الاثنين ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم فاروق مواسي

سالم جبران مفكرًا

على كثرة الدراسات التي تناولت هذا الأديب أو ذاك في كتاباته شكلاً ومضمونًا إلا أن من الندرة أن نجد دراسة لفكر أديب بيننا من حيث منطلقاته ورؤيته أو على سبيل التجوز فلسفته ونظريته،أو موقفه- والإنسان موقف.

يلقب هذا شاعر المرأة، وذاك شاعر العروبة، هذا شاعر القضية الفلسطينية، وذاك شاعر الكنعانية، ونجد مسميات أخرى ككاتب الأرض وكاتب الوطن وأديب المقاومة...إلخ
أما ما معنى ذلك باتساع الشرح، وتعمق الفكرة، باستقصاء المعنى، وبأن يوشك المدلول على أن يكون جامعًا مانعًا فهذا ما لا سبيل إليه.

سأتناول في هذه الصفحات فكر سالم جبران في مرحلة ما بعد انفصاله عن الحزب الشيوعي، ذلك لأن المرحلة الشيوعية النشطة كانت غير مستقلة التعبير، فهو جزء من آلة، وعضو من جسم، حتى ولو كانت له آراؤه الخاصة، فما دامت غير منشورة فهي لا تقع في هذه الدراسة ضمن دائرة المساءلة.

يشفع لي في دراسة سالم جبران المفكر القلق المنظر طول صحبة، سواء في مكان عمله في جبعات حبيبة القريبة من سكناي، أو في الزيارات المتبادلة، أو في المؤتمرات التي عقدتها منظمة التوجيه السياسي الألماني، حيث شاركنا في سبعة مؤتمرات- خمسة منها في ألمانيا، وواحد في جبعات حبيبة، وواحد في أريحا، وهي تضم أدباء فلسطينيين وإسرائيليين وألمانًا. ولا أنس قراءتي له في المقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والمواقع، وهي كثيرة وفيرة في البلاد وخارجها.

وقد أصدر مجلة الثقافة التي شرفني بأن أكون عضوًا في هيئة تحريرها، كما أصدر مجلة المستقبل.

يستطيع من يبحث عن دلالة الأسماء على طريقة جينيت في بيان وظائف العنوان التعيينية والوصفية والإيحائية أن يطمئن إلى أن عنصر الثقافة كان موجهًا في حسابه نحو مستقبل هذا الشعب- أو الأهالي (سمى صحيفة رأس تحريرها هذا الاسم)- الأهالي الذين يؤرقه حالهم، ويبحث لهم عن كلمة مقرونة بالفعل. يرى سالم أن ليس هناك فصل أو عزل بين الثقافة والمجتمع، بين الإبداع الروحي والنضال الاجتماعي، فالإبداع هو وليد طبيعي للمجتمع، ومن أجل مستقبله يساهم في التغيير. (المستقبل، عدد نيسان 2005، ص 4)، وفي السطرين اللذين سطرهما على غلاف هذا العدد الأول من المستقبل ما يؤكد ذلك: "نحو المستقبل- منبر للثقافة والنقد، منبر للحوار والصراع والتغيير"

في العدد الأول من مجلة الثقافة التي حررها سالم (كانون الأول 1992) يقدم "بطاقة هوية" تعريفية لطموحات المجلة، فيبدأ بمقولة شبلي الشميل: "إن مجتمعنا العربي الراكد الخامل بحاجة إلى هزة ورجة". لا أظن أن سالمًا لم يكن وراء النص الغائب، ووراء النص المنبثق من قرارته وقراراته، فهو يرى أن من واجبه أن يحرك ويتحرك في هذا العالم الذي يموج بالمتغيرات السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية. ويسوق لنا في مكان آخر مقولة الشاعر إبراهيم نصر الله إن "المثقف ينسج حلمًا ويقترحه على شعبه" – (الثقافة – العدد الثاني كانون الثاني،1993، ص 4)، ففي رأي سالم أن هذه الرؤية التي يتبناها هي ماركسية حقيقية، ويستشهد بقول غرامشي الإيطالي:

"إن الشك فقط يوصل لليقين، ويجب عدم الخلود لليقين لحظة واحدة، فكما أن المادة في حركة دائمة هكذا أيضًا هي المعرفة الإنسانية. الطموح إلى التجديد، والصراع في سبيل التجديد هو روح الثورة".# وقد طالعنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة المستقبل (نيسان 1995) أنه يريد أن يجعل من المجلة ساحة نقاشات وصراعات حقيقية بين الأدباء في إطار من احترام التعددية، وانتهاج الصراع كشفًا للحقيقة، فغياب الصراع هو الموت الثقافي، وحيوية الصراع هي تجدد الحياة والثقافة. إذن فمن أجل تحقيق التغيير يرى أن نولي الصراع أهمية بالغة حتى نترجم الحقيقة إلى بناء، إلى جدوى.#

يعرف سالم الذي ثقف الماركسية وسار بوحيها أننا بحاجة إلى العلمية، أن نسأل وأن نشك، وأن نبحث، وأن نحاول أن نعرف، فنحن لا نعرف جوابًا قاطعًا صحيحًا وكاملاً لأي سؤال، فاليقين المطلق يغلق المنافذ لهواء صحي. يقول سالم: "نحن لا نخاف من الأسئلة التي لا أجوبة لها، فالتساؤل هو أساس المعرفة الإنسانية، وهو الضمان لاستمرار تطور المعرفة" (المستقبل، عدد نيسان 1995، ص 4)

إنه مؤمن بأن كل تغيير يبدأ حلمًا ثقافيًا، يتحول بعد ذلك إلى فكرة اجتماعية، وما يلبث أن يصبح حركة اجتماعية.

يعود سالم ليستشهد بقول لينين أمام طلاب جامعة موسكو: "إن الإنسان بحاجة ماسة إلى القدرة على الحلم، وإذا فقد القدرة على الحلم فقد القدرة على الإبداع، وبالتالي فقد العطاء الإنساني الخلاق" (الثقافة،عدد نيسان 1993، ص 4)، فالحلم هو عماد التغيير، ويورد سالم في هذا السياق إجابة سارتر لمن سأله عن صفات المثقف الحقيقي: "القلق الدائم، الشجاعة الدائمة للانتقاد، عدم الاكتفاء الدائم، القدرة الدائمة على الحلم"، فيجد سالم نفسه متحمسًا لهذا الحلم:

"إننا نعتقد بأن القوى التقدمية الطليعية الثورية سوف تجد الطاقات الخلاقة فيها لتقييم المرحلة لصياغة رؤية متجددة – لصياغة الحلم، أو على الأقل لإعادة صياغة الحلم".

ويأتي السؤال: كيف يرى سالم التغيير؟

يؤمن سالم بأن الحركة بركة للمجتمع، فالنهر الذي يكف عن التدفق إلى أمام سرعان ما يتحول إلى مياه آسنة، فالحقيقة نهر متحرك متدفق، والحياة نهر متدفق أبدًا، وهكذا الفكر، وهكذا الثقافة. (المستقبل، عدد نيسان 1995، ص 4).

يرى سالم ضرورة تصفية الموقف الرجعي من المرأة، وإلى رفع الغبن عنها، وإلى النضال لمشاركتها على قدم المساواة مع الرجل في المجتمع، وعليه، فيجب محاربة المحاولات الخطيرة لاستخدام الأديان لمحاصرة النضال الاجتماعي والسياسي للنساء، فــ"لا رب الكون ولا أنبياؤه يقبلون أن تكون المرأة ذليلة محاصرة، أو مشلولة عاجزة سياسيًا" (المستقبل، عدد تموز 2005، ص 5)، فالمرأة هي مربية الأجيال، فإذا كانت مقموعة فإن الأجيال ستنشأ مقموعة ومعقدة نفسانيًا واجتماعيًا، الأمر الذي يحتم النضال ضد كل الآراء المسبقة الرهيبة الظلامية، فكأنما الرجال المقموعون من النظام الحاكم "يفشون غلهم" في النساء.
ويذهب سالم إلى أن هناك فكرًا نيِّرًا مدهشاً أخذ تدريجيًا يطالب بحرية المرأة وحقها في العلم والعمل والتمثيل السياسي، وهذا في رأيه "مما ينسف الشعوذة الأصولية التي تلطخ تاريخنا وتلطخ حاضرنا ومستقبلنا."

ثم إن التغيير في المجتمع العربي أحوج ما يكون إلى التعددية، لا إلى "ثقافة القطيع" (المستقبل، نيسان 1995، ص5)، وإلى أنه يجب أن نسقط العقلية الطائفية والممارسة الطائفية وصولاً إلى فصل الدين عن السياسة، واعتبار القضايا الضميرية خيارًا شخصيًا بلا ظلامية، وبلا تعصب أو إكراه.

التغيير يجب أن يسقط العائلية المقيتة#، وما تفرزه سياسيًا، ويسقط مظاهر تقديس الشخصية، لأن التقديس نوع من التأليه، وهو مسخ وتعطيل لطاقات الشعب. من هنا فهو يرفض أن يستمر الفرد في منصب ما طويلاً حتى يتعفن ويشل عقليًا، وإلا فسيظل عقبة في وجه تدفق الدم الجديد، فبقاء الشخص في منصبه لم يعد يطاق، "ووهم بعض القيادات أن الله خلقها للزعامة هو وهم خطير ومعيب للشخص، وعائق أمام تقدم مجتمعنا عمومًا" (الثقافة – عدد أيار 1993 ، ص 7).

يقف سالم طويلاً في أكثر من مقالة على رفض تقديس الزعيم "الرمز"، ذلك لأن هذا يقع على حساب إنسانية وكرامة الشعب، فالمعركة ضد ثقافة "القطيع" لا تنجح إذا لم تكن فلسفة عامة للحياة، وطريقة مثلى للمجتمع.

يظل إذن عنصر التغيير أبرز ما دعا إليه سالم، فالتغيير يتطلب احترام الفرد، واحترام الوقت، واحترام المبادرة للوصول إلى التطور العقلي والاجتماعي.

يقول سالم: "نريد التغيير المستمر الذي يمنع مراكز قوى، ويمنع استخدام المناصب للمآرب الشخصية والفئوية الضيقة" (الثقافة عدد أيار 1993، ص 7). التغيير يلح عليه مطلبًا ملحًا: "صرخة للقوى العقلانية والعصرية والديموقراطية في شعبنا للتغيير – تغيير الأشخاص، وبالأساس تغيير الأسلوب والفكر وصولاً إلى مجتمع ديموقراطي وعصري وقادر على التطور وباستمرار.

التغيير شغل سالم الشاغل، وهو يرفض استخدام لفظة "التاريخ" بصورة مبتذلة ومهترئة، فما من خطاب أو خطوة أو عمل إلا وهو –على حد زعم هذا أو ذاك أنه- تاريخي، ففي رأيه أن الزعيم التاريخي الحقيقي هو ذلك يبشر فعلاً بمرحلة جديدة، ويقود نحو التغيير. (الثقافة تشرين الأول 1993، ص 5)

من هنا فالديموقراطية هي متسع للتعبير، فيجب تبعًا لمتطلباتها أن نقضي على اللامبالاة وعلى أن يكون الفرد على الرصيف أو الهامش، فالمشاركة الفعالة ضرورية، بل من المفروض أن يكون هناك توجه من كل منا - جذري ومسؤول لقضايا المجتمع.

يرفض سالم الانكفاء على الذات، ويدعو إلى التحدي، وإلى الانخراط بمسؤولية وحماسة في البحث عن صياغة جديدة لقيم جديدة للعصرية، اندماجًا مع الروح الحضارية العالمية، كل ذلك دون الانقطاع عن هويتنا الوطنية وملامحها المتفردة، ويستشهد سالم بقول لوركا: "إن قوميتنا هي إنسانية شعبنا، وكل ما ليس إنسانيًا لا نقبله جزءًا من روحنا القومية". ويذهب سالم بعيدًا ليقول: " مطلب الساعة هو الديمقراطية الفعلية والعميقة لإنساننا العربي ولمجتمعنا العربي، وعندما نفعل ذلك فإن كل الأصنام والأطر المتحجرة والعقليات المحافظة والرجعية يجب أن تترك المسرح لقيادة جديدة وعصرية، لأطر إنسانية متفتحة، ولعقلية قادرة على التعامل العصري مع تحديات العصر(الثقافة عدد آذار 1993، ص 27.)، فالنظريات الاجتماعية يجب ألا تكون ثابتة، فإذا تحولت إلى دين سقطت، وتجمدت حتى الموت.#

التقدمية والديموقراطية لا تجزؤ فيهما، فهما لا تعارضان الحكومة وسياستها فقط، بل تعارضان الرجعية السياسية، والتعصب والانغلاق، ومحاربة الصنمية السياسية، فالتقدمية لا تقاس في الموقف السياسي فقط، بل في وجهة نظر شاملة عن العالم.

يرى سالم وهو ينظر إلى العالم العربي وتصدعاته السياسية أن هناك حاجة إلى استنهاض طاقات البرجوازية الوطنية، الرأسمالية، (نعم الرأسمالية)، واستنهاض الفلاحين، أكثرية جماهير أمتنا، واستنهاض طلاب الجامعات والثانويات لخلق جبهة وطنية عريضة، متفقة على الديمقراطية والتعددية والنظام الديمقراطي والقضاء النزيه، وفصل الجيوش عن السياسة، وتداول السلطة، وتشريع دساتير ديمقراطية تكون فوق الرئيس وفوق الحكومة، مع إفساح المجال للأحزاب السياسية والنقابات كي تعمل بحرية، في إطار القانون، والعمل لتحرير الجامعات من العبودية للعسكر ونظام العسكر والمخابرات.

يعارض سالم إقامة "نظام الحزب الواحد" الذي يمسك بكل الخيوط، لأن ذلك يجعل النخبة القيادية للنظام قشرة عسكرية فقيرة ثقافياً متغطرسة سياسياً احتكارية اقتصادياً. ويسأل سالم:

"هل صدفة أن أنظمة الحزب الواحد العسكرية سابقاً، العسكرية إلى الآن فعلياً، قادت إلى الجمود الاقتصادي وإلى التقهقر القبلي وإلى الفساد واستيلاء النخبة- العصابة الحاكمة على كل خيرات البلاد ومقدراتها؟ هل صدفة أنه بينما كل الدنيا تتقدم علمياً واقتصادياً وتطويرياً وتتفاعل مع العالم، فإن عالمنا العربي مثل البقرة المكسرة الرجلين، هابطة، عاجزة، حتى عن السير، وعاجزة عن الحلم؟!

من جهة أخرى وأولى يرى أن الأزمة الحضارية العربية هي في عدم وجود سياسة عربية تنويرية لحركة الترجمة، ورواج الكتب الهابطة التي تعنى بقضايا الطبيخ وقضايا السحر والشعوذة، بالإضافة إلى إغراق السوق العربية بالكتب التي ظاهرها ديني، بينما هي ترويج للتطرف الأعمى، وإضفاء صفة القدسية والشهادة على الإرهاب والكراهية العمياء للثقافات الإنسانية الأخرى، والقَدَرِية التي تجعل الإنسان عاجزاً عن التفكير الحر وعاجزاً عن العمل الفعال لتغيير الواقع العربي.

مما يؤلم سالمًا أن العالم كله يعيش يقظة علمية مدهشة، فبالإضافة إلى دور النشر التي تقدّم للشعوب نتاجاً حضارياً، علمياً واقتصادياً وأدبياً وفنياً واجتماعياً منوعاً، إلا أننا نحجم غالبًا عن متابعة الثقافة العالمية، ويمضي إلى القول وبحدة موقف:

هل نحن بحاجة إلى أن نحلل وحشية البطش والإرهاب السياسي والإرهاب الفكري والإرهاب الديني الذي يمنع ترجمة عشرات ألوف الكتب من الإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية وغيرها إلى اللغة العربية!

المشكلة الحقيقية في رأي سالم هي في غياب المشروع النهضوي العرفاني، المنفتح على الحضارة العالمية، وغياب الإصرار المبرمج لنشر العقلية العلمية والعطش للمعرفة وقبول الأفكار الجديدة والأساليب الجديدة، وبالأساس- القبول الطبيعي للآخر عموماً، وللأفكار الأخرى عموماً. يقول: "إننا ما زلنا إلى الآن نسمع دجالين قومجيين ودجالين أدعياء التدين يعلنون في عنترية غبية (رفض الأفكار المستوردة)". وينبهنا إلى أن لفظة "المستوردة" هي لدى القائلين بها في سياق سلبي يشبه الكفر؟ ويسخر سالم في مرارة: إنهم يقبلون السيارات المستوردة وكل أثاث قصورهم مستورد، وحتى الخادمات في قصورهم مستوردة، كما أنهم يقضون أكثرية السنة في القصور في أوروبا، وأغلب الظن أنهم هناك يخلعون الحطّة والعقال ويتفرنجون تماماً!!
يستنتج سالم في نهاية مقاله إلى ضرورة تعميق وتسريع عملية الترجمة الشاملة، من منطلق الإفادة من هذه النهضة التي يدعو إلى أن نلحق بركابها.

"فإذا نجحنا في الزيادة المستمرة للأجيال المشبعة بحب العلم والتقدم العلمي والاستفادة من كل ثقافة وافدة وتعلّم أكثر ما يمكن من اللغات الأجنبية، وإذا شجعنا الأجيال الصاعدة على المنهجية العلمية، فإننا نضع الأساس ليس فقط لنهضة علمية وثقافية متفاعلة مع العصر وعواصفه، بل نضع الأساس أيضاً لإسقاط أنظمة الجهل والتخلف والتطرف والفساد التي تحكم أوطاننا العربية وتُشبع شعوبنا جوعاً وذلاً وهواناً.

أما عن الواقع بين العرب المقيمين في إسرائيل، وفي العلاقة مع الشعب اليهودي فلسالم آراء طرحها في كثير من محاضراته، يقولها بجرأة وبلا تلون موقفي، إذ يدعو سالم إلى مواكبة الثقافة العبرية بترجمة نماذج منها، حتى يتعرف القارئ العربي إلى الأدب العبري، وكذلك إلى الآداب العالمية. وسالم من الذين يعيشون الواقع بدون تشنج، فهو يرد على أولئك الأدباء الذين يحجمون من بيننا عن أخذ حقوقهم: "من حقنا قانونيًا وعمليًا أن نأخذ حصتنا في كل مجال، أسوة بالأدباء والمبدعين العبريين، وهذه ليست "عطوة" أو "رشوة"، بل هي حق، وبإمكاننا أن نستفيد من (أمنوت لعام) ودائرة الثقافة ووزارة المعارف دون أن نقدم مقابلاً سياسيًا، بل يجب أن يكون حصولنا على حقنا إنجازًا سياسيًا أيضًا لنضال شعبنا للمساواة" – (الثقافة – آذار -1993 ، ص 5)، فالانغلاق باسم القومية ظاهرة يجب التخلص منها في رأيه، بل هو يرى أن ثمة مخططات سلطوية لإظهار العرب في إسرائيل أنهم ضحايا تشابك الانتماءات، وبالأساس لطمس الانتماء القومي بوصفه الانتماء الحاسم والمقرر في هويتنا، وفي تعاملنا مع السلطة، وفي تعامل السلطة معنا. يقول بصراحة إننا أولاً عرب، ونحن كذلك فلسطينيون ومواطنو دولة إسرائيل، فالمصطلح الذي أطلقه عبد العزيز الزعبي: "دولتي تقاتل شعبي" يبرر في رأي سالم قمع العرب في البلاد، بحجة أننا من المسلم به ضد الدولة، فانتماؤنا القومي سيكون تبعًا لذلك عقبة في وجه المساواة. نحن ضد السياسة الحكومية الرسمية، ونحن ضد الاحتلال، ومن أجل تقرير حق مصير الشعب الفلسطيني. ومصلحة الشعب الفلسطيني -في رأيه- تتطلب سلامًا عادلاً مع الشعب الإسرائيلي لا استسلامًا، فالمصلحة الحقيقية تلزمنا برفض الحلول المغامرة، وحل القضية القومية العامة هو في إطار الرؤية الإنسانية.

هناك من ينظرون إلى الأبحاث التي يجريها أساتذة إسرائيليون بعين الريبة والغضب، وينظرون إليها بمركب النقص من ناحية، والكراهية من ناحية أخرى، فهؤلاء يسألهم سالم : "ماذا تفعلون لدراسة واقعنا دراسة حقيقية؟"، فهناك انطباع عام بأننا كلما تطورنا أكثر ملنا إلى السطحية، من هنا فواجب باحثينا ومختصينا أن يكونوا قوة تغيير وتثوير في مجتمعنا للترويج للرؤية الجديدة، وعدم التسليم بالواقع، وعدم الخضوع للروتين، بل الانطلاق الدائم للتساؤل والتشكيل وللنقد وللحوار. (الثقافة عدد حزيران 1993، ص 6).

من واجبنا - كما يرى- في محاربة التعصب الطائفي، وهذا هو الباطون المسلح لبناء الوحدة الوطنية للشعب المتجذر في وطنه، ويجب تفضيل دائرة القومية على أية دائرة انتماء- طائفية أو عائلية أو إقليمية؛ فالإيمان الديني مسألة ضميرية، بينما الانتماء القومي أو الوطني مسألة سياسية اجتماعية عصرية، وفصل الدين عن الدولة ليس عزلاً للدين، بل هو احترام للدين ورفض لإقحامه في مطاحنات سياسية وحزبية.
آلم سالمًا هذا التعصب الطائفي والقبلي الذي هجم علينا في السنوات الأخيرة هجمة منكرة، فيقول:

"عدنا إلى القبلية وعدنا إلى الاحتراب. لقد ولدنا وكبرنا ووخط الشيب رؤوسنا ونحن نعتقد أن الصراع بين السنة والشيعة هو من الماضي السحيق، إلى أن جاء يوم صار فيه العدوان على مساجد السُنة "فريضة" شيعية، والعدوان على مساجد الشيعة بالتدمير والحرق "فريضة "سنية!! كنا نعتقد خلال عقود أن المصريين، انصهروا شعباً واحداً، فإذا نحن كنا واهمين، والأقباط مدعوون أن يدفعوا "الجزية" للسادة المسلمين!!! كان المسيحيون في بلاد الشام طليعة ثقافية وحضارية وقومية، طليعة لنشر العروبة التي تصهر كل العرب أمة واحدة عصرية، فإذا هم الآن "غرباء" مشكوك في انتمائهم إلى أوطانهم، وإذا "المشايخ" عندنا يتكلمون عن "الأمة" يقصدون غير ما نقصد، لا يقصدون الأمة العربية الواحدة التي تصهر كل أبنائها من الطوائف والقبائل والعائلات، كياناً واحداً، عصرياً مدنياً، بل يقصدون "أمة الإسلام".

إن الارتطام الرهيب الذي حدث للأمة القومية لحقه التمزق، وكل تمزق قاد إلى مزيد من التمزق، فصرنا طوائف وشيعاً وقبائل، وهذا قاد إلى استنزاف الدم والحيوية والقوة وإلى الضعف الذي قاد إلى الهاوية، وإلى الهوان المعزز الذي أغرى الغزاة والمحتلين بنا. كل هذا الهوان هو نتاج التخلف العلمي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. كل هذا الهوان هو نتاج التمزق الداخلي، فكأنما كل العالم حولنا يتقدم بينما نحن "نتقدم" في التخلف!!

هناك قيم عليا دعا إليها سالم في أكثر من مقالة، كالأخوة الإنسانية، وكل تعصب عرقي أو قومي أو ديني هو مسلك معاد لها، والعدل الاجتماعي قيمة عليا، وكل ظلم أو استغلال يناقضها، والمساواة بين الناس قيمة عليا، وكل وثنية أو تقديس للأفراد هي أمور مناقضة. من هنا فهو يدعو إلى الكرامة الإنسانية ومحاربة الظلم والزيف والنفاق والسطحية والابتذال، إلى أن نلجأ إلى الصراحة (التفكير الحر، والكلام الصريح) والكرامة الإنسانية.

نخلص إلى القول إن أضواء الفكر الماركسي كانت دعامة له في فهم الصراع والتغيير والتثوير، وأن لسالم جبران حلمًا ورؤية ومنطلقًا وموجهًا في كتاباته الشعرية والنثرية، فقد ناضل بالكلمة، واستلهم الثقافة الإنسانية، داعيًا بحججه القوية الساطعة إلى الديمقراطية والتعددية والعصرنة والاعتدال والانفتاح على عالم أرحب، والدعوة إلى الترجمات المنفتحة، ذلك أن العطش إلى المعرفة وقبول الحضارة الجديدة، والروح العلمية هي أهم ما يجدر بنا أن نتبناه.

يخشى سالم على الأمة العربية من مصير أسود، ولن تكون لنا حياة حضارية " إذا بقينا متخندقين في الجهل والتعصب ومعاداة العلم والحضارة، وفي استعباد المرأة، وفي الاحتراب الطائفي؟ بل هل نبقى كأمة، إذا انطلق موكب العالم في التقدم إلى الأمام وبقينا نحن مصرين على التخلف؟ إنها النهضة التي يدعو لها: "فالنهضة ليست خياراً نقبله أو نرفضه. إن النهضة هي المدخل الحتمي إلى التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي، والبديل لذلك هو المراوحة في المكان، والموت البطيء والاندثار!

إن التغيير يكون بالمبادرة إلى حركة قومية ديمقراطية ذات رؤية شاملة، اقتصادية اجتماعية ثقافية، ذات حلم عظيم ينقل هذه الأمة من العجز والانحطاط إلى الثورة الشاملة الإنسانية التي تطهر وتوحد وتوقظ الطاقات العظيمة. هذه الثورة التي تتصدى للغزاة الأجانب، هي في الوقت نفسه الثورة التي تقاتل الانحطاط في داخلنا، وتقاتل التعصب المجنون وتتحالف مع العلم والتقدم.

إن السؤال الكبير الرهيب الذي يطرح نفسه أمامنا الآن هو: هل نأخذ مصيرنا بأيدينا ونصنع مستقبلنا أم نواصل رقصة العجز والتفكك والموت؟!!

ويستطيع المتابع أن يتقصى شعره ليجد في شعره الوطني رنوّا للمستقبل#، وحلمًا بالأجمل#، ودعوات للتغيير، في كلمات من القلب صريحة، وغير محددة الإقامة، يلقيها على رفاق الشمس# والحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى