـ محايد موضوعي، لا يفرض وجهة نظره، ولا يتحمس لفكرة ما، ولكنه يناقش الأفكار مع بقية الشخصيات بتروٍ وتعقل.

1- كتاب الصحوة، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1983، ط2، ص "97".

2 - مقدمة الرواية، طبعة دار الآداب، بيروت، 1988، ص "7".

3 -السابق، نفسه.

4 - وهي قصة "المغنون في الظلال"، أشار إلى ذلك أ. أحمد دحبور في مقاله"جبرا إبراهيم جبرا: جولة معه في ذكراه السابعة"، مجلة رؤية، شهرية فلسطينية، السنة الثانية،
عدد29،شباط 2006.

5 - الرواية، ص "107".

6 -السابق، نفسه.

7 - الرواية، ص "105".

8 - الرواية، ص "89".

9 - الرواية، ص "99".

10 - السابق، نفسه.

11 - الرواية، ص "100"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى