الثلاثاء ٢١ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم مهند عارف النابلسي

البيروقراطية: آفة الإدارة الكبرى!

كيف تسلل الفساد للعديد من المؤسسات العربية؟!

إنها العبارات المطاطة مثل «سنأخذ ذلك بعين الاعتبار» حيث تتحول الصراحة إلى مراوغة وغموض، وحيث يتحول تعبير «أنا» الشجاع إلى تعبير «نحن» المتخاذل، وحيث يتحول مفهوم «العزيمة» إلى حالة هلامية، ويتستر المسؤولون خلف ما يسمى ثقافة المؤسسة التي تحفل بفرق العمل والمستشارين والخبراء الأجانب ولجان الدراسة. وحيث تظهر النتائج في جو توفيقي مدروس وتعلو الأصوات الحيادية التي لا يمكن أن تلام: «لقد تقرر دمج الدائرتين» أو«لقد أخذت وجهة نظرك بعين الاعتبار». لقد تمت تغذية مفهوم «ثقافة المؤسسة» الجديدة بواسطة اللغة البيروقراطية وقد شحنت بعبارات منسقة غامضة.....إنها البيروقراطية: لغة النفاق والمراوغة!

ينتج من تطبيق برنامج «تعزيز الإنتاجية والربحية» تسريح مئات العاملين وخسارة لا بأس بها للكوادر الكفؤة تحت ما يسمى «التقاعد المبكر»، والهدف هنا هو تحقيق إستراتيجية «قصر النظر المبكر»، والتي تعوض ظاهريا بهذه الإجراءات «الحازمة شكليا» الخسارة المتراكمة عبر السنين والناتجة عن تضخم «الفساد الإداري» في المؤسسة. في مؤسسة أخرى أنكر إداري رغبته في مناقشة المعلومات الخاصة بتشريعات مؤسسته، وأخفى ذلك ضمن عبارة " سأقدم تقريرا يشير لأهمية المواضيع المتعلقة بتوجيه إستراتيجية الحاسوب، علما بأني حاولت جهدي الانغماس في التشريعات والأمور الإحصائية، بينما من المهم المحافظة على فهم حيادي واضح لمسار الأحداث القائم، فانا معني أكثر بالتطبيق المباشر للتشريعات على المستوى التشريعي" هل فهم أحدا شيئا من هذه الحذلقة الكلامية المراوغة؟!

لماذا يتم التعبير بهذا الشكل الغامض غير المفهوم؟ لماذا يتحول"الحديث العادي" إلى "اتصال داخلي"؟ ولماذا يتحول الاحتراف الطبي إلى مفهوم" تزويد الرعاية الصحية اللازمة"؟، ثم لماذا تتحول " تعليمات العمل" إلى" وثائق تشغيل صارمة"، ولماذا تتحول إجراءات التشغيل غير الرسمية إلى إجراءات غير مطابقة للمواصفات، ولماذا يتحول مفهوم " تغيير الأحوال " إلى "تغيير اسلوب العمل"، ثم لماذا يتغير مفهوم الإيقاف عن العمل إلى "مغادرة إدارية"؟!

والأمثلة تطول ولكن أكثرها مراوغة حالة إنهاء مشروع ما، فالبلاغة البيروقراطية تحوله لتعبير " الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر دقة وفعالية"، وهذه تشبه في التلاعب اللفظي حالة" الاغتيال" في لغة عصابات المافيا " حيث تتم الإشارة لها بجملة اصطلاحية مراوغة مثل" لقد قدمنا له عرضا مغريا لن يرفضه"!

الفساد يتسلل كالصرصار الضخم داخل رداء البيروقراطية الفضفاض فيطلب منك المدير الفني أن تتأخر مثلا وزملائك لدراسة عطاء فني، ناقلا وموضحا رغبة المدير العام بإرساء العطاء والمفاضلة على إحدى الشركات وحتى وان كان عرضها ليس الأفضل، وحتى إذا رفضت ذلك و لم تستجب واستنكفت عن التوقيع، فلا توجد مشكلة، فتوقيعك البائس واسمك سيظهران على أي حال، ولك أن تنتظر وتتوقع بعد ذلك عقابا مؤلما رادعا يتجسد في تجميد راتبك وحجب زيادتك السنوية المتوقعة، وإذا اعترضت فالجواب البيروقراطي جاهز دوما لمعالجة المتمردين أمثالك:" لقد قررنا تجميد راتبك لأنه كان مرتفع أصلا ولإحداث توازن مطلوب في سلم الرواتب وإصلاح الخلل"! كيف يستطيع شخص ما أن يدين إجابة بيروقراطية كهذه والتي تهدف بجوهرها لأن تغطي على الفعل الانتقامي لتأديب موظف نزيه رفض ان يتواطىء مع فعل الفساد السافر! هكذا والأمثلة على تستر الفساد وراء البيروقراطية كثيرة ويصعب حصرها، وللطرافة فمعظم الفاسدين البيروقراطيين يتشدقون بتعبيرات حيادية ويطلقونها عادة بشكل تصريحات خطابية، فهم يكثرون من تعبيرات: نحن - في الحقيقية- في الواقع - حتى تتضح الصورة – العدل والمساواة –المصلحة العامة---تعزيز الإنتاجية والربحية – سنولي هذا الموضوع أقصى اهتمامنا – يجب البدء فورا.......الخ.

كذلك تساعد البيروقراطية المترددين في اتخاذ القرارات " الغامضة " وكذلك هؤلاء العاجزين عن انجاز المهمات، وتسهل " أجنداتهم " في إعاقة انطلاقة المؤسسات وإحباط المبدعين، وهناك أمثلة تخفي تعبيرات غامضة مثل: لن ندعم برمجيات الحاسوب الحالية بعد شهر كانون الثاني! وكذلك في عبارة: " لقد تمت الاتصالات مع الجهات المسؤولة لدراسة خيارات محتملة"! وكلها تعني باختصار أن الشخص المعني قد استنكف عن بذل الجهود المطلوبة لحل مشاكل الحاسوب أو لانجاز المهام المطلوبة.

يحاول البيروقراطيون دوما حماية أنفسهم وانجازاتهم المتواضعة، وتجنب النقد والملامة من قبل المقيمين والمدققين، لذا فقد تعلموا أن يستخدموا التعبيرات المبهمة الفضفاضة التي تسمح بتأويل الكلام وحجب النقد وتمييع المواضيع، ولنأخذ على سبيل المثال حالات الادعاء التالية:

* شخص مطلوب منه انجاز عمل ما ويقصر في أداء المهمة، فيقول معلقا على تقصيره:" يجب انجاز العمل كاملا من المرة الاولى "! وكأنه يغطي على تخاذله!

* قيادي رفيع، بدل المتابعة الحثيثة لتفاصيل عمله واتخاذ الإجراءات العملية الكفيلة بإنجاحه، يسوق الحجج التالية: من المستحيل الاستمرار بهذا الشكل، فنحن نملك رصيدا مفتوحا لشراء ما يلزم، ولكننا يا إخوان لا نستطيع الاستمرار هكذا....فنحن نضيع الوقت! ثم يستطرد قائلا: " المهم أن نتعلم من دروسنا!"

* ثم الكم الهائل من النصائح البيروقراطية المتبجحة: إنها تقارير منسقة و"صف" كلام فقط، اعملوا كفريق متناسق متداخل، دربوا الآخرين، حددوا الأولويات، اعملوا على تحقيق المطلوب بلا كلل أو ملل، سنفكر مليا في الموضوع وسنخرج بأفكار مفيدة، دعونا نقوم بالعصف الذهني، الموضوع شائك وليس بالسهولة التي تتوقعونها، المدير يفكر باتخاذ قرار حاسم بعد الاطلاع على كافة الحيثيات، ملفك الآن على طاولة المدير لحسم الموضوع، ثم المبالغة في المزايدة: "اعملوا كمشرفي نظافة إذا لزم الأمر"!

البيروقراطية تعدي بفيروساتها المؤثرة.....لذا فهي خطيرة حتى لهؤلاء اللذين كانوا ينتقدونها في البداية، وقد أصبحوا الآن عاجزين عن مقاومة تأثيراتها الخفية، وبدون وعي فان الناس قد تعودت على استيعاب الاسلوب المتضخم في الكلام البيروقراطي، مما يدعم مصداقية البيروقراطيين ويزيد من نفوذهم العملي، والغريب أن هذا الاسلوب المزيف يتمتع بجاذبية تعطي صاحبها صورة الشخص المهم المتمكن!

البيروقراطية تكره التطوير وتدعيه، ويسعى كهنتها لأن يحبطوا وبسرعة أية محاولة للتحسين لأنها تعني إضعاف مراكز نفوذهم المتضخمة ونرجسيتهم السادية، بل أنهم يخفون أنفسهم وراء شعارات إدارة التغيير لكي يكرسوا ببشاعة كل الممارسات العقيمة في الإدارة القديمة، وفي الوقت الذي يظهرون فيه حماسة لمقاومة المركزية فإنهم يمارسون التسلط والهيمنة واحتكار الصواب في أبشع الصور حتى لو أدى ذلك لإقامة مشاريع فاشلة باهظة التكاليف، كما أنهم يحاولون" تفشيل " النجاحات والاقتراحات البناءة بشكل تدريجي منسق، ويشكلون بالخفاء طابورا خامسا محبطا، حتى أنهم لا يخفون في النهاية" سعادتهم الجمة" عندما يتمكنوا أخيرا من إخراج رموز وقادة التغيير من اللعبة برمتها بحجة انتهاء المشروع وعدم وجود شاغر لهم في الهيكل التنظيمي الجديد للمؤسسة، كما أنهم يعتبرون فشل"التغيير" نجاحا لهم، لأن التغيير " يقزم " دورهم في المؤسسات ويلغي تأثيرهم المتضخم لدى أصحاب القرار!

كيف تقاوم البيروقراطية؟ باليقظة والانتباه، بعدم تقبل الأشياء على علاتها والاقتناع بأي كلام، بالاستفسار المستمر وطلب الإيضاحات، وقبل قول أو كتابة أي شيء يجب التفكير أولا......قد يبدو ذلك بديهيا ولكنه أساسي لمواجهة هذه الآفة الإدارية التي تخفي داخلها التقاعس والادعاء والفساد، وتضيع الفرص على النجاح والإبداع والتقدم، إذن: الاتصال الفعال والصراحة والرغبة الجارفة بالانجاز والشفافية وتوضيح الأمور ووضعها في سياقها الصحيح، وفضح ممارسات الإدارة البيروقراطية ونمط تفكيرها (بنشر هذا المقال مثلا!)، ثم التوعية و التفكير أولا وأخيرا، هي العناصر الفعالة لمقاومة البيروقراطية وشرورها الفتاكة في الإدارة العربية، ولنكن واقعيين ونعترف أن كثيرا من ممارسات الفساد المتنوعة في جسم الإدارات العربية والتي استشرت كالسرطان بتأثير تولي وتوارث البيروقراطيين العرب (الفاسدين في معظمهم) لمناصب قيادية في كافة المؤسسات العامة والخاصة، وهي التي ساهمت في المحصلة (ولحد ما) في حدوث احتقان شعبي جارف أدى لتأجيج ربيع الثورات العربية. ولكن لنكن أيضا موضوعيين ونعترف أن البيروقراطية ليست حكرا على الشركات المحلية والعربية كما يعتقد غالبا، فقد تعشش في بؤر مخفية وفي ثنايا الواجهات البراقة للشركات الأجنبية الكبيرة العملاقة، ولا يلزم إلا البحث والتمحيص لكشف ذلك، وأخيرا كن حذرا، فقد يتربص لك البيروقراطيون بالمرصاد إذا ما كشفت لعبتهم، وقد تخسر وظيفتك!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى