الاثنين ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم عبد النور إدريس

قراءة سيميائية في ديوان معلقة باريس

«إن مهمة الشعراء هي أن يكونوا حراس السر إلى يومنا هذا» بوفري

1-تقديم: سؤال الشعري في جُبّة الفلسفي

هل يمكن تفجير هذا القلق الوجودي الذي ينتمي إليه شعر الشاعر الفيلسوف عبد الله الطني وهو يغني اغراءات باريس؟

هل الشعر عنده يستنشق نفس الهواء الذي تتنفسه الفلسفة؟

هل يمكن أن يصب نهر شعره الحالم في نفس بحر الفلسفة العقلانية وتُغرقه أكاليلها المنطقية في نفس الحلم المشترك ونفس السؤال الذي يعشق الامتداد؟

أن تقبض على اختراقات الشعر للذات والكائن، أن تعبُر امتدادك حلما، هو أن تقبض على المصير الماكر للوجود، أن تبني حقيقة الشعر على الحلم فقط والخيال الجامح هو أن تؤسس لعلاقة التضاد بين الشعر والفلسفة إلى حدود قيادة التضاد بينهما باتجاه القطيعة.

أكيد أن الشعر والفلسفة من طبيعة مختلفة لكن مظاهر الوجود ماتزال تؤسس لعدم الفصل بينهما، هذا التواشج الفكري الذي يقول مظاهر الحياة وظواهر الوجود نجده في شعر عبد الله الطني متسربلا بتطلعات الحلم والخيال بما هو تاريخ الشعر ممزوجا بنكهة ترسم الإشكال على الحدود الفاصلة بين دهشة السؤال عن الوجود، وبين ما يحدد شروط علائق الفلسفة كحقيقة منطقية واجبة بذاتها.

ماذا يحدث
لو أن الحُلم الغامر مثل النهر
يُسرج عينيه ويحمل صاحبه نحو عوالمه
طولَ العمر وعرضَ الشعر
فلا يصحو

(معلقة باريس – سرنمة البعث ص: 9)

قد تجد الشاعر هنا يدغدغ الوجود عبر اللغة لكن الحكمة هنا تفيض على السياق اللغوي وقد تواطأ الشاعر مع قوى الحلم لينسج لنا خيطا ناظما لنفس الواقع غير القابل للتجزيء بين الحلم والواقع حيث يمتزجان في القصيدة بشكل أثيري يحكمه الافتتان بهما معا،

ماذا يحدث
لو أن رؤاكم
أيها الغرباء
توزعت مُدنا
فوق الأرض
وصارت أحلامكم
بالنهار المضيء حمامها

(سرنمة الرؤيا ص: 15)

2. من قول الوجود إلى تسمية المقدس

لغة الشعر الحالمة لاتخون لغة الإله لأنها قريبة من لغة السماء، هكذا يتجلى القول الشعري عند عبد الله الطني فيحيل تارة على الفكر، وتارة أخرى على تمظهراته، وهما معا تضافرا داخل الديوان ليحيلان على ماهو مفتوح و متجاور مع الذات، فكل من الشعر والفلسفة ينقشان وجودهما عبر اللغة، وإن امتزج الحلم بالخيال، بالواقع في الديوان فإن الانحراف الدائم الذي نرصده هنا يتجلى من خلال تواجد ما يقارب 22 علامة استفهام مصحوبة بعلامة التعجب مبثوثة في الديوان لتأسس عالم الأجوبة التي تحفل بها العوالم المعطاة وهي تعتنق مدينة أقل ما يقال عنها، أن من زارها قد ينال حصته من الجنة، إن قلق السؤال الشعري يلقي بظله في النص باعتباره أصلا تدرك من خلال السؤال وتبرر وجوده، فهو بالمفهوم الابستمولوجي للكلمة يشي بحقيقة مقدسة تصدر في الديوان كحس صوفي بالأمكنة، إذ للأمكنة عشقها المدمر، والشاعر وحده قادر على تحديد أبعاد هذا العشق متوحدا مع العالم بأبعاده الأربعة: الآلهة والانسان والمكان والزمان....

3. شاعر المعلقة شاعر السر

تعتبر الفلسفة دوما حارسة عرش الحقيقة والناطق الرسمي باسم أنماط استعراضها على شكل معقولات، ومن هنا يمكن طرح السؤال مجددا على طبيعة العلاقة القائمة بين الشاعر والفيلسوف، فهل مارس صاحب معلقة باريس الفلسفة بوصفها حالة شعرية أم بوصفها أشكال التحقق المتولدة عن مكان " هو باريس هنا " تُدرك عبره باعتبارها تأثيثا أوليا للعناصر التي تعطي للقول الشعري بُعده الجمالي القادر على صياغة القيم الفلسفية وفق رؤى تتحدد من خلالها الإرغامات المعرفية.

إن الانتقال من البنية الفلسفية للديوان إلى البنية الشعرية لا يحدد الألوان الثقافية لكافة النصوص، بل إن ما يحدده هذا الانتقال يؤثر بشكل واضح في الوقع الجمالي الذي نستشعره من متعة الإحساس بجاذبية المكان ونحن منخرطين في عملية التلقي.

من أخبر باريس
بأن ميلاد القصيدة
يبدأ من عينيّ
وإذا أمست شجرا
تاهت عيناي بغابته
فكتاب الأشجار لا تأويل له
وأجمل ما فيه التيه
فرمت حولي
من أول نظرة ولقاء
غابات وشباكا تاهبها ولهي

(ألواح لاديفونس ص: 86)

إن التحققات المتنوعة للقيم الثقافية داخل النص تخلق سلسلة من الأشكال الوجودية الخاصة بقيم لا يستسيغها منطق النص الشعري إلا من خلال حضورها بفضاء شاعري لكنه أكثر واقعية من وصفه، قد يمنح لهذه القيم أبعادها الزمنية.

كان إبفيل شاعرا ينام قرونا
بمغارة هيرقل بكف البحر
منذ خسوف مجرتنا الأولى
يحلم فوق وسادة طنجة
تعلوه سوالفها
يحلم بالتحليق بعيدا
نحو كواكب لا نعرفها

(معلقة إيفيل ص: 79)

وإذ أن قيمة العالم تكمن في التأويل الذي نمنحه له كلما تجلّى مُسقطا الواقع في حبائله الشعرية، فإن تناقضاته الداخلية لا تستجيب إلا لإمكانيات الخرق التي تفرضها الرؤية الفلسفية على السياقات العادية، هكذا نجد أنفسنا في نصوص ديوان معلقة باريس أمام ترسيمة أساسية " الشعر- الفلسفة" التي تنشحن راضخة في وقائع ملموسة انطلاقا من وجود تموجات نفسية ماتزال تفرض على طول الخط الشعري داخل الديوان سلسلة إرغاماتها على قواعد البناء الشعري بصفتها سندا لكل التحولات على صعيد التجلي الدلالي.

آه لو كانت
هضبة فيمي Vimi
تُنطق
وينطق فوقها حزن الشجر
وتنطق التربة
من فرط الارتواء
والدماء التي ما جفت بها
رغم الذي
تهاطل فوقها
من مطر

(بعقدك بصمات من ماضي دمي ص: 97-98)

ثم يقول:

قال أنين الأرض:
هنا يرقد أسلافك
من أجل فداها
أوَ تسعُ وستون عاما مضت
ولا زال لباريس بريق
يأتيها الدهر عشقا وقهرا
بالأرواح وبالمُثُل

(ص:100)

4. عندما ينتج سؤال الذات امتداداتها الممكنة

يرتكن التأويل بجانب نص " ماكنت لألقاك" الذي يبني استراتيجيته وفق العوالم المخيالية المنبثقة عن مرآة السؤال التي تعكس في نفس الآن سؤال الوجود وسؤال الذات.

قد ندفع بالتأويل إلى رصد معنمي لا يستقيم أودها إلا من خلال تحقق خاص، فما تُخبرنا به القصيدة ليس انشطارات ذات تحقق رؤى عامة وليس انكسارات الآخر تحقق مبادئ غربة عامة، وإنما يتم الاخبار بما يتسلل إلى ذات الشاعر المنكتبة، إلى ذات النص المكتوب من انكسارات هذه المدينة الغاوية التي تقدم العشق المُتاح وتتجوهر في كينونة الزوار حيث تُطوى امتدادات الكائن.

فأين يقع المستوى الشعري من عملية انتاج الدلالة الفلسفية داخل النص الشعري الذي لا يشكل سوى لحظة التوسط بين تجلي المعاني على شكل محافل أولية، وبين الصيغ التجريدية التي تُلخص البناء النفسي للشاعر وهو يتلقى وجوده المتشظي على شكل عشق، ما إن يضع محافله النهائية " أشرف وإكرام" على أبواب الحياة حتى يصبحان مسارات مرتحلة في فعله الوجودي، كما يحدد حفيده " فارس" الدلالة الوجودية القصوى التي تتركها ذات الشاعر في الوجود المفارق وفي الامتداد الآخر.

ما كنت لألقاك
لو ما سبق العين إليك
أول البراعم من جسدي
لألقاه أزهر بين يديك

(" ماكنت لألقاك" ص:44)

وكأن الدم بعد تسع وستون عاما ما يزال حاضرا في مجرى التاريخ يذلّ الشاعر قهرا وحنانا، ويُقتّل الأبناء عشقا.

قلت سمّه قهرا
أو موتا- لا يهم-
فمن قهر باريس ما أذل
ومن عشق باريس ما قتل

(ومن عشق باريس ما قتل ص: 100)
ثم يقول الشاعر في ديباجته بالصفحة الثانية والثالثة:" وإن كنت قد وُلدت مرات ومرات في عوالم وأماكن لا أعلم عددها جميعا ولا أزمنة الولادة فيها، فإنني أعلم آخرها لحد الآن، وهي ولادتي الجديدة في باريس من خلال حفيدي وامتدادي بها فارس"( ص:2)

5. هسيس الوجود يجوهر المكون اللغوي

أن يكون للشعر قيمة فنية معينة هو أن يأتي من الداخل، فلعبة الداخل تعرف تدليلها من الكون الشعري لعبد الله الطنّي الذي تعتبر جملته الشعرية من أنقى الجمل الشعرية والتي تبدأ فيها الجملة الشعرية ثورتها على علامات الترقيم ليصبح المعنى دائريا يتجاوز حجم وامتداد المعاني المعروفة والمبثوثة في البناء النصي الشعري.

إن النمط الشعري الذي يحدد التمفصلات المعنمية الكبرى التي أقام عليها عبد الله الطني هيكله الفني لعدد من قصائد الديوان محكومة بخلفية المتلقي من حيث ما وضعه فيها من خصائص يستطيع القارئ تحديد تقاطعاتها الدلالية، خاصة وهي تدفع بالإمكانية القصوى لتأويل الجملة الشعرية انطلاقا من الحياة التي تبثها الصور الشعرية المتخيلة والمنسوجة بإتقان في حنايا النصوص التي تمنح العين مدركاتها، وهي خصائص أسلوبية امتازت بها قصائد الديوان حيث تستورد اللغة سلسلة لا متناهية من الجمل الفنية لتَصْدُرها لوحات فنية تحتوي على درجة متقنة من مقروئية هذا العالم الذي يدور عبد الله الطني في فلكه، وتتجلى تلك السيولة التي للمكان في توأمة الانشطار والتلاحم الذي يربط الشوق بالموت وهي لوحة يعانق فيها الشوق الألم ويترنم في هذا التناسب بمقتضيات ما تفرزه اللحظة الشعرية من متعة وقلق، وهي اللوحة الثانية من قصيدة " ما كنت لألقاك" وهي تنفذ أحكام الطبيعة لتتحول متشرنقة من الأب إلى الإبن إلى الحفيد ولكل التحول الأزلي للعناق الممكن بين الشوق والموت.

وينحو لإبراز الإمكانات المحتملة للمتخيل كي يجدد في السياقات التي تستمد قوتها من رؤية الشاعر لنفسه ولمجتمعه على صفحة مرآة تستطيع أن تجعل المحفل الشعري بوابة لفعل تم تغييبه وهو الفعل الشعري الذي يملك صلاحية تغيير أدواته ولغته ورؤيته كي يجعل الكلمة الشعرية أداة تواصل ومعرفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى