الأحد ٤ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

ذهبَتْ مع الرِّيح

أسْعد امرأة في الحي كانت..........!

وأجمل صوت على وجه الأرض...!

وعيتُ على الدنيا وأنا أراها تدبّ بعصاها وهي تعبر حيّنا الهادئ ناثرة نظرتها الوديعة وابتساماتها الغامرة وأغانيها الجامحة......كانت «خالتي فاطمة» امرأة مسنّة قد تقدم بها العمر، لم تكن من قريتنا بل من القرية المجاورة، توفّي زوجها ولكنها رفضت أن تغادر حيّنا، لقد أفنت عمرها في تربية ابنها حتى أصبح شابا رغم أنه كان غريب الأطوار منزويا، متوحّدا، وكانت نساء الحي دائما تتحدث عن بطولة خالتي فاطمة التي استطاعت أن تربي فتى مختلاّ على مدى سنوات دون حصول أي مشكلة لها مع أهل الحي ، ومن مظاهر غرابتها أيضا أنها الوحيدة التي لم تكن تعرف نسج زرابي «المرقوم» فكانت تخرج من بيتها صباحا لتتوجه إلى السوق وفي طريقها ذاك وهي عابرة الحي كانت تتوقف عند كل «مخازن» نساء الحي تقريبا وهن منهمكات في نسج الزرابي، كان صوتها هادئا مثلها أما جمالها فقد شاخ معها ولم يترك الزمن من بهاء وجهها سوى التماع عينيها وصفاء صوتها الحزين، كانت تقدم لنساء الحي الأخبار والأغاني الجريحة الرائعة أما هن فيقدمن لها كؤوس الشاي الأحمر الثقيل المعَدّ على جمر الكانون وهكذا أفقنا على الحياة وخالتي فاطمة صندوق أسرار الحي ونبض الحياة فيه بدبيب عصاتها الرصين وأغانيها الجامحة العتيقة وابتساماتها السعيدة المزمنة التي تنشرها في زوايا الحي كانت رمز السعادة وصفوالزمن عند الكثيرين وأغنية الحياة التي تنتقل في الحي من بيت إلى بيت.

كانت تحب كل من بالحي حتى الأشجار كانت بعصاها تنظّف ما علق تحتها من أوساخ أحيانا وهي تتّقي تحتها حرارة الشمس في فصل الصيف ولكن حبها الكبير كان لنا نحن الأطفال فقد كنا دائما نتوقف عن اللعب في انتظار أن تمرَّ خالتي خوفا من أن تضربها الكرة أما هي فقد كانت تبتسم لنا امتنانا وغالبا ما كانت توزع علينا الحلوى وتمسح على شعر كل واحد منا من ناحيتنا وتقديرا لها كان باب بيتها الأخضر الخشبي ( بلخوخة ) هوالوحيد الذي لا نقذفه بالكرة....

كان بيتنا من بين البيوت التي تزورها خالتي باستمرار، فتدخل السقيفة وتجلس أمام منسج أمي على كرسي صغير وتضع عصاتها بين ركبتيها الصغيرتين ثم تميل برأسها يمنة ويسرة بعد ذلك تطلق صوتا طويلا مقدمة لبداية الغناء، كان لديها أغنية رائعة دائما تغنيها وتتناقلها أبواب الحي لنغمها الحزين الكئيب:

آآآآآه
لِينْ اتـَّﭬوا...
شيّعتْهُمْ بالعين
يامّة...لينْ اتـَّﭬوا
وروّحِتْ نبكي
والخواطر رﭬُّوا
يامّة...لينْ اتـَّﭬوا

بعد ذلك تقدّم لها أمي الشاي الأحمر وأحيانا شيئا من الفاكهة وكنتُ دائما أنتبه وهي في بيتنا إلى بقع صغيرة رمادية تميل إلى الزرقة تكسووجهها الصغير المجعد، يختلف مكانها في كل مرة، أحيانا على خدها وأخرى أسفل إحدى عينيها، وكنتُ دائما أسأل أمي عن تلك البقع الزرقاء المتحركة فتقول لي إن خالتك تعاني من مرض جلديّ مزمن.

لكن مع بداية فصل الخريف من تلك السنة، غابت خالتي فاطمة عن الحي لم تعد تظهر، في تلك الأيام بدأت الرياح بالهبوب هادئة في البداية ...مر على غيابها يوم...يومان...ثلاثة حتى بدأت الحيرة تعصف بالحي وازداد هبوب الرياح قوة، ركد الصمت القاتل في الشارع وغابت الأغاني لتكتسح ثرثرة الريح المكان ، حتى نحن الأطفال اشتقنا إلى حلواها، لم يتجرّأ أحد على أن يذهب إلى بيتها ويسأل عنها...أحس نساء الحي بالضياع فمن كان يربط بينهم قد غاب، فأصبحن يشربن الشاي صرفا، كان بدون أغانيها وأخبارها شايا أبكم أخرس ولا طعم له.

وذات صباح خريفي بارد وقد تحوّلت الرياح إلى عاصفة هوجاء، فوجئنا بطرق عنيف على باب بيتنا، فتحت أمي الباب بتردد، فإذا بها خالتي فاطمة في حالة غريبة، كانت تبدورغم إمساكها بعصاها مقوسة الظهر مثل صبية أضاعت الطريق، عارية الرأس وقد انتفش شعرها الأشعث القصير الأبيض، بدت وكأنها خرجت للتومن فراشها فقد كانت ترتدي سروالا قصيرا إلى الركبتين يكشف عن ساقين هزيلتيْن و" مريول فضيلة" أزرق، بهَت لونه، بدا لي وجهها روحا نسيَها الموت، فقد كسته بقعة زرقاء كبيرة امتدت حتى عنقها النحيف هذه المرة، دخلت ترتعش من البرد والرعب وهي تلتفت يمينا ويسارا وكأن هناك من يطاردها، كانت أول مرة أراها في تلك الحالة، أمسكتْ بيد أمي تترجّاها بصوت مرتجف خنقتْه الدموع:

• استُرْني يا عايشة...استُرْني الله يسترك!

دخلت أمي على عجل وأتتها ب"ملحفة" زرقاء داكنة لفّتها عليها وربطتها بحزام أبيض ووضعت على رأسها "بخنوقا" صوفيا ثقيلا يقيها من البرد، أثناء ذلك كانت خالتي تدعولأمي ولي وهي تمسح على شعري والدموع تملأ وجهها، لم أفهم شيئا مما يحدث ولكن خالتي استدارت وهمّت بالخروج غير أن أمي أمسكتها في رفق من يدها وقالت لها في استغراب:
• أين تذهبين في هذا البرد والعاصفة؟؟؟!

• سأذهب إلى إخوتي..

• وتتركينا بعد عشرة سنين؟!

• لم أعد أستطيع التحمل..... ابني...ابني....آش باش نقول يا ربي...خليني يا عايشة نمشي لأخوتي!!

• ابقيْ عندي هنا لقد قلتِ لي أن أغلب إخوتك ماتوا!

• ولكني أعرف الطريق إليهم...إن كنتِ تحبينني وبحق العشرة التي بيننا دعيني أذهب..
مسحت دموعها بيد مرتعشة، ضمتني إلى صدرها ثم عانقتْ أمي على عجل ، غطت وجهها بالبخنق الصوفي فلم تظهر إلا عينها اليمنى أمسكت العصا بإصرار ثم خرجت ملقية جسدها الضئيل في لجة عاصفة الخريف الصاخبة، ظلت أمي تطل برأسها من الباب أما أنا فقد وقفتُ أمام الباب أودّعها بناظري، كانت الرياح تعصف بلا هوادة وخيوط الكهرباء العالية تطلق أصواتا أشبه بالنواح والعويل، كانت الأشجار تتمايل يمنة ويسرة وكأنها تودعها بصمت، بدت لي خيوط الملحفة الزرقاء الطويلة هي تمسح على التراب وكأنها تربّت على الأرض بحنوّ أوتتشبث بها أوتودّعها إلى غير رجعة والغبار المتصاعد يحمل أوراقا مهملة يتيمة يتلاعب بها في الهواء، أوراقا بلا هوية ولا مكان ولا مأوى...... كانت آخر مرة أراها فيها...... رحلتْ خالتي فاطمة تسبقها عصاها الوئيدة...غابت في صمت خيالا من غبار وظلاّ من الذكريات وشبحًا من الريح..غابت عن ناظري رويدا...رويدا حتى غاصت في الأفق.... ولامست النهاية. في تلك اللحظة وأنا أراها تبتعد كان صوت الريح ينشد أغنيتها الحزينة تلك:

لِينْ اتـَّﭬوا...
شيّعتْهم بالعين
يامّة...لِينْ ا اتـَّﭬوا
وروّحِتْ نبكي
والخواطرْ رَﭬُّوا

ظلت الرياح تئنّ لأيام طويلة وأضحى حيّنا جريحا صامتا كالمقبرة، حلّ السكون محلّ الغناء فتباعد الناس وتمطى الخواء، لكننا ظللنا نحن الأطفال نلعب الكرة دون أن تتوقف مبارياتنا في انتظار مرور أحد وظللنا لا نضرب باب بيتها الخشبي بالكرة....

في ذلك الصباح الخريفي كانت آخر مرة أرى فيها خالتي فاطمة وظلت عبارتها المفزعة تطاردني، عبارة موجعة تدب في ذاكرتي كالعصا المتعبة:

• استرني يا عائشة..استرني الله يسترك..

الآن عرفتُ لِمَ كان صوت خالتي فاطمة أجمل صوت في القرية ولكنني كم كنتُ مخطئا:
فخالتي فاطمة لم تكن يوما أسعد امرأة في الحي!!!!!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى