الاثنين ٥ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم فتاحي حسناء

أردتها أغنية...

صُغْتُ من حروف ملونة لازمَتَها، واستعرت من ترنيمة فارسية قديمة لحنَها. يعلو نحيب الناي ويهبط، يسرع ويتباطأ، بعدها يغزو العود المَساحةَ، تارة بتقاسيم شجية، وأخرى بنغمات طرِبة، وتلتحم الآلتان في صدح موحّد، يغطي الكلمات ويأخذ السامعين كلٌّ إلى غيمته.

أردتها أغنيةً حكايتُنا.

لن أستحضر مطلع الحكاية، ولا طيفها الجميل، ولا حتى تفاصيلها المثيرة، فهذا المكان، لا يستسيغ ما ينْقُرُ القلبَ، ويرشده إلى طريق الغواية. لذا حمّلت الأغنية ثقل الديباجة كلِّها، وأودعتها حنجرة حسّون، لينشدها عندما يطير إلى أفق آخر.

كانت حقيقةً ونَسَختها أغنيةً، لم تكن قصة عاشِقَيْن، كانت حلما لأسراب من الطيور، غرّدت بصوت واحد وطارت نحو نجمتها المشتهاة. صارت أغنيةً، الحكاية/الحلم لأنها لم تتحقق، فخُلِّدَت في لحن حزين تماما كنهايتها. السلاسل أقوى أم الحواجز؟ أم نحن من كنا غير مدربين على التسلق بما يكفي؟ أوَ كان الحلم هشَّا؟ لم يكن كذلك، كان قويّا كالمطلق، وأبيضَ كالثلج، وصافيا كماء النبع. كان يخصه الأَسَنُ ليخفي عن ضِدّه نقاءَه، وكان عليه أن يمزج بياضه بألوان أخرى ليُغشيَ العيونْ، وكان من المفروض أن يُلبِس قوتَه قِناعَ الضعف بحضرة مالكيّي الرّاهن.
لَمْ تكن لقمم الجبال أدراجا افتراضية لنصعدها، ونزرع هناك حلمنا لينمو ويكبَر، وتلْمَسَ فروعُه السماءَ فتقطف حبّاتِه، تتزيّن بها، وحين يحين الحين، تُمطره برَدًا، يكسو الأرض فيَشيع الحلم. مقصوصة أجنحتنا كانت، لم نقدر على الطيران إلى الأبراج العالية، لنحطّ فيها حكايتنا، نخبأها في ثغرات الأحجار القديمة، نحرسها من هبوب الريح ونخطفها من الوأد. رحلتَ أنتَ إلى البعيد وبقيتُ أنا أربّي الانكسار، استسهلوا امرأة لم تروّض على الوحشية ولم تؤمن قط بالعنف، فأضحت النعومة ذلاّ، والوداعة تقهقرا. كنتَ تقول لي أن من حسن حظي أنني خلقت بنتا، فالبنات ينثرن الفرحَ حولهن، وأقول الآن أن من حسن حظك أنك خلقتَ ولدا، ومُنِحتَ العبور إلى ما وراء المتوسّط. انتزاعك من تربتك لم يكن بالقسوة التي تدّعيها، فالتربة التي نُقلت إليها كانت أرحم بكَ. ولا تقل لي أن الهواء هناك ثقيلا، فليس أخفَّ من هواء تتسرب من ذراتِه الحروف المبتغاة: ح.ر.ي.ة. لم تكن أغلالي حديدية ولا زنزانتي ضيقة دون بؤْرَة تراعيني منها عين السماء. فضاءٌ واسعٌ هو سجني: أرضيته أوراق شجر الصُّبّار، ومحيطه أسوار عالية يرابض فوقها البوم، وأغلالي طوقٌ نحاسيٌّ ضيّقْ. حالوا بيني وبين الوقوف على عتبة مرحلة كانت لابدَّ قادمةً، وأنزلوني إلى خندق الأمس، منعوني من ركوب تيار النهر الواعد، وزجّوا بي في أعماق الوادي المتصحر، حرموني أن أُزفَّ إلى المروج الخصبة، وقدموني قربانا لكيان متحجّر، يدّعي الربوبية. لا حقّ لي في التعويض عن الضرر، ما لحقني ليس موثقا، وما من سِجّل خطّ ما أصابني. اهتديت إلى لعبة حمتني من الموت المجرّد: غرْسُ الورود وكتابة الأغاني، لذا، لم يتغير فيّ شيء، ما زلت أنا أنا، أنا هيَ التي كنتُها. قُصِمَت مني قناة، نَعم، لكنني ما زلت صلبة وعصيّةً على الكسر، لم يتمكنوا من قطع نَفَسي، لازال طويلا كقامتي.

هنا، لم يعد أحد يذكر حكايتَنا، نسوا الحلم، وتفرغوا لمشاغلهمْ، فاتسعت عيون أبنائهم من الفراغ، وذعروا للمخلوق الْقبيح الوجه، الذي يطلّ عليهم من العيون الفارغة و لسان حاله يقول: "طلعتُ من حيادكم ومن استخفافكم بصَيْحة الخَلْق".

الهباء السائدُ يساعدني على النبش أكثر في الموروث المكتوب، عثرت، كما يعثر المهووس بآثار القدامى على ضالّته، في مخطوطة لأقصوصة تشبه قصتي، قصتي أنا وحدي، لا قصتك، فنحن الاثنان نشترك في الحكاية، بداية القصة، أمّا ما تلا ذلك، فهو لي وحدي، وأنا صاحبته. أوْحَت ليَ المخطوطة بفكرة تدوين ما شاهدت وما عاينت، ما كابدت وما تلقيت، ما لزمني وما مرّ بي. لا أطمع في أن تكون مُدوَّنَتي فَلْتَةً، لا تعدو أن تصير صرخةً، ومن يدري، قد تُهدي القادمين بعدي إلى طريق الخَلاص.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى