الأربعاء ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم عبد الجبار الحمدي

ابر وخيوط شعثه

فرك وجهه، كأنه يعيد ترميمه بعد أن أصابته السنون لحساً بهيكله العظمي، أعوجت فقرات ظهره من كثرة تحودب على ماكينة الخياطة، قضى مدة تجاوزت العشرون عاما، ابتسم بمرارة، كأنه تذكر عمرا قضاه في حكم سجن مؤبد، زاغ بصره إلى محتويات مكانه البائس، تلك التي فقدت الحداثة، بسبب عدم القدرة على مجاراة متطلبات الزمن الجديد، إضافة إلى الصناعة الجاهزة للملابس، لذا عمد فقط بالعمل على ترقيع ورتق فتوق ملابس الصناعة التكنولوجية، إن الآلات الحديثة في صناعة الملابس لا يمكن أن تقارن بالخياطة المحليةK اليدوية بالذات، هذا ما ردده على مسامع من جاء إليه بلباس سحقت خيوطه تحركات غير محسوبة، يبدو جديدا بعض الشيء، إلا أن الجلوس على مقاعد صالات انتظار تركت آثارها على خلفيته، قال صاحب اللباس: أرجوك أني في عجلة من أمري، كما أني أحتاج هذا البنطال، هلا قمت على تصليحه بسرعة، إن لدي موعد مهم، نظر الخياط إلى شكله فهمس الى عقله أي أهمية لك؟! إن شكلك، ونوعية ملابسك لا تدل على أهميتك، إنها حجة طالما سمعت مثلها الكثير، رد عليه ... حسنا خذ مقعدك، ما هي إلا لحظات وننتهي منه، فقط عليَّ تغيير لون الخيط ليلائمه، وإلا سيظهر الرتق وستكون عرضة للإحراج، ستلعنني بالتأكيد لأني السبب في إحراجك، ذهبت يده بشكل لا إرادي باتجاه علبة كانت مقبرة لبكرات خيوط، منها من نفقت إلا من بقايا أسم، ومنها من باعت لونها بعد تغير أجواء وعوامل رطوبة قبعت بين جدران، حيث رسمت العناكب شِباك مصائد لقوت من أمست البلادة عندها انتظار فرص ، ومن خلال ملامسة أنامل لألوان خَبِرتها سحب المناسب منها للخياطة، فقال: ها هو اللون الذي يناسب لباسك، وما علينا إلا أن ندخل رأس الخيط في عين الإبرة، وبعدها تعمل الكهرباء على دحرجة الماكينة لرأس الابرة في تقطيب جراح لباسك والى الأبد.... ها ها ها، معتبرا ما قاله عبارة عن مزحة، لم تحرك شفاه من سمعها، أو حتى شد وجهٍ بمجاملة، لحس شفتيه متمتما... يا لثقل دمه وسماجته، انه لم يكلف نفسه حتى بابتسامة، اطرق رأسه نحو عين الإبرة، لإدخال طرف خيط شعث غير ممشط، ربما كان وهن عمر!! أو عدم اكتراث بمجريات الالتزام بالواجب، فقد طوي ورُمي مع الآخرين إلى علبة صدئت من تفاعلات ذكريات خيوط مختلفة، فكل له حكاية، ربما شارك في الحديث عنها، إلا أن جميعها قد شاركت في خياطة ورتق، إضافة إلى ترقيع عيوب كثيرة، تلك التي ما أن أوفت بالغرض حتى ركنت أو رميت، تماما مثل خيوط العمليات الجراحية إلى قعر علب منفية، كأنها حكم عليها بالإعدام لطمس حقيقة، إن الخيوط بقدر ما يمكنها من ستر العيوب، إلا أنها في نفس الوقت قد تشكل عقدة في حال بلادة، أو عدم جودة في النوعية، قبض بأصبعيه على رأس الخط دافعا به إلى عين رمدت لقلة عمل، كانت مفتوحة طويلا دون رؤية شيء للتغزل به، عاب عليها ذلك، فسمحت لحبات غبار مصحوب برطوبة جو ودخان سجائر إضافة الى بعض رذاذ من فم إلى غلقها، فرمدت!! حاول جاهدا أن يدخل رأس الخيط الشعث بتكرار وإصرار، لكن حالة اللامبالاة قد وصلت إلى أوجها، كشراب غرغرة مُر، ألزمت نفسها بعدم الحركة، لا مت الزمن الذي جعلها علاجا في مسرح خيوط الحياة، أخضعت الجميع إلى عمليات جراحية في تغيير شكل على جلود وألبسة، ما كان لها أن تتجمل لولا عيون ثاقبة لها نظرات مستقبلية، لكن هذا هو الإنسان!! ما أن يتغير حتى يحاول إزالة كل إرهاصات الماضي التي تذكره بواقعه المرير، تحدث من جلس صامتا لوهلة فقال: هيه... أين وصلت الأمور، ألم تنتهي بعد؟؟ أُُحرج الخياط من سؤاله، فشغل نفسه متصنعا عدم سماع ما قيل، آخذاً ينشد (نعيب زماننا والعيب فينا... وما لزماننا من عيب سوانا، نهجو الزمان بغير ذنب... ولو كان يهجو الزمان لهجانا)، ثم رفع رأسه موجها الحديث للجالس أمامه، أليس كذلك؟؟؟ إن ما يحدث للملابس من تمزيق وفتق وغيره، هو بالضبط ما يحدث للإنسان في وقتنا الحاضر، تراه يهان، يضرب، تضيع حقوقه وكل إنسانيته، لمجرد أن لا حول له ولا قوة، مع العلم أنه فاعل في أسرته ومجتمعه، هذا الحال ينطبق علي شخصيا، أنظر كم تضررت مصلحتي من صناعة الملابس الجاهزة، فما عادت مهنتي ذات رواج، زال بريقها وربما إلى الأبد، إني لا أطعن بالتطور.. لعلك هذا ما تنوي أن تقوله، لكن يجب الأخذ بالحسبان إن مثل هذه المهن القديمة، هي من عملت على نقل عجلة التغير إلى الأمام، ثم اللحاق بركب التطور، اقسم لك يا سيدي الكريم أني تعبت من الجلوس خلف هذه الماكينة، لقيادة أذيال ملابس رثة في كثير من الأحيان، ونصف جيدة في القليل منها، ناهيك عن انقطاع التيار الكهربائي في عرقلة عملنا الكاسد أصلا، انقطع التيار الكهربائي فجأة!! فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، كأنها سمعتني أتحدث، قفز صاحب البنطال قائلا: ما العمل الآن!؟ إنك قضيت نصف الوقت تبحث عن الخيط والنصف الآخر قضيته تحاول إدخاله في إبرة عمياء، ألا ترى!! كم من مرة حاولت فيها ولم تدخل؟ أم تراك قد عميت مثلها فلم تستطيع الرؤية، وإن كان كذلك فعليك بلبس نظارة قد تمكنك من الاستمرار في متابعة عملك، دون تعريض الناس إلى الإحراج والانتظار الطويل، تفاجئ الخياط من ردة انفعال الرجل، فقال له: هون عليك يا صاحب القيافة، من أنت حتى تسمح لنفسك بنعتي بالعمى؟ توجيه تعمد على لومِ، فما أنا إلا مواطن وإنسان بسيط، أحاول رتق وترقيع وستر عورات كثيرة، لو بانت للغير لكان على أصحابها أن يواروا رؤوسهم في التراب، تماما كالنعام يتركوا عوراتهم مكشوفة دون الاستماع لما يقوله الناس، فالآذن الصماء هي التي يمكنها ان تتعامل مع مَن هم على شاكلتك، الأحرى بك أن تلوم من تسبب في نهب حقك وحقي، وسلب راحتك وراحتي، وقوتك وقوتي، إضافة الى عمري الذي فُنِيَ في لملمة قشور تتساقط كبقايا طعام من موائد متخمة، هاك خذ بنطالك واذهب إلى غيري، قد تجد عنده تيارا كهربائيا، أو لدية أجهزة حديثة يمكنها أن تعيد صياغة ما تلبسه، شَعَر الرجل أنه قد تجاوز حد اللياقة، ربما بسبب الموعد الذي ينتظر، فقال: عذرا يا عم، لقد انفعلت دون داعي، كما أني لست مما تتوقع، فما أنا إلا رجل يحاول أن يتجمل، عله يفوز بوظيفة تليق بما لديه من شهادات، بيد أنها الآن أمست كلها قصاصات ورق، بعد أن دخلت الأرضة عليها فقضمتها، وبعد أن فاحت رائحة الوحدة و التمييز، أحس الخياط بانكسار الرجل فرد عليه: أجلس... سأعمل على محاولة رتقه بيدي دون اللجوء إلى الماكينة، أشعل شمعة ثم أخرى، فقط لكي يرى ما يفعله، مد يده بحركة لا إرادية نحو الجدار، لامس قطعة ألإسفنج!! هكذا كانت بعد أن امتهنت التنظيف لفترة، وقبلها كان تسكن في مقعد أثاث فاخر، بعدها أحيلت إلى التقاعد لتكون قاعدة للإبر اليدوية وما يلزمها، لم يجد سوى واحدة بين حفنة سُمِلَت أعينها، منعا لأن يطلق عليها مسميات تشوه حقيقتها التي صنعت من أجلها، فرك الإبرة بأصابعه ثم لعقها ومسحها بثوبه، وقال... الآن أصبحتِ جاهزة للعمل، كانت كبيرة بعض الشيء ذات عين واسعة، مكنتها من لثم رأس خيط أشعث، عقد نهايته، امسك برأسها المعوج والذي ما أن أدخله حتى علق، حاول معرفة السبب!؟ لكن ظلمة المكان ساهمت في عملية الإبهام، قرب الشمعة نحو الإبرة فوجد أن رأسها المدبب قد ثُلم، فلم تعد تؤدي عملها كما ينبغي، لم يشعر الرجل بالأمر، داوم هو على غرزها بقوة وسحب بهدوء، كانت قطعة اللباس تصرخ من عملية رتق مزقت تجانس خيوط، لقد شَعر النسيج بغرابة الأمر، أين يذهب فهو بيد من لا يرحم، صرخ الخيط ألا يكفي لقد بَضعته دون علاج للأمر، هلا تركته ينجو من تمزيق، أم تراك تتعمد ما فعلت، كانت الإبرة تريد الخلاص من ركن قبعت فيه طويلا، ظنت أن الأوان قد أزف لأن تشكل فرقا في تغير مسالك أنسجة ووجوه، بعد أن سحبت الثقة منها من قبل، ثم ركنت مع بقايا مخلفات، لم يعجب الخياط ما شاهد من عملية رتق، هم إلى فك خيوط تشابكت عنوة رغم إرادتها بعين واسعة، لكن لا بعد نظر فيها، طعنت برأسها الصلب ما لا يمكن طعنه، فهتكته وحولته إلى موبوء، حتى عملية التجميل باءت بالفشل، لقد شُوِهت المعالم الحقيقية التي يجب أن تتحلى بها، شعر بكل ذلك الخياط، حاول قول الحقيقة، لكن الخوف من غضب الرجل والتأخير جعله يلزم الصمت، قطع الخيط، رمى بالإبرة بعيدا، دون أن يرجعها إلى عالمها الذي خرجت منه، لقد انتهيت ... خذ لباسك وأتأمل أن تعذرني إن قصرت بعمل اللازم، كما ترى أني لا أستطيع أن أرى بشكل جيد، ناهيك عن انقطاع التيار الكهربائي، ولولا هذا النور الشحيح لما كان لي العمل، أظهر الرجل الامتنان للخياط، أمسك بلباسه تلمس العمل أحس بكثير من العقد والخشونة، حاول أن يراها.. أمسك بالشمعة، قَرَبها وما أن نظر إلى التشويه حتى شهق!!! اسقط الشمعة، التهمت بلهيبها البنطال الذي كان عزيزا عنده، بغضب وانفعال صرخ... ماذا فعلت؟؟ أين ذهبت؟؟؟
كان الظلام أحد الأسباب التي جعلت الخياط ينسل خارجا، خوفا مما يكتشفه الرجل، لذا سلخ نفسه هربا، كان هذا الأجدى لحظتها، فالهروب نصف الشجاعة كما يقال، أما صاحب البنطال فخرج يحمله صارخا لقد شوهته إلى الأبد لم يعد ينفع بشيء، عليك اللعنة أين ما كنت أيها الخياط الأعمى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى