الأحد ١٩ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم فتاحي حسناء

قليل من الأمل يكفي....

الكوابيس تجيء في النهار، أثناء اليقظة، أكثر فزعا وبشاعة، كوابيس الليل أرحم، وهمية وقصيرة المدى، تخوّف لكنها لا تُفزع، تلاعب، لكنها لا تضرب، كان ذاك النهار مجموعة كوابيس متسلسلة، ومتتابعة، لا تترك فارقا زمنيا بينها لتتأكد هل أنت صاح أم نائم، تترك فقط الحيز الزمني لتحس قسوة ما جرى، وفظاظته، وفيما عدا لا تميز هل هذا صحوأومنام.

بينما هو غارق في عمله الإداري في مكتبه، يتلقى مكالمة تخبره زوجته أن أبنهما في المدرسة أصيب بعياء مفاجئ، ولا بد لأحد أن يأتي لأخذه إلى البيت، زوجته لا يمكنها ذلك، هي تعمل في شركة صغيرة، والمدير لا يعطي حتى قليلا أكثر مما يأخذ، وهي استنفدت معه حصتها من الغياب والتأخير، فهو مجبر إذن على أخذ إذن بالغياب. ينهض من على مكتبه، وهو يتفحص الأوراق المبعثرة فوقه والصفحة المفتوحة في الحاسوب، ليحدد أي عمل استعجالي وأولوي، ينفذه قبل الخروج، يذهب إلى رئيسه المباشر، يحدثه، يوقع له الورقة الصغيرة -الإذن بالغياب- يتوجه بعدها إلى مصلحة الموارد البشرية، يمد الورقة لمساعدة المدير، يشرح لها، تقول «هذه المرحلة العمرية للأطفال ترهق الوالدين كثيرا»، تدخل الورقة إلى مديرها، تترك الباب مواربا، يسمعه يدمدم بالفرنسية يجب التفكير مستقبلا في تشغيل العازبين فقط. يفكر حسن «فقدنا الرغبة في الإنجاب، عما قريب سنفقد القدرة على الإنجاب وسنكون بلدا يزهوبشيوخه......»، تخرج المساعدة، تعطيه نسخة من الورقة الصغيرة، وتحتفظ بالأصلية، يعود إلى مكتبه، يترك بعض التوصيات إلى زميله ويخرج. يستأجر سيارة، يتسلم أبنه من المدرسة في ضعف ظاهر، يصطحبه إلى البيت.

عاد به إلى البيت، حرارته مرتفعة ويكاد يغمى عليه من التعب، قاس حرارته وأعطاه حبة تحتوي على البراسيتامول، وحاول معه كي ينام، غفى الطفل وقتا ليس بالقصير وسافر هوبذاكرته، الأشهر الأولى من زواجه وصعوبة الإندماج بين شخصين لم يتعاشرا مدة طويلة، صحيح فهما تقريبا ينحدران من نفس الوسط الإجتماعي، نفس الظروف المعيشية ونفس المخزون الثقافي، تبقى التربية مختلفة، الطباع، طريقة التفكير، التطلعات. كانت سميرة زوجته تريد الإنجاب في أسرع وقت، وكان هويحاول التأخير رغم أن سميرة كانت ترتابها الشكوك في موقفه لكن هوفقط كان يريد أن يكون هناك جوا أسريا ومحيطا بيتيا مهيأ لاستقبال الطفل، أما نفسيا فهوكان مستعد أكثر من سميرة وكان يراوده الحلم أن يرى طفله أوطفلته بين ذراعيه، وبين عجلة سميرة وتأني حسن جاء أيمن.

مرت فترة الحمل قصيرة لم يعقها غير معاناة سميرة مع أعراض الحمل وتخوف حسن وانتظاره، والفرحة بقدوم المولود لم يعكرها غير كثرة المصاريف المتعلقة بالحمل من تحاليل وأيكوغرافيا، واستعداد سميرة لاستقبال المولود: الأم تقترح حفل السبوع (العقيقة) بطريقة معينة، الزميلات ينصحنها باقتناء الملابس وكل ما يحتاجه الرضيع من المحلات الفخمة، والصديقة التي تأكد على أن صديقتهن الفلانية ستأتي لزيارتها في المستشفى ويجب أن تدخل مستشفى خاصا من ذوي الأسماء المعروفة.

وعملا الاثنان كل ما بوسعهما لاستقبال أيمن ولإرضاء الزميلات والصديقات والعائلة، حسن أخذ سلفة من الشركة وسميرة دخلت جمعية مع الزميلات وديونات صغيرة من هنا وهناك، وجاء أيمن، فرحا به كثيرا ونسيا الصعوبات الماضية وشرعا في التفكير مع من يتركون أيمن، حين تنتهي عطلة الولادة لسميرة.

المؤسسات التي تقبل الأطفال الرضع من تحت ستة أشهر, مصروفها الشهري مرتفع جدا (قد يصل إلى أجر سميرة) والمؤسسات الأخرى الخاصة لا تقبل الطفل إلا ذا جاوز الأربع وعشرين شهرا.

استقروا على أن يتركوه لأم سميرة تعتني به، هي لا تعمل وزوجها متقاعد، وليس معها في البيت غير أبنتها الصغرى التي أكملت دراستها وهي تبحث عن عمل منذ أكثر من سنتين ويمكن أن تساعد في الاهتمام بأيمن، رغم أن حسن كان معترضا على بقاء الرضيع عند أسرة سميرة لأنه كان يرى أن بيت زوجته يعيش حياة فوضوية بالإضافة إلى لا مبالاة والدة سميرة.
أستقبل بيت والدة سميرة أيمن وترعرع فيه وأخذ منه ما أخذ وطبع على ما طبع وحسن كان لا يراه سوى مرتين في الأسبوع، مساء الأربعاء يمر عليه يلاعبه ويعود هووسميرة إلى البيت، ويوم السبت والأحد يمران عليه صباحا يصطحبانه معهما، ويرجعانه مساء الأحد إلى حضن والدة سميرة . كان بيت والد سميرة يبعد عن بيت حسن ما يقارب العشرين كيلومتر، وهويسكن غرب المدينة ووالد سميرة شرقها في الجانب الآخر . ترعرع أيمن بعيدا عن بيت حسن، آلمه هذا كثيرا لكنه لم يكن هناك بد منه، فسميرة تشتغل أكثر من 9 ساعات في اليوم ولا يمكنها أن تعود إلى البيت فترة الظهر فعملها يبعد عن منزلهما بأكثر من عشرة كيلومتر وحسن كذلك يعمل بالتوقيت المستمر وليس له سوى نصف ساعة للغذاء، يعود بعدها لمتابعة العمل، عندما بلغ أيمن الثلاث سنوات، أدخلاه روضا قريبا من منزلهما وليفعل حسن هذا ضغط كثيرا على سميرة ووضع لوائح من السلبيات التي أخذها أيمن من تواجده في بيت والدتها، وبذل جهدا كبيرا ليشرح لها أنه ليس ضد طريقة تربية أسرتها، ولوكانت أسرته هولكان له نفس الموقف وأفهمها أن الطفل يجب أن يكبر في جويساعد على تعلم الأشياء المفيدة له، وعلى القيام بأنشطة تنمي ذكاءه ونشاطه الجسدي وهذا لا يمكن أن يكون إلا إذا وضع في مؤسسة مع أطفال مثله ومع مربيين وظيفتهم التعليم والتنشئة.
وألتزم كل منهما على حسب أوقات عمله بمرافقة أيمن إلى المدرسة في الصباح ليبقى في المدرسة فترة الغداء ويعود منها في المساء.

عاد من ذكرياته على صوت أيمن، أستيقظ من غفوته، وشرع يهلوس من أثر الحمى، عاود قياس الحرارة، لاحظ أنها ترتفع، والطفل يرتعش. تناول هاتفه النقال، واتصل بالطبيب، شرح للمساعدة حالة الطفل وذكرها أنه فُحص منذ يومين فقط ولا زال يأخذ الدواء، بعد استشارة الطبيب، طلبت منه أن يحضر الطفل للعيادة. حمل حسن أيمن بين يديه وأخذه في سيارة أجرة. أنتظر وقتا طويلا في العيادة إلى أن جاء دوره، عندما وضع أيمن فوق سرير الفحص، شرع الطبيب يتفحصه باهتمام وانشغال بالغين، قاس الحرارة والضغط، وكشف عن ظهره ولسانه، ولاحظ بقعا حمراء صغيرة فوق ذراعيه، سأل والده عنها، فأجاب أنه لا يدري، وعاد فسأل إذا ما كان الطفل يحك جلده، أم هي حساسية لمادة ما، تفكر الطبيب طويلا وقال لحسن: سأعطيه دواء أكثر فعالية وأتمنى أن يتحمله، وسأحتاج لتحاليل أولية. سأل حسن ولماذا هذه التحاليل؟ أجاب الطبيب: عندما يساورنا شك ولوطفيف، يجب تأكيده أوإلغاؤه.
بقي حسن مع أيمن طيلة النهار، تلقى خلالها عدة مكالمات من سميرة، وكان كل مرة يطمئنها، ولما سألته لماذا لم يرجعه إلى المدرسة، أجابها أنه فضل أن يريحه هذا النهار.

عند عودة سميرة من العمل، كان أيمن بدأ يتحسن، جلست بقربه بعض الوقت ثم نهضت لتقوم بالأعمال البيتية التي تجدها في انتظارها كل مساء لتنهك جسمها وتمتص ما تبقى من طاقتها. في آخر الليل، عندما أستسلم أيمن للنوم، قال لها حسن أن الطبيب أمر بإجراء بعض التحاليل في أقرب وقت، تساءلت عن السبب، وقررت أن تصحبه هي إلى المختبر وتخبر حسن إذا جد شيء.

بعد يومين، حملا نتائج التحاليل وأخذا أيمن إلى طبيبه المعتاد، لأول مرة يرافقه كلاهما، عادة ولإكراهات العمل، يذهب به أحدهما. هذه المرة، أختلف الأمر، وكانت سميرة هي التي شددت على ضرورة ذهابها، وقالت أن هذا الطبيب لم يعد يقنعها بعلاجاته، وإذا استمر حال أيمن هكذا، ستغيره. ما سمعاه من الطبيب بعد ذلك، أنساها ثورتها عليه، وخرجت مذهولة، شاردة الذهن، ولم تنبس بكلمة إلا عندما وصلا إلى البيت. حسن كان طوال الطريق، يعيد ويستعيد ما قاله الطبيب، يحاول التخمين، ويبحث في كلامه عن شيء حاول إخفاءه أومعلومة قالها دون أن يعي، ويسعى إلى استباق الآتي، والتنبؤ بالغد ليوفر على نفسه هذا الانتظار وهذا القلق. فكر في فتح الرسالة المغلقة التي مدها له الطبيب و بقيت في الظرف مع نتائج التحاليل، لكنه تراجع وخمن أن هذا لن يفيده في شيء، واستقر على أن يتبع تماما ما قاله الطبيب، لديه شكوك، وليس من اختصاصه تأكيدها أونفيها، وجههم إلى طبيب مختص، وأكد أنه لحد الساعة ليس هناك ما يقلق.

لم تجد سميرة الطاقة للقيام بالأشغال الشاقة اليومية، حضرت فقط لأيمن أكله، حسن لم تكن له رغبة في الأكل، ولا هي، فجلسا شاردين، إلى أن قالت، سـأرافقك غدا إلى الطبيب
أجاب حسن:
لا داعي، أذهب أنا بالطفل، وأنت التحقي بعملك، لا تنسي أنك تجاوزت الحد المعقول للغياب.
فعقبت:

لا يهمني، سأرافق أبني، ليذهب الكل إلى الجحيم، العمل ورئيس العمل، و...

ثلاثة أيام كانت كابوسا حقيقيا، حلم أخطبوطي طويل. في كل لحظة، نقول، هذا الكابوس سينتهي الآن، عند هذه النقطة، لا يمكن أن يستمر، لقد أستوفى كل رعبه، وخوفه، وقرفه وسنستفيق الآن، لكننا لا نفيق، ويستمر الهلع والفزع والانزعاج، والخوف من الآتي، وترقب الحاضر، والأمل في شيء يحدث يطمس في ثانية كل ما جرى. أنه انتظار المحظور، ما لا نرغبه، ولا قدرة لنا عليه. وكل ما اقتربنا من النهاية، أية نهاية كيفما كانت: الاستيقاظ من الحلم -الكابوس- أوتحقيقه، ليصبح واقعا، مِؤكدا، وقويا، نرفضه بكل ما أوتينا، لكنه يفرض نفسه. غير أن هذه النهاية لا تأتي ونظل في وضعية البين بين، بين الأمل واليأس، بين الإيمان والكفر، بين الراحة والعذاب. آه، لوكنا لا نُهيّأ إلى نهاياتنا، تأتينا، كالعواصف، فجائية، تأخذ ما تريد، وتترك ما يفيض عليها، ونظل نواجه قدرنا، في أقصر مسافة زمنية ممكنة ننتقل من حال إلى آخر ولا نحيا لحظات العبور هذه، بمللها، بكدرها، بعنفها وباشمئزازها.
كم هي رحيمة الطبيعة، تأخذنا على غفلة، ولا تعذبنا، أما بيئتنا المادية، فتغذي إكسير حياتها من معاناتنا، من الأوكسيد الذي تلفظه أعصابنا من شدة الضغط، من الإفرازات التي تتسلل من عضلاتنا عند كل مجهود جسدي.

اثنان وسبعون ساعة، كانت بالنسبة لحسن وسميرة، إختزالا لكل ما عايشاه فيما مضى مجتمعان، أوكل واحد على حدا، من أمل وألم، من ترجي وقنط، من صعود وهبوط، بل كانت عبورا اضطراريا، قد يرجعان منه في نصف الطريق إلى عالمهم المألوف، أويقلهما إلى الغامض المجهول.

في الهرولة بين مختبرات التحاليل وعيادات الأطباء ومراكز الفحص بالأشعة، والدوران بين شركة التأمين ومصلحة الموارد البشرية للشركة، للحصول على تحمل نسبي لهذا الفحص أوذاك التحليل، والاهتمام بحال أيمن الذي ضعفت معنوياته من كثرة التحاليل والفحوصات بالأشعة، مرت الثلاثة أيام كالبرق الخاطف، لا يترك الأثر إلا على من أصابه، غير أن إصابة سميرة وحسن كانت صميمية وموجعة، طفل في الخامسة من عمره، يصاب بسرطان في الدم، رغم ما تحدث عنه الأطباء من الأمل في الشفاء، ورغم محاولات المستخدمين الصحيين للتخفيف عنهما ورغم ما لاحظاه من العدد الليس بالقليل للأطفال المصابين بنفس المرض أوما شابهه، ومع اختلاف أعمارهم، لم يتقبلا- الاثنان معا- فرضية المرض، لم يصدقاها ولم يرضيا التعامل معها. سميرة، منذ أن تأكدت طبيعة المرض، لم تنبس بحرف، ولم تفعل شيئا، غير ما هوضروري لسير مسلسل التحليلات والفحوصات، وكان حسن يتوقع أن تسقط في غيبوبة في كل لحظة، وصار يراقبها في صمت. وفي مصحة ما، وهما ينتظران دورهما، وكان حسن قد خرج لتعبئة هاتفه النقال، دخلت سيدة صغيرة السن، في الأوائل العشرينيات من عمرها وفي يديها طفل رضيع، جلست إلى جانب سميرة، غير أن هذه الأخيرة، وهي في وجومها، لم تحس بوجودها، وفجأة أحست سميرة بسيدة أخرى تجلس قبالتها، تتحدث إلى أم الطفل الرضيع، فانتبهت، وتابعت حديث السيدتين، وفهمت أن الرضيع يعاني من نفس المرض الذي يعاني منه أيمن. سألت سميرة السيدة عن الوقت الذي ظهرت فيه الأعراض، وعن تشخيص الطبيب للحالة، وبينما هي تراقب الرضيع وهويلعب بيديه، وأمه تحكي لها، لم تحس إلا ودمعتين كبيرتين، تنزلا من عينيها لتسقطا مباشرة فوق الملف الذي كان بين يديها ليخلّفا بقعتين مبللتين طبعتا الورق المقوّى. وبعدها مباشرة تتابعت دموعها، ولم تتوقف حتى عندما عاد حسن، وتبادل معها بعض الكلمات، لم تستطع أن توقف سيلان دموعها، غير أن حسن أرتاح لدموعها، لأنه أحس أن سميرة بدأت تعي مرض أيمن ذلك أنها ولأول مرة أبدت رد فعل ما.

هي الدموع هكذا، لا تأتينا إلا عندما نتحسس آلامنا عبر آلام الآخرين.
وشيئا فشيئا ومع إعتياد جوالمصحات والعيادات، ومع التحدث إلى آباء وأمهات الأطفال الذين يعانون من نفس المرض، ومع ضحكات الأطفال المرضى أنفسهم، ومع الطلبات الاعتيادية لأيمن والتي لم تتغير حتى في مرضه، شرعا الاثنان في تبني الحالة المرضية والإيمان بحدوثها. وعادا إلى استئناف عملهما، وترتيب برنامج أيمن بين حصص المعالجة الكيماوية والمدرسة، ولم يعودا إلى استئناف حياتهما السابقة، عادا ككتلتين من العضل والعصب الآلي تحركهما الواجبات والضروريات. بالنسبة إلى سميرة، كانت نهاية المطاف، فلقد تزوجت وهي في الثلاثين، وهي مشرفة الآن على السابعة والثلاثين، وعندما دخل أيمن المدرسة كانت تتأرجح بين اتخاذ قرار بالحمل أوترك هذه المسألة للزمن، وهاهوالزمن قد تدخل. أيمكنها الآن أن تسقط حبلى كما في الماضي، ألها الرغبة حتى في الالتصاق بحسن، لتأتيها الرغبة في القيام بالفعل الذي ينتج عنه الحمل، أما زالت لها الطاقة لتكرار مسلسل أيمن، بالحمل والولادة وفترة الرضاعة وحتى ولوجه المدرسة، ألا زالت تقوى على تكرار التجربة بكل ما فيها من استنزاف لقوى مادية، وجسدية ومعنوية، وبعدها يأتي القدر ليأخذ كما أخذ دائما دون أن يعطي. هي تعرف أن هذا مقدر، وأنها يجب عليها أن تقبل، ولكن لماذا هي؟ ولماذا هي بالذات، ولماذا القدر يصيبها هي بالذات، ولماذا وهي التي ظلت تنتظر العريس منذ سن الثانية والعشرين، عندما حصلت على شهادة من مركز التكوين في عمليات الجمارك وإشتغلت في هذه الشركة المتخصصة في نقل البضائع، ولم يأت العريس إلى أن جاء حسن، ذوالخامسة والأربعين، والذي يشتغل مسؤولا تقنيا في إحدى الشركات المتخصصة في نقل المستخدمين، والذي عشق فتاة وهوفي الثامنة والعشرين من عمره، وعاشا كزوج وزوجة مدة خمس سنين وحين أراد الارتباط بها بعقد رسمي، رفض والدي الفتاة لأن حسن كان قد تربى في ملجأ وهومجهول النسب. وبقي عازبا إلى أن ضغط عليه الزملاء والأصدقاء، وكان أن زوجة زميل له تشتغل في نفس الشركة مع سميرة، وعرضت الفكرة على الاثنين وتم الاتفاق على الارتباط. وعندما جاء حسن لماذا لم يكن ميسور الحال كباقي الأزواج، فهوبالكاد يغطي مصاريف البيت وهي تساعده على مصاريف أيمن بما فيها المدرسة. وحتى علاقتها بحسن لا تتعدى أن تكون علاقة زواج محضة، عقد شرعي، باركه الوسط الاجتماعي وخصته مصادقة الروح والجسد. وحين أبتسم لها الزمن ورأت فرحتها تكبر يوما بعد يوم، هاهويعود ليأخذها بقسوة استثنائية. وهل تأمل في أن ترى فرحة ثانية، تتجسد أمامها، لا لن يقع هذا وهي تعرف موقف القدر منها، لن يمنحها شيئا، وقد أخذ منها أكثر مما أعطاها، وهويعرف هذا. وتراءى لها القدر مكورا في شكل آدمي وهي تواجهه، تَعُدّ له ما أخذ منها وما لم يعطها وتحاسبه، ولا ينطق محدثها بكلمة، كل ما يفعله أن ينظر إليها بهدوء ويبتسم، ثم يبتعد متثاقلا إلى أن يتوارى.

حسن، كان يعيش المحنة على مستوى آخر، ولأنه حرم الجوالأسري، ولأن والدي محبوبته الأولى، حالا بينه وبين تكوين الأسرة، ولما وافقت سميرة على الارتباط به، وجاء أيمن، أحس أن الحياة عوضته، ومنحته الأسرة التي حرم منها، ووهبته زوجة وطفلا، يمارس في كنفهما دورا مزدوجا: دور الأب-الراعي للمؤسسة ودور الأب-الابن المستفيد من العطف الأسري. أما الآن، فهويعود إلى حالته الأولى، إلى نقطة ما تحت الصفر، يتحول إلى عدد سلبي، ويرجع ذاك الطفل، المتخلى عنه، الغير المرغوب، المهمش والمنبوذ، والذي جاء إلى الدنيا غصبا وكان معاشه فيها حثلا، وأضحى يرى في ابتلائه هذا ما يراه الآخرون في مصيبته لأنه مخلوق أتى خارج شرع الله ولا يحق لللاشرعي أن ينبثق منه نبات طيب، وفكر أن سميرة تكون قد خمنت هذا وأنها الآن نادمة على زواجها منه وتعتقد أن الله يعاقبها لأنها وافقت على ربط حياتها بمن جاء ثمرة لخطيئة.

هكذا أصبحت حياة والدي أيمن، كل واحد غارق في انشغالاته اليومية، وخواطره المتشائمة دون أن يحدث الآخر بها ويكتفي الاثنان بتحديد المهام التي تتعلق بعلاج أيمن أوالتسيير الضروري للبيت.كان أيمن بالنسبة لحسن وسميرة، انتقاما من الحياة كلها، وبغياب أيمن، تفقد الحياة ماهيتها.

في ليلة ما، وحيث كان حسن ينام وحده في الغرفة، إذ اعتادت سميرة النوم إلى جانب أيمن منذ ظهور مرضه، استفاق بعد ساعتين من النوم فقط، ولم يعاوده النعاس مرة أخرى، رغم العشر ساعات التي يقضيها خارج البيت في العمل، ورغم مرافقته لأيمن في حصصه العلاجية ورغم حالة التفكير المزمن الذي أصابته منذ إكتشاف حالة أيمن، فقد أصبح الأرق يلازمه. في تلك الليلة، صار يتقلب في فراشه دون جدوى. شغل جهاز التلفزيون وجال بين القنوات، لا شيء يعنيه فيما يُقدّم، فكر في القراءة، لم تكن من عاداته، ولم يقرأ يوما ما كتابا منذ أن أنهي تكوينه في المركز. أخذ هاتفه النقال، وبدأ يقلب في برامجه، ألعاب، موسيقى، مذكرة .....وفكره يجول ولا يعي ما تقوم به أصابع يديه، بقي هكذا إلى أن سمع دندنة مكبر صوت المسجد القريب من البيت، فعرف أن إمام المسجد سيبدأ في قراءاته القرآنية ليعلن بعد ذلك آذان صلاة الفجر. أنسته قراءات الإمام وبدأ يتتبعها في اهتمام ويفكر في معانيها، بعد ذلك ألحت عليه فكرة غريبة عليه، لماذا لا يقوم ويتوضأ، وبعدها يصلي، حقيقي أنه لم يتوضأ يوما في حياته، ولكنه يعرف كيف يتوضأ، فلقد تعلم هذا عندما كان في المدرسة، حتى الصلاة، لم يسبق له أن أداها لكنه يعرف من المدرسة، من الزملاء ومن الأصدقاء. قام إلى الحمام، وتوضأ كمن يتوضأ كل نهار خمس مرات دون تردد أوتساءل، وبعدها أخذ سجادة صغيرة كانت تضعها سميرة في الصالون للزائرين الذين يرغبون في أداء الصلاة، وحين انتهى الإمام من الآذان، شرع هوفي صلاته، وأداها كمقيم متمرس للصلاة، بخشوع متميز، ساعده عليه، ابتعاده عن الاهتمام بالانشغالات المادية، وضيق صدره بما هوفيه. بعد الانتهاء من الصلاة، تناول مصحفا متوسط الحجم، كان في درج الصوان، وبدأ يقرأ إلى أن حان وقت استيقاظه اليومي، فأغلق المصحف وقام لارتداء ثيابه. في نفس اليوم وفي العمل، وحين أذّْن لصلاة الظهر، أنضم إلى كوكبة المصلين من الزملاء، وكانت أول مرة يصلي فيها بصحبتهم. حين انتهوا وتبادلوا الكلمات المعتادة بعد الصلاة، لم يُبدِ أحد منهم أية ملاحظة، عدا الحاج عمر وكان هوالذي يصلي بهم، قال له وهويمسك بذراعه، حين أصبحا في الممر المؤدي إلى الورشة التي يتواجد بها حسن, "جميل أن تبدأ الصلاة وتواظب عليها، أدع له، عسى الله يستجيب لك فيشفى"، رد حسن بإيماءة من رأسه، وافترقا عند باب الورشة.

حسن، ولأنه لم يرث شيئا، لم يكن مسلما بالوراثة، كان مسلما بالانتماء، ولأنه ينتمي إلى بلد مسلم، كان مسلما ولم يكن مشبعا بالهوية الدينية أي لم تكن له ممارسات دينية معينة ولم يكن له موروث ديني، بحكم تربيته خارج البيئة الأسرية ونظرا لكونه يشكل بمعية أقرانه ورفاقه زُمّرا مرفوضة من المجتمع، لم يستفيدوا من تربية دينية معينة، لأنهم- من منظور الآخرين- خارج نطاق الصلاح، والهدى، والتقوى. لهذا فهوكان يرى كل الممارسات الدينية لا تعنيه، إما لأنه ليس له الحق فيها، لكونه أتى نتيجة الضلال والعصيان، وإما لأنها لا تحق له ككل الامتيازات التي تحق للناس العاديين فقط، وهوليس عاديا.

سميرة، لم تخرج من يأسها، ظلت غارقة في كربها وألمها، هزل جسمها، وشحب لون وجهها، واتسعت مساحة الزرقة التي تغطي تحت عينيها. ولم يسعف معها شيء، لا محاولات والدتها لإقناعها بقبول المقدّر، ولا تدخلات الصديقات لحثها على الصبر والتماسك، وأن هذه مشيئة الله ويجب الإذعان لها، وأن الله أراد اختبارها وسيعوض عليها مصابها، ولا مديرها الذي غير من سلوكه اتجاهها، وقال لها: " ابقي إلى جانب ابنك حتى يشفى وأجرتك تصلك كما لوتشتغلين". ولا المودة التي أبداها حسن لها والتي لم تحسها قبل مرض أيمن. حسن، كان يؤمن أن زوجته أحق بالشفقة وبالمؤازرة، وأنها أكثر حقا في أيمن، لأنها أداة الخلق وأول مهد لأيمن. لكن لا شيء من هذا هز سميرة أوخفف عنها، وظلت تردد بينها وبين نفسها، لا شيء حولي يعنيني غير أيمن.

ومع تدهور نفسية سميرة، تتدهور حالة أيمن الصحية، وكأنه مازال في رحمها، يستمد منها نبع حياته، واستمر بهما الحال إلى أن شغل أيمن سريرا في مصحة متخصصة في حالته، ودخلت هي مصحة أخرى بسبب ضعف عام أصابها، وظل حسن يتنقل بين المصحتين ويقتسم نهاره بين زيارة سميرة والجلوس إلى جانب أيمن.

في صباح يوم من الأيام، وأثناء زياراته الصباحية لأيمن، وأمام باب غرفته، بادرته الممرضة بأن لا داعي للدخول، وقدمت له، بصوت متهدج، تعزية مختصرة. كان قد بدأ يعد نفسه لهذا اليوم في الأيام الأخيرة، لكن في تلك اللحظة، ذهب فكره إلى سميرة، فترك المصحة للتووتوجه إلى سميرة. بمجرد أن دخل عليها وتلك النظرة في عينيه، ويده اليمنى تتحسس شيئا لتستند عليه، حتى صدرت عنها صرخة مدوية، وصل صداها إلى خارج أسوار المستشفى، وأفزعت المرضى والمستخدمين واستنفرتهم في البحث عن مصدر الصوت. أستغرب حسن قوة الصوت المنبعث من ذاك الجسم السقيم والمنهك. دخلتا عليهما ممرضتان، ومن تسمرهما كل في موضعه، حظرتا الحدث، وقفت إحداهما بجانب الثكلى، في حين اقتربت الثانية من حسن، وبينما كانت الأولى تحتضن سميرة وتهدئها، همست الأخرى تعزي حسن وقالت تنبهه أن زوجته حبلى في الشهر الثاني، ولا يصح أن تظل تتأسى هكذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى