السبت ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٢

في رواية «هوان النعيم» لجميل السلحوت

ابراهيم جوهرابراهيم جوهر

هانت على أبي سالم نفسه وقدسه فصار كلبا نابحا

بأسلوب الراوي العليم كليّ المعرفة يواصل الكاتب جميل السلحوت سرد أحداث روايته الثالثة (هوان النعيم) ويرصد شخصياته وهي تنمو وتتفاعل مع الأحداث الجديدة، التي تبدأ مع هذا الجزء الثالث في أرض السموع، والاعتداء الشهير الذي سبق عدوان عام 1967م.

إنّه يرصد الأحداث التي رافقت الهزيمة المرّة الصادمة، والتي مهّدت لها، ويركز على تلك التي أعقبتها، وتركت آثارها على الناس والمكان وفي القلب منه القدس.

والقدس عند الكاتب هي محور المكان، وأفقه. هي الميدان الذي تجري الأحداث فيه، ومنه تنطلق وإليه تعود، حتى شخصية أبي سالم التي تظهر بوضوح لافت في هذا الجزء، نجدها قد عادت الى القدس (المكان) بعد أن أوقعها غباؤها وأنانيتها ونرجسيتها في براثن المحقق، الذي صار مشغّلا يقدم المقابل الماديّ للمعلومات التي يوفرها له أبو سالم، وإن كانت عودة ذليلة مجللة بالعار والانحدار.

يوضح الكاتب كيفية استقبال الناس للهزيمة المريرة، وتعاملهم مع القادم الجديد في بزّة عسكرية تلبس لبوس التاريخ والثقافة، كاشفا مدى الجهل في فهم الآخر، وقلّة المعلومات المتوفرة عنه نتيجة التضليل الإعلامي.

وهنا يسجل للكاتب تناوله للآخر بموضوعية قد لا يفهمها غير المطلع على طبيعة العلاقة الاشتباكية في ميدانها الواقعي، كما خبرها الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال. فلم يجد الكاتب غضاضة في إثبات بعض الجوانب الإنسانية لديه.

لقد نقل الجانب الإنساني للآخر؛ الجندي الذي يقدّم المعونة للطفل، ويحاوره بلغة إنسانية بعيدة عن لغة الحرب.

ولكنّ فتاة الإحصاء العربية التي تبدي تعاطفا مفهوما مع أبناء شعبها تذكّر- من واقع تجربتها ومعرفتها - بالآخر المحتل الذي يسعى إلى القضاء على الطموحات الفلسطينية الوطنية، ويحاصر أيّ إمكانيّة لحريته المشتهاة.

فمنذ بداية التجربة مع الآخر نقف على نموذجين متباينين. وسيرفدهما نموذج آخر للفتاتين اللاهيتين اللتين تتعرفان على خليل الأكتع وصديقه محمد في حديقة الجرس.

وسيتضح الوجه القبيح في خبثه ومكره، وهو يتعامل مع أبي سالم ويستغل عفويته وسذاجته وجهله؛ الوجه الأمني للاحتلال في أحط صفاته. وسيكون السقوط الحزين لأبي سالم– رغم خسّته ونذالته المتواصلة – أحد إفرازات هذا النموذج الأكثر طغيانا، وتواجدا، وتعاملا مع الفلسطيني في أرضه.

رواية (هوان النعيم) رواية تاريخ وشخصيات وأحداث. تقدّم إلى قارئها تاريخ المنطقة وشخصياتها الفاعلة حينا بأسمائهم الحقيقية، وحينا بالرمز والإيماء الى بعضهم، وتارة بالرمز الى فئة معينة.

إنّها تؤرخ تأريخا أمينا لمسيرة شعب ومعاناته الاجتماعية والسياسية والوطنية والثقافية.
يواصل خليل الأكتع الشخصية المركزية في الروايات الثلاث هنا أيضا دوره البارز فيقارن، ويسأل، ويجيب، ويقرر، وينتقد. إنه الشخصية الواعية /النموذج الإيجابي المنتمي القادر على الفعل، والمهيأ للفعل والتنوير والتغيير. ولكنه مغلوب على أمره. إنه ضحيةّ جهل طبي شعبي أفقده ذراعه، وإن لم يفقده طموحه ونشاطه ولكن الذراع المفقودة ترمز للعمل غير المكتمل ذي القدرة على الدوام والبقاء.

والشخصية الأكثر بروزا في (هوان النعيم) هي شخصية أبي سالم في وضوحها وانسجامها مع ذاتها وأفكارها ودورها التسلقي الانهزامي.

أبو سالم هذا الشخص الانتهازي الذي يتحيّن الفرص للصعود والبروز غير مكترث بالثمن، ولا النتائج المترتبة على تصرفه وفق ميزان القيم الاجتماعية والوطنية، لا كرامة له ولا انتماء بمعناه الوطني. وانتماؤه لذاته الأنانية، إنّما يشير إلى كونه نموذجا لفئة، وليس شخصا طارئا ثانوي التأثير.

(أبو سالم) بقي سالما من كل أذى. فلم تنجح محاولات التخلص منه، أو إقصاؤه، لأنّه في الواقع دائم التواجد والتأثير.

هذه الشخصيّة الرثّة تجد (مجدها) في المرحلة الجديدة بالتعاون مع الاحتلال وتنفيذ تعليماته، حتى تكون نهايته وقد تمّ ترويضه تماما، وتخلى عن كل قيمه حتى تلك الاجتماعية التي تربّى عليها في بيئته المحافظة.

لقد انسجم مع دوره المطلوب منه، فصار كلبا نابحا بلا كرامة، وحين يقول له مشغّله في المسكوبية: أنت كلب وفيّ يا أبا سالم، يسعد بهذا الوصف ويؤكّده نابحا:
عوووووووووو.

وبهذا الصّدى المتردّد بلا انقطاع، ينتهي الجزء الثالث من مشروع الكاتب الروائي في دلالة على استمرار الصوت النابح ذاته (عوووووووو)...ربما لنقف على آثار هذا النباح المتصاعد، وقد أخذت أبعادا أكثر خطورة، تعدت ما قام به عميل ساذج مثل أبي سالم.

لقد رسم الكاتب هذه الشخصيّة رسما مقنعا منطقيا من الناحية الفنيّة، فلا مبالغة، ولا تحيّز، ولا انتقام وكره؛ بل نجد شخصية مقنعة فنيّا يراودها صحو الضمير أحيانا، ولكن حبائل الآخر الأكثر ذكاء ودهاء كانت أقوى.

لقد كان أبو سالم هو نفسه – كما أرى- أحد ضحايا الاحتلال، هذا الاحتلال الذي أنجز على ما تبقى من كرامته وقيمه فأرداه (كلبا) متساقطا.

في الرواية (هوان النعيم ) تحضر القدس بكامل بهائها، وحزنها، وفقرها، وطيبتها، وتاريخها، والاعتداءات المتلاحقة بحقها.

القدس جنّة الله على أرضه، لم يتم الاستعداد الكافي للدفاع عنها وصونها، فهانت على (النّاس). وحين تهون على الفرد النفس والقدس، وكلاهما نفيس ومقدس، فإن النتيجة لا تكون بعيدة عن النباح و(الكلبنة).

ابراهيم جوهرابراهيم جوهر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى