الخميس ٨ آذار (مارس) ٢٠١٢
يمزج بين الصوفي والشعري

ويحول الفن إلى رحلة ممتعة

المصطفى الصوفي

تشكل التجربة التشكيلية عند الفنان التشكيلي المغربي محمد الوردي إحدى التجارب الوطنية والعربية المتميزة، لما لها من ضفاف أحلام، ورؤى فلسفية حالمة، تجعل من اللوحة التشكيلية صورة طبيعية تنضح بفض من المعاني والأحاسيس، التي لا تفضي بالمتلقي، إلا إلى سواحل الإشباع الفني، والفضول الإبداعي الجميل.

الوردي الذي يستعد لإقامة معرض جديد بالعاصمة الرباط، وفي كل الوفاء للمنظر الطبيعي، والمشاهد الواقعية والسريالية الطرية، حين يدرك جديا أن فرشاته المدربة على تسلق ألوان التشهي قادرة على خلق تلك المتعة البصرية الخالدة، والعالقة في الأذهان، وصنع الزينة الفنية التي تحيل الفن التشكيلي في حضرته، إلى اعتزاز بقيم القيم التراثية، والمناظر الطبيعية، والصور الرقيقة التي هي في الأصل، صور من وحي ربوع الوطن، ومن وحي الخيال.

تراث حضاري مغربي

في معرضه المقبل، يحاول الفنان الوردي قدر الإمكان أن يكون قريبا من أحاسيس ورغبات الجمهور والمتلقي، وذلك من خلال إعادة تشكيل عالمه الفني الخاص، الذي ينهل من الواقع حينا، ومن سحر الطبيعة حينا آخر، وفي كثير من الأحيان يتنقل بين مجموعة من المحطات الفلسفية والرؤى الصوفية التي لا تزيد إلا طرح السؤال، كيف يصنع هذا الفنان، هذا الجمال، ومن ألوان داكنة حينا، ودافئة حينا آخر، فتحيل اللوحة التشكيلية إلى ضفة من السحر والرغبة في اكتشاف العالم، وقراءة ما تحبل به الأشياء والموجودات من دفء وأحلام وأحاسيس.
يحتفي الفنان الوردي في معرضه الجديد بالتراث الحضاري المغربي، وبخاصة في العاصمة الرباط، حيث يعيد تشكيل فضاء ساحة" باب الأحد" الشهيرة، وقت الغسق، مما يمنح الفضاء الليلكي والأضواء المنبعثة من مصابيح وثريات وضيئة، نوعا من الخصوصية والاستثناء والبهجة اللونية الرقيقة، فتتحول معها اللوحة التشكيلية إلى جدارية كبيرة ترقصها ألوان الليل الزاهي، تحت ستائر ضباب بحري خفيف، ينبعث من تخوم الأطلسي الأسطوري… إنها ألوان بهية يدرك الوردي وحده، أن ألوان الليلة قادرة على خلق المتعة البصرية للمتلقي أينما كان، سواء كان جالسا في احد كراسي الساحة بالمحاذاة مع الحائط الأثري الطويل، أو مارا من هنا باتجاه شاطئ المحيط الأطلسي بالجوار من المدينة العتيقة" الأوادية".

قيم وجودية وأحلام

وفي جانب آخر من لوحاته برع الفنان المغربي الذي عرض بالعديد من المدن المغربية، في رسم فضاء الكورنيش باتجاه مدينة سلا التاريخية، حيث يظهر نهر أبي رقراق راقصا مع أضواء الليل، فيما صومعة حسان التاريخية تنتصب شامخة منذ زمان.

لقد استطاع الفنان الوردي في أعماله، أن يحقق لنفسه عالما خاصا به، وذلك من خلال الاشتغال على تيمة الليل وما تنطلي من قيم وجودية وأحلام ودلالات طبيعية وميتافيزيقية، وبالتالي فان اللون الأسود الذي يطبع الكثير من أعماله ولوحاته الجديدة نوعا من التجديد، والاكتشاف، والانبجاس الفني في تجربته الفنية الجديدة، وهو ما يمنح لأعماله نوعا من الزهو، والبهجة الفنية التي ترقصها حركة الريشة، وخصوبة الألوان الدافئة التي تصاحب اللون الأسود أينما كان.

إن اللون الأسود في أعمال الوردي سحر الكحل في العين، واحتفال للفرسان في رحلة بارود باتجاه نخوة عربية زاهية، تحكي نونية الشاعر المتنبي في مناجاته لليل بفخر"الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم".

إنها إحالة مباشرة لتاريخ حضاري وأدبي جميل، ولتكريم الفنان بتقنية خاصة بفن الفروسية أو ما يطلق عليه اسم "الفانتازايا" الشعبية، مما يعكس قيمة الاهتمام بكل ما هو تراثي وحضاري، وله صلة بالعادات والطقوس، بالموروث الشعبي المغربي والعربي الأصيل.

في لوحة الفروسية يكاد المتلقي يستنشق رائحة البارود والنقع، حينما الخيل، تبدي حوافرها، وهي راكدة، تتسابق باتجاه خط النهاية، يكاد أيضا يسمع صهيل الخيول المطهمة، وصوت نواقيس الخيول في رقابها، وركابها، وحركة السروج المزركشة الزاهية، واحتكاك الخيول يبعضها، فضلا عن الإحساس بطهر قفاطين الفرسان وهم على صهوات جيادهم يتبخترون ويتمايلون في عنفوان وشموخ.

انه يحاول من خلال هذه الزاوية الفنية، وتلك الخلفيات السوداء، أن يبرز تيمة الليل والصمت، والحس الروحي الذي يمكن أن تتكلمه اللوحة، وستنطقه من فلتات، وميكانيزمات، ذات بعد صوفي تخاطب العقل، وتستمد من الليل مسافة وجودية وفلسفية، وقيمته الجمالية والشاعرية البهية، ثمة إذن لعبة الضوء والظل التي يراقصها الفنان الوردي بريشته المبدعة، تحيل الفضاء إلى ملمس حالم، يمكن أن تسمع منه همس العاشقين، ونفحة صمت شريف، مشبع بدفئ المكان والزمان وجمالية الفضاء بكل تجلياته الموحية الراقية.

وقال الوردي في تصريح بالمناسبة إن تجربته التشكيلية، بدأت منذ الطفولة، حيث كان يرسم كل ما تقع عليه عيناه، من مناظر طبيعية، وأشكال وموجودات، معتبرا أن المنطقة التي ينحدر منها، وهي منطقة" كيكو" بإقليم بولمان، ونظرا لتنوع الطبيعة فيها من تلال وسهول وجبال ومناظر طبيعية خلابة، ساهمت في تكوين تجربته العصامية التي صقلها بالممارسة المستمرة
كما أوضح أن مدينة فاس التاريخية، منحته أيضا فضاء غنيا للتراث الحضاري والمعماري، الشيء الذي جعل تجربته تعد خليطا ومزيجا من المواضيع التي تروق في نهاية المطاف الجمهور.
وشدد على أن المدرسة الواقعية والسريالية، التي ميزت مسيرته الفنية، أعطته نوعا من التركيز والمحاكاة الذكية، للعديد من الرؤى والأشكال التي تختلف من منطقة إلى أخرى، فضلا عن العديد من الأعمال ذات المسحة الميتافيزيقية المشبعة بفيض فلسفي ساحر.

قيمة التواصل في التشكيل

من هنا يمكن اعتبار تجربة الفنان الوردي، الذي يقيم ورشة دائمة بفضاء الفنون التشكيلية" فضاء بيع الزهور" سابقا، إلى جانب عدد من الفنانين في شبة معرض دائم للوحاتهم، تشرف عليها، جمعية رباط الفتح، من احدى تجارب المستقبل، والفن التشكيلي المتميز لما تمتاز به من شغب فني رقيق، يطرح السؤال، ويحاكي الحلم، ويستمد قوته الفنية من قوى وعناصر الطبيعة، والموروث الثقافي والشعبي المغربي، ويستلهم مقاماته من المرجعية الإبداعية الحقيقية التي تستند على المغامرة الإبداعية، والجرأة في طرح رؤيا فنية جديدة بأسلوب معاصر، وتعبير فني مشوق، ونبرة ميتافيزيقية وفلسفية تصنع من الألوان قيمة رمزية خاصة، وحركة الريشة سبيلا حقيقيا لصنع الجمال والأناقة والفنية، من اجل تحقيق المتعة البصرية التي يبتغيه المتلقي في الفنون التشكيلية.

وأضاف الوردي انه يراهن من خلال تجربته على الدخول بلوحاته وفروسيته، وتراثه الشعبي والتقليدي إلى البيوت المغربية التي لا تستطيع اقتناء اللوحات، وتكسير أسطورة، اللوحة التشكيلية للأغنياء فقط، ومن ثمة تيسيير وصول أعماله، وذلك من خلال بيعها بأثمنة زهيدة جدا، إن الهدف كما يؤكد نبيل وإنساني، وفني، قبل أن يكون تجاريا مائة بالمائة.

كما أكد في هذا السياق، أنه على كل فنان أن يتخلى عن رهان الربح، من وراء الفن التشكيلي وذلك في إشارة إلى بيع اللوحات باثمنة مرتفعة، مما يجعل الفقراء ومن ذوي الدخل المحدود، لا يقدرون على اقتناء تلك اللوحات، بل التفرج عليها للحظة واحدة دون الوصول إلى الاستمتاع بها في بيوتهم، انه من خلال فلسفته الفنية، التي يقيمها، سواء مع اللوحة أو في تجربته التشكيلية في علاقته بالتواصل مع المتلقي والجمهور، يحاول أن يجعل من الفنون التشكيلية، فنا قريبا من كل الناس، الذي يجب إن يقدم للإنسان البسيط وللدراويش وللمستضعفين، وفي نظرنا فلسفة تستند في الأساس على الإحساس بالآخر، ورغباته وطموحه وأحلامه.

وحول نظرته إلى الفنون التشكيلية المغربية، قال إن القطاع ما يزال تطبعه النزعة التجارية والاستهلاكية، وما يزال يسيطر عليه لوبي فني معروف، وهو الذي يتحكم في اثمنة اللوحات، وسوق الأعمال، وقاعات المعارض.

وشدد على أن قلة قاعات المعارض، تشكل احد المعيقات التي يعاني منها الفنان، حيث العديد من الفنانين يعزفون على تقديم جديدهم الفني، لان القاعات العمومية قليلة، واستحواذ أسماء معينة على العرض دون إعطاء الفرصة لكل فنان، داعيا في نفس الوقت جهات الاختصاص، إلى التدخل من أجل إيجاد قاعات مناسبة للعرض، وخلق نوع التكافؤ الفرص بين مختلف الفنانين.

ونبه إلى قلة تأطير وتكوين الفنانين الشباب، الذين يتميزون بمواهب حقيقية، في مجال الرسم، وهو الأمر الذي يجعل القطاع يلجه كل من هب ودب، داعيا بالمناسبة إلى أهمية تقنين المجال، وضرورة استفادة كل الفنانين المحترفين الممارسين من مضامين قانون الفنان الجديد الذي صدر مؤخرا.

خصوبة إبداعية رقيقة

هكذا استطاع الفنان محمد الوردي أن يوظف الخطاب الفلسفي في لغته التشكيلية، مما جعل أعماله تنضح فلسفة ألوان بمرجعية فيزيقية وجودية وانتروبولوجية، وإنسانية وتاريخية، خطاب فلسفي استمده معانيه، من أطروحته الجامعية، لنيل الإجازة التي كان عنوانها"الحرية في الخطاب الفني السريالي" التشكيلي" ومشكلة التواصل مع النص البصري".

كما يمكن التأكيد على الفنان الوردي، برع من خلال ألوان لوحاته ذات البعد الصوفي والفلسفي من إضفاء نوع من الحميمية والخصوبة على الإبداع التشكيلي المغربي. ألوان تغازل في العمق الفنون التراثية والأشكال الطبيعية المتنوعة. إن قيمة لوحات الوردي الجميلة ذات الملمس الحريري جعل من لوحاته تتحول إلى قصيدة لها بلاغة الكلمة الموحية، وليتحول الإبداع عنده إلى فيض من العوالم الراقية، التي تزهر بكثير من الرموز والدلالات، حيث المزج بين الصوفي والشعري، بتقنية عالية، وبين الفلسفي والأدبي والفني الجميل، وهم ما يعطي الممارسة التشكيلية، ذاب العبد الإنساني والوجداني عنه إلى رحلة ممتعة لصيد ملامح الجمال سواء بالليل أو بالنهار، سواء داخل الفضاءات الخارجية او من خلال رسم البورتريهات. مما يجعل أعماله محملة بفيض تاريخ، وسحر رومانسية ولمسة عشق، ورفرفة أحلام بأجنحة من بياض وحور عيون.

أطياف لحرية الروح

إنها أعمال تحاكي الشعر في وداعته، والربيع في أزهاره التي تتفتح عند كل فجر، والأفق حين يتنفس شموسا ذات وجه صبوح، إنها فراشات أحلام ترفرف في عز موسم الربيع، ومواسم تراثية يحتفي فيها الفرسان بأوليائهم الصالحين والمزارات والأضرحة، وبتقاليدهم وعاداتهم، وبمورثهم الثقافي والشعبي، الأمر الذي يجعل من اللوحة التشكيلية في حضره الوردي عبير ورود، تنضح بالهادئ البنفسجي الشفيف، وبالرومانسية وأريج السفانا في التخوم الأفريقية البعيدة، إنها مرايا عاكسة للسحر والفنون الصوفية، المتجدرة في أعماق التاريخ، ومساحات للحرية الفنية والإبداعية، ورقة الأمل والطبيعة، والرومانسية، هي مديح للحلم، و أطياف لحرية الروح، ولصمت الليل بحس وجودي فلسفي جميل.

من هنا يمكن تنصيف الفنان محمد الوردي الذي أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل وخارج المغرب، كان آخرها معرض جماعي بمدينة" دروه" الفرنسية، ضمن خانة الفنانين الذي تستهويه السريالية والواقعية التصويرية، وهو محور معرضه المقبل بالعاصمة الرباط، الأمر الذي يجعل منه احد فناني المستقبل، الذي يعتبر الفن رسالة نبيلة، واللوحة التشكيلية ملكا للجميع، وباعثة على الأمل، والحلم، وتحقيق المتعة البصرية الرقيقة، التي تشفي القلب من تعب النهار ورزايا السنين الغابرة، إنها بكل اختصار، ألوان بهية ترسم للمتلقي قفاطين من المودة الفنية الوديعة، التي تنفذ إلى الروح بطعم شاعري واحتفالي ممتع.

المصطفى الصوفي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى