الاثنين ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١٢

في البدء كان الكلمة

مصطفى صلاح الدين

«في البدء كان الكلمة» هذا هو العنوان الذي اختاره الكاتب خالد محمد خالد لكتابه الصادر في نوفمبر 1961 عن مكتبة الانجلو المصرية . اختار المؤلف هذا العنوان نقلا من العهد القديم دون أن يجري عليه أي تعديل ربما ليؤكد ايمانه بحرية العقيدة واحترامه للعقائد كلها . وقد صدر غلاف الكتاب بهذا القول لسقراط :
إن الحياة لا تستحق الاعتبار إذا لم نقومها بالحوار والمناقشة
لخص المؤلف في مقدمته موضوع الكتاب في أن حرية الكلمة حق مطلق لا يملك قانون حق تقييده ، ولا يملك عرف حق تحديده .
يشمل الكتاب خمسة مواضيع وخاتمة نعرض لها بايجاز لما نشعر به من أن حاجتنا لها مازالت قائمة وبشدة.

الكلمة وثيقة آدميتنا

يتمنى المؤلف لو عرفنا أول كلمة تحرك بها أول لسان ، إذن لما بخلنا عليها بكل صنوف التمجيد والتخليد . مع تلك الكلمة الأولى دقت أجراس النصر للانسان ، وأصبح معروفا أن لواء السيادة على هذا الكوكب سيعقد للانسان . أجل ، مع الكلمة الأولى بدأت عظمة الانسان، ومعها أيضا بدأ بؤسه ، ولكنه بؤس عظيم.

لقد بدأنا نعي وجودنا يوم تكلمنا . بدأ الوجود الانساني يحيا وينهض قائما . إن الكلمة هي الحياة ، والكلمة المسطورة بصفة خاصة ذات مقام عظيم . إنها تهب الخلود لكل آثار البشر وتاريخهم ، وما تاريخ البشرية في حقيقته إلا تاريخ الفكر والكلمة . النور الذي هدى البشرية إلى مدارج ارتقائها وأخرجها من ظلام التأخر والجهل كان الكلمة . ومع هذا فقد تمرد الانسان على الفكر الذي أعطاه صموده ، وعلى الكلمة التي منحته خلوده . لقد صادفت الكلمة عبر العصور أذى كبيرا أصابها بكثير من الجروح والدم المنزوف ، ولكن كان الظفر النهائي لها ، والمستقبل دائما معها .

الصراع بين السلطة والكلمة

يرى المؤلف أن الصراع بين السلطة والكلمة مختلف تماما عن الصراع بين القانون والحرية . إن تنظيم القانون لحرية العمل أمر مرغوب فيه وضروري حتى لاتفسد الدنيا ، لكن حرية الفكر لا ينظمها ويرسم تخومها إلا الفكر وحده . فالأمر مختلف جدا بين أن أعتدي على غيري وأقول : أنا حر ، وأن استخدم حرية عقلي وأقول : أنا حر .
إن الفكرة الخاطئة لايدحضها إلا فكرة محقة ، ومقاومة الفكر بقانون تشبه مقاومة النار بقاذفات اللهب. ومقاومة الفكر دفاعا عن الحق والخير والعدل عمل ينافي كل قواعد الحق والخير والعدل ، لأن هذه جميعا ثمرة عمل الفكر ونشاطه .
وحرية التفكير تعني في نفس الوقت حرية التعبير . إنك تستطيع أن تدير في خاطرك أكثر الأفكار خطرا دون أن يؤاخذك عليها أحد ، لكن الصعوبات تجابهك حين تأخذ أفكارك في الافصاح عن نفسها .. حين تتكلم أو تكتب . عندئذ يبدأ الصراع بين الكلمة والسلطة ، صراع يخوضه الفكر داخل الكلمة .
إن معظم القضايا التي نادت بها الكلمة واضطهدت من أجلها لم تلبث إلا قليلا حتى صارت عقائد للناس وقوانين تسنها السلطة نفسها . لنذكر " برونو " الذي أعلن أن الأرض تدور حول الشمس فحاكمته السلطة في بلاده ايطاليا وأحرقته حيا . هذه الكلمات أصبحت فيما بعد بديهة يتعلمها الأطفال في كل مدارس الدنيا . وأثناء المحنة المشهورة في تاريخ الاسلام ب " خلق القرآن " أمعن الخليفة المعتصم في إيذاء الإمام أحمد بن حنبل وأمر بجلده حتى أنه تعاقب على جلده مائة وخمسون جلادا كما يروي المقريزي .
يتساءل المؤلف ، ماذا كانت نتائج هذا الصراع في جملته ؟ هل اختفت الكلمة ولاذ الفكر بالفرار ؟ يرى المؤلف أن مقاومة الكلمة كمقاومة الشمس ، والذي يبسط كفه إلى الشمس ليخنقها ويطفئها ليس أكثر حمقا وسذاجة من الذي يحاول خنق الفكر وإطفاء نوره . والذين بذلوا حياتهم من أجل الكلمة وحريتها مابذلوها إلا لأنهم رأوا حرية الكلمة أثمن من الحياة وأغلى .

حرية الكلمة حق مطلق

في رأي المؤلف أن كل الحقوق فيها نسبية إلا حق الكلمة فهو حق مطلق لا قيود عليه ولا منتهى له . وإذا أرادت السلطة أن تنتحل لنفسها حق توجيه الفكر ، فبأي شئ ستوجهه ؟ بالقانون ؟ القانون فكر ، والقوانين العادلة الخيرة ثمرة فكر عادل خير ، ومن ثم فهي لا ترتفع أبدا إلى مستوى توجيه الفكر . الفكر إذن هو الذي يضع قيوده ويرسم حدوده.

إذا خاف الناس من إبداء آرائهم فقدوا على الأيام قدرتهم على تكوين آراهم . والمواطن الكبير يبدأ وجوده من قدرته على التعبير الحر دون أن يحس أنه بهذا التعبير يشكل خطرا ينبغي أن يقاوم . إن نبوغ الحاكم وحده لا يكفي ، فالتقدم الذي لا تشارك فيه الجماهير يكون تقدما وقتيا مقرونا بوجود هذا الحاكم . والمجتمع الحي النامي يقدس حرية الكلمة ويزيل كل القيود من طريقها . وليس يعقل أبدا أن تملك أمة حق اختيار حكامها ثم لا تملك حق إخبارهم بحاجاتها . وإذا كانت الدولة لكي تباشر مسؤلياتها تفكر في حرية ، وتعلن رأيها في حرية ، وتقول كلمتها في أمن ، فإن المجتمع لكي يباشر مسؤلياته لابد أن يظفر بنفس الفرصة .
ويؤكد المؤلف أنه حين يقول : حرية الكلمة حق مطلق ، فإنه لا يعني بالكلمة المهاترة والشغب ، وإنما يعني الكلمة المفكرة العادلة التي تقدم فكرا ينفع الناس ويمكث في الأرض . إن إدراك ما هو خير وما هو شر لا يثمره الحظر ، بل يثمره البحث والحوار . ولا يستطيع الفكر أداء وظيفته مالم يكن حقه في الحرية حقا مطلقا.

عندما تكون الكلمة لا

تتعرض حرية الكلمة للمضايقات الكثيرة عندما يتقدم الفكر ليناقش ويعارض . لا ينكر المؤلف أن هناك معارضات تنطوي على أغراض هابطة وتدفعها بواعث الأنانية والحقد ، ولكن هل كل شئ يسئ بعض الناس استعماله يستحق أن يزول ؟ ليس مقياس الحقوق عصمتها عن إمكان الانحراف في استخدامها ، بل قدرتها على تحقيق النفع للناس . وحق المعارضة له كل هذا الطابع وهذا الامتياز . فتعدد وجهات النظر وتباين الآراء لم يكونا أبدا من عوامل الهدم أو القهر ، بل من عوامل القوة والازدهار . المعارضة الأمينة ليست عملا مضادا للتأييد ، بل هي التأييد نفسه عندما يكون في حالة تصحيح لنفسه واستدراك لأخطائه.

إن الطبيعة الانسانية في حاجة إلى الثناء والحمد مثلما هي في حاجة إلى التقويم والنقد . فالانسان كما ينمو بالمعارضة ينمو بالدعم . وخير الناس هم الذين يستطيعون المواءمة بين حاجتهم إلى دعم أنفسهم وحاجتهم إلى نقدها.

إن معرفة وجهات النظر الأخرى تزيد حظنا من الصواب وتكشف من الحقيقة الجوانب التي تغم علينا . إن الحكومات تستطيع أن تتوسل لادراك هذا بطلب الرأي والمشورة ممن حولها ، لكن أكثرهم سيقدمون الرأي الذي يتوقعون أن يرضي الحكومة ويتفق مع رغباتها، وهنا تبدو أهمية المعارضة التي تفتح الباب لجميع الآراء . الحياة الانسانية هي حاصل جمع الطاقات البشرية المتفجرة من عقول الناس وسواعدهم ، والحكومات تتخلى عن الكثير من أماناتها حين تعطل هذه العقول وهذه الإرادات عن العمل والانطلاق.

«الكُتاب والكلمة »

يعرف المؤلف الكاتب بأنه ذلك الانسان الذي عنده فكر يريد أن يبلغه للناس ، ولديه إيمان بالانسان وبالحياة وبالكلمة . فالكتابة ليست إزجاء فراغ أو تمويل شهرة ، إنما هي فكر ورسالة ومسؤلية وتضحية . إن أول واجبات الكاتب ألا يحاول أن يشتري بالكلمة شيئا من متاع الدنيا ، لأنه ليس في الدنيا كلها مايستحق أن تكون الكلمة الشريفة ثمنا له . ليس معنى هذا أن الحرمان هو حظ الكاتب من الحياة ، فليستمتع الكاتب بما تفيئه عليه جهوده من ثراء شريطة ألا يكتب ليثري بل يكتب ليعلم ويهدي.

الكاتب يقدم لنا الحياة من خلال ثقافته وتجربته ، فيجب عليه أن ينوع ثقافته ويعمق تجربته . ينوع ثقافته بالقراءة الدائبة ، ويعمق تجربته بالانغماس في قضايا البشر ومشاكلهم . وتجربة الكاتب الخاصة لا تكون مدعاة اهتمام إلا حين يستطيع أن يجعل منها مشهدا عاما يلمح الناس فيه أنفسهم ومشاكلهم . وتواضع الكاتب ضروري لكي تبقى المنافذ مفتوحة بينه وبين المعرفة والخير ، وواجبه أن يقدم أفكاره في وضوح وصدق ويسر . ينبغي أن يكون الكاتب مفكرا له وجهة نظره الخاصة ، يزداد به الفكر الانساني خصوبة.

ولعل أهم واجبات الكاتب أن يعلو فوق الأحداث ، فليس عمل الكاتب تبرير الواقع بل تفسيره والدعوة إلى تغييره إذا كان يتطلب التغيير . إن الكاتب ممثل أمين للحقيقة وللفكر ، وهو بهذه المثابة إمام لا مأموم ومتبوع لا تابع . إذا رأى صوابا سانده ، وإذا رأى خطأ فنده . حين يتخلى الكاتب عن سيادة فكره للرأي العام يكون كالطبيب الذي يصف الدواء حسب هوى المريض لا وفق حاجة المريض .
وبعد
إن الفضيلة العظمى لحرية الكلمة تتمثل في قدرتها على بث الأمن والعافية في المجتمع والدولة معا وبالتالي قدرتها على خلق رأي عام يمثل الرصيد الذي لا يفنى للأمة والدولة معا . الرأي العام هو العين التي تبصر بها الأمة والأذن التي تسمع بها والساق التي تمشي بها واليد التي تعمل بها . ومن مجموع الآراء العامة الحرة يتكون الرأي العالمي الحر الذي هو الطريق الأمثل والوسيلة الأجدى لجعل العالم وطنا صالحا لمواطنين صالحين.

وأخيرا ، فقد نختلف أو نتفق مع آراء المؤلف ، وهذه هي طبيعة حرية الكلمة مادامت داخل السياج الذي حدده لها الخالق سبحانه وتعالى في سورة ابراهيم:

ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)
مصطفى صلاح الدين

كاتب وباحث مصري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى