الثلاثاء ٦ آذار (مارس) ٢٠١٢
الزمن في
بقلم أيمن خالد شداد

رواية صفحات المهزلة لخير الدين جمعة

لن أتكلم هنا كثيراعن التقسيمات الفلسفية والعلمية للزمن في الرواية بشكل عام أو الزمن في رواية صفحات المهزلة بشكل خاص، فمشكلة الزمن ـ فلسفيا ـ مشكلة مستعصية دارت حولها تأملات الكتاب والفلاسفة والمفكرين دون التوصل إلى أفق واضح المعالم.

لقد قسم الكتاب [1] الزمن في الرواية إلى قسمين كبيرين، وبتسميات مختلفة؛ فقالوا الزمن الداخلي والزمن الخارجي، وقالوا الزمن الخاص والزمن العام، وقالوا الزمن الذاتي والزمن الموضوعي، فأما الأول (الداخلي، الخاص، الذاتي)، فهو الزمن الذي يجري في ذات الكاتب، ويعتمد على العلاقة التفاعلية بين الذات والزمن، أي أنه زمن نفسي، تتحكم به نفسية الكاتب ومشاعره (زمن الذاكرة إن جاز التعبير)، ويتم تحديد وضبط الوقت فيه حسب الحالة الشعورية للكاتب؛ فنقول لحظات قاسية على البطل، وأخرى عذبة، مريرة، سعيدة، فارغة، ومن هنا يصعب قياس هذا النوع من الزمن لأنه لا يعتمد على وقت محدد .

وأما الثاني (الخارجي، العام، الموضوعي، الطبيعي، الكرونولوجي) فهو الزمن الذي يعرفه كل الناس‘ هو الدهر والسنوات والأيام والشهور وهكذا، وهذا الزمن يمكن قياسه بسهولة نظرا لظاهريته المعروفة.

لم يحدد الكاتب زمنا طبيعيا للرواية، لكن يمكننا استنباطه من سيرة حيات الراوي المقدرة بعشر سنوات، فالرواية تطلعنا على المسرح الزماني الممتد من حياة البطل في الجامعة إلى سنوات عجاف طويلة تشظت فيها ذات البطل، وفقد كل ما يمكلك من كبرياء، فبات طريدا يقنصه العابثون بلا شفقة ولا رحمة .

«أظن أن العشر سنوات التي قضيتها خارج البلاد قد أنستك واجباتك كمواطن»

على أن ثمة إشارات ليست بالكثيرة في ثنايا الرواية تدلل على هذا الزمن الطبيعي، لكنها لا تشكل بالطبع زمنا طبيعيا للرواية، مثل قول الكاتب

(بعد بضع سنوات) (الساعة الواحدة ليلا) (يوم الثلاثاء) «أفقت عند الساعة الخامسة» بعد مدة ليست بالقصيرة و في أحد الأسابيع كان الوضع متأزما ...

إن الزمن السيكولوجي (النفسي) المعبر عن تفاعلات الذات مع الزمن هو المهيمن على زمن رواية صفحات المهزلة، وهو المحرك للأحداث في الرواية، كيف لا والبطل يستدعي ذاكرته المحيطة ليفتش بها أمام لجنة التحقيق المخابراتية، ذاكرته التي بكاها برمتها، فهي تنثر أمامه صفحات من المهازل الحياتية التي تشظي ذاته إربا إربا، وتشكل دوامة من الحزن والإحباط والقهر والضياع.

لقد صبغت هذه المشاعر النفسية الزمن الطبيعي في الرواية بصبغ نفسية تتصف بالديمومة والانسحاب على زمن الرواية برمته، فدا الزمن القصير طويلا ثقيلا على الكاتب بسبب تلك الحالة النفسية المحطمة . " بدا الطريق طويلا نحو دمشق "

"مر علينا أسبوع ثقيل شعرنا فيه أن الحي و أهله يحاصراننا "

"هي أطول رحلة أذهب فيها إلى العاصمة لم يغمض لي جفن طوال الليل"

من ناحية أخرى سار الزمن في الرواية بشكل دائري، وأعني بذلك أن الرواية بدأت بحدث من أحداث النهاية، ثم سارت نحو البداية، وهكذا تسير بشكل دائري بين النهاية والبداية، وربما يرجع ذلك إلى أن الرواية تشبه لحد ما الرواية البوليسية التي تبدأ بوفاة أحدهم ثم تدور حوله التساؤلات والبحث البوليسي، وهذه الرواية بدأت بوصف مسرح الجريمة (بيروت) جريمة اغتيال الذات، ثم دارت الأحداث والتساؤلات حول علاقة البطل بذلك المكان وعلاقته بالتنظيمات المسلحة والفرنسي وغيرهم، فكان من الطبيعي أن يبدأ الزمن من هنا لأن النهاية الفعلية لزمن القصة برأيي انتهى هنا.

إن التقنيات المتبعة في الزمن الدائري في الرواية هي ثنائية الاسترجاع والاستباق، [2] وبعظهم يسميها المفارقات الزمنية، [3] ويقصد بالاسترجاع قيام السارد بقطع سرده ثم العودة إلى الماضي أما الاستباق فيقطع السرد لينطلق إلى المستقبل، وبهذه الحركة بين الماضي والحاضر والمستقبل يتشكل الزمن الدائري في الرواية.

في الاسترجاع استعمل السارد تقنية التذكر ليعود بنا إلى الماضي فيقول " اذكر " أو تذكرت " هاربا من الحالة النفسية التي حلت به، وهذا يعيدنا إلى الزمن النفسي المذكور آنفا، فالسارد يستدعي الماضي ليتخلص من حالة البطل الشعورية الخانقة في لحظة ما، بالإضافة إلى هدف آخر للسارد وهو الكشف عن تفاصيل أكثر في حياة الشخصيات ليتواصل القارئ معها بصورة أفضل، فيعود بنا إلى ماضي تلك الشخصية كاشفا عن حيثيات دقيقة عنها:
"ميلود رأيته أول مرة في مطعم " باتريك هيبار" وما كنت أعلم أنه سيقلب حياتي رأسا على عقب وذلك على نحو ساخر ومخزٍ."

" فوّاز التقيتُه عند بوابة سوق "بايزيد " العتيق في مدينة اسطنبول التركية ،كان في نقاش حاد مع الشرطة "

" أتذكر أني اعتليتُها أول مرة بعد دخولي الجامعة بشهر تقريبا كان الذين قد تكلموا يفوقونني"
" أتذكّر يوم رأيتُها أول مرة في الكلية و كنت في المدرَّج أستمع إلى محاضرة في القانون الدولي".

لم يستخدم السارد تقنية الاستباق بشكل كبير وإنما اكتفى بسرد معلومات قليلة عن بعص الاحداث المستقبلبة التي ستحدث معه أو مع بعض الشخصيات دون تفصيل يذكر:

" سيتوارى فواز بدوره وراء جنون الهجرة وهوس الفرار"

" بعد بضع سنوات سيساعدني فواز على تنظيم علاقاتي بالمليشيات المتصارعة لضمان الحياد والأمن "

" سينفّذ فواز ما في رأسه ، سيهاجر و يتركنا غرباء في وطنه الجريح!"

ثمة تقنيات أخرى للزمن السردي في الرواية تتعلق بتسريع السرد أو إبطائه، فأما التقنيات المتعلقة بسرعة السرد وهي الخلاصة والحذف [4] فقد استخدمها الكاتب بقلة في الرواية وتعمل على تلخيص الأحداث الطويلة بفترة زمنية قليلة، ومنها في النص الروائي كلام السارد عن فواز اللبناني المقيم في تركيا، حين رسم له الكاتب حياته المستقبلية في سطور .
" بعد بضع سنوات سيساعدني فواز على تنظيم علاقاتي بالمليشيات المتصارعة لضمان الحياد والأمن "

وأما التقنيات المتعلقة بإبطاء السرد وهي المشهد والمونولوج والوقفة الوصفية [5] فقد استخدمها السارد بدرجات متفاوتة، فالمونولوج لم يستخدمه السارد البتة، رغم ان الحالة النفسية المحطمة للبطل كانت تستدعي استخدام مثل هذه التقنية لتكشف لنا أسرارا أكثر في حياة البطل الوهم.

للمشهد وظيفة تمثيلية مسرحية توقف الأحداث وتفسح المجال للشخصيات لأداء الأدوار الحوارية

وقد أكثر السارد من الحوار في الرواية، وبه كشف لنا عن مكنون شخصيات الرواية، وابرز انفعالاتها وتفاعلها مع الأحداث ومع مهزلة البطل.

" ماذا تقول؟! كبش المحرقة ؟ هل تحسبني مغفلا إلى هذه الدرجة؟

لم يقل أحد إنك مغفل ولكن المحيطين بك ماكرون ..أنا أردت أن أنبهك …أرجوك يا زهير لا تنظر إلى المٍسألة بنرفزة …واجبك أن تحتاط الآن
وماذا يعني ذلك؟

يعني أن لا تعود إلى الجامعة حتى وإن فتحت أبوابها
ولكن ..
إن كنت صديقي فافعل ما أقوله لك
بشرط أن تخبرني بما يحصل

أنا أعدك فبعد يومين سأعود إلى صفاقس هناك سأرى ماذا يمكن أن يفعله حمادي
حمادي ؟ ولكن لماذا هو بالذات؟

أولا لأنه طلب ذلك وثانيا لأنه يمكن أن يشكُّوا في أي طالب إلا حمادي مادام همه تصفيات كأس العالم لكرة القدم ..

صدقت .إذن أنتظر منك مخابرة ما إن تصلك أخبار جديدة.

تصبح على خير.

أما الوقفة الوصفية، فيقف بسببها السرد بسبب تحول السارد إلى الوصف ليظهر تفاصيل أكثر للشخصيات والأماكن، ويحث القارئ على التأمل في تفاصيلها، لقد كان الكاتب مولعا بالوصف؛ فلا يكاد يمر بشخصية ما أو مكان ما إلا ويوصفه وصفا دقيقا في محاولة لإضفاء شيء من التسرية المؤقتة على المتلقي

"في المطعم لم أر شخصا يتفنن في إعداد السلَطات بجميع أنواعها مثلما يفعل ميلود يعمل بصمت يرفع رأسه أحيانا ثم يعود إلى تقطيع الخضر على الطاولة الخشبية بحركات رشيقة مدندنا أحيانا ببعض المقاطع الموسيقية الكلاسيكية او بعض أغاني " جاك برال"
ابتسمتْ كعادتها وكنا قد دلفنا داخل المنزل الذي أجَّرْناه منذ سنتين تقريبا. لقد كان ضيِّقا و صغيرا إذ يتألف من مطبخ على اليمين و غرفة ضيقة جدا كأنها زنزانة بها مرحاض ودش في نفس الوقت بعد ذلك تجد نفسك بين بابيْن الحجرة الأولى على اليمين أتقاسمها مع حمادي أما الثانية فهي لعليّ، دخلنا الغرفة الكبيرة التي لم تكن تحوي من الأثاث الشيء الكثير فراش و مائدة صغيرة لحمادي على اليمين أما في المقابل فكان هناك فراشي و مكتبي المتواضع إضافة إلى المكتبة البسيطة التي ضمَّتْ مجموعة من الكتب وُضِعَتْ في غير نظام و قد ازدانت الحجرة بصورتين من الحجم الكبير الأولى خريطة لفلسطين لصقت تحتها كاريكاتور لناجي العلي صوَّرَ عليها ذلك الرسام الساخر بابا كبيرا و تحته كُتِبَ باللون الأسود الغليظ " يا راكعين لأمريكا أنا بريء منكم " الإمضاء : إبليس . أما الصورة الثانية فهي رسم بياني بالألوان للدول التي مرَّتْ على الوطن العربي "

يعد الزمن في رواية صفحات المهزلة بالإضافة إلى أنه جسد تعيش بداخله روح السرد الروائي يعد جسر تعبر من خلاله جماليات النص الروائي من تشويق وإثارة، فالكاتب يجعل المتلقي يسير معه بخط دائري تماما كدورة الحياة على الأرض بين استرجاعات الماضي وتأملات المستقبل، يتخلل هذه الدورة الروائية محطات للاختصار وتلخيص الأحداث كي لا يشعر المتلقي بالملل، وأخرى ليحثه على التأمل في ما حوله من أماكن وشخصيات لإضفاء شيء من الواقعية السردية للأحداث كي يشعر بها المتلقي .


[1الرملي، محسن، تأملات في الزمن الروائي، مجلة تكست الالكترونية، 2010.

[2السلمي، صادق، الزمن الدائري في الرواية اليمنية رواية الصمصام انموذجا،منتدى المقالات الأدبية- الشبكة العنكبوتية، 2008.

[3الأعرج، لواسيني، حداثة السرد والبناء في رواية ذاكرة الماء- رسالة ماجستير- الشبكة العنكبوتية، ص103، 2008 .

[4السابق، ص112.

[5نفسه 114.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى