الثلاثاء ٢٠ آذار (مارس) ٢٠١٢

نقـد السَّـرد

بقلم أحمد فائز عزام

صدر حديثاً كتاب (نقد السرد: مقالات وبحوث في نقد القصة والرواية) [1] للدكتور أحمد زياد محبك، أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة حلب، ويضمّ الكتاب مجموعة من المقالات النقدية والدراسات الأدبية في مجال تحليل بعض الأعمال السردية، وقراءتها قراءة ثقافية حرة، ومن جوانب نقدية مختلفة.

والكتاب بمجمله ينقسم قسمان الأول: يتضمن ست دراسات في نقد القصة والرواية، والثاني: يتضمن أربع مقالات عن الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، وقصيدة النثر، وهي:

قصص البادية: قراءة في قصة "البرّيّة".
انكسارات الرؤى المستحيلة: قراءة في قصة قصيرة.
رحلة خيال: قراءة في مجموعة قصصية.
شخصية المستعمِر في رواية اللاز.
السفر إلى حيث يبكي القمر: قراءة في رواية.

القصة التاريخية بين التوثيق والخيال: قراءة في كتاب "صور من حياة الصحابة".

متعة الرواية: رؤية ذاتية.
القصة القصيرة: رؤية ذاتية.
القصة القصيرة جداً: رؤية ذاتية.
جناحا الحداثة: القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر.

وسنقف في عرضنا هنا على دراستين فقط هما: (قراءة في قصة "البرية")، و(شخصية المستعمِر في رواية "اللاز").
في دراسته لقصة (البرية) للمؤلف عبد الله أبو هيف، يرصد الدكتور محبك مجموعة من العناصر السردية التي تحتويها القصة. فالحوار في القصة حي، وسريع، ورشيق، يمثّل البيئة التي يتم الحديث إلا أنّ بعض مواقف الحوار لا تخلو من عبارات فصيحة ليست من ألفاظ البيئة، فأسلوب التوكيد واضح، وتلوين بعض الجمل والتراكيب بصور فنية هو أمر بعيد عن مستوى التعبير للشخصية العادية.

ولعل المكان يبدو عنصراً مهماً في القصة، ويبدو ذلك من العنوان (البادية) فهو يشير إلى مكان معروف يمتد على مساحة واسعة من الأرض. ويرى الدكتور محبك أنّ المكان هو الشخصية الرئيسية في القصة وهو المسيطر فيها، إذ يخلط المكانُ العناصر بعضها بالآخر، فتختلط في القصة البيوت الطينية بالوجوه المغبرّة، كما تختلط أيضاً المدينة بالبادية، لتسيطر حالة القحط التي أصابت "البرية" على المكان بكلّ ما يحتويه، وبذلك بدا كل ما في هذا المكان بدون ملامح، فلا أسماء للشخصيات ولا سمات لها، فما هم سوى مجموعات بشرية من الرجال والنساء والأطفال تتحرك وتتفاعل ضمن المكان.

ويمتد الزمن في القصة من شهر أيلول إلى نهاية شهر أيار، والفترة الممتدة بينها ليس فيها سوى الموت والجدب واللون الأصفر، فلا مطر، ولا عشب.. وبذلك يمرّ الزمن بتقلّباته المصفّرة على البادية ليبقى المكان والإنسان دون أي تغيير، فالإنسان محكوم بالمكان وإن انتقل إلى آخر فهو أيضاً محكوم به، فهو في الحقيقة ينتقل من بادية إلى بادية أخرى.

ويختم الدكتور محبك دراسته بالتأكيد على أن قصة "البرية" هي قصة بيئة أي قصة مكان، والمكان هو الذي يوحّد بين عناصر البيئة ويصهرها ضمن تصوير القاص لهذا المكان.

وفي قراءته لرواية (اللاز) للطاهر وطار يركّز الدكتور محبك على حضور المستعمِر في الرواية، وعلاقة هذا المستعمر مع الذات، وعلاقته مع الآخر.
وتظهر في الرواية ثلاث شخصيات استعمارية، هي: الضابط وهو صاحب الحضور الأكثر والأقوى بوصفه المعبّر الحقيقي عن شخصية المستعمر، فهو حاضر على امتداد صفحات الرواية، والملازم استيفان، والحارس بول.

ويصطلح الدكتور محبك على شخصية الضابط، الذي جسّد حضور المستعمر بكل أشكاله وألوانه في الرواية، مصطلح "الجسدية"، إذ لا اسم له، ولا روح فيه، وتكوينه الجسدي والاجتماعي والخلقي مثير للكراهية والاشمئزاز. والجسدية هي مفتاح شخصية هذه الضابط، فهو مجرد جسد، يأكل ويشرب، ويتوتر ويغضب، ويسخّر الآخرين للفعل، ويبقى هو متفرجاً على مَنْ يمارس الفعل.

ففي علاقة المستعمر مع الذات، يتحدث الدكتور محبك عن خمس نقاط تشير إلى علاقة المستعمر/الضابط مع ذاته، وهي: الاستغراق في الخمر، الشذوذ، التوتر والخوف، الغربة، النرجسية والغرور.

فشرب الخمر يبدو بشكل مفرط وكأنه محاولة للهروب من حالة القلق والضياع التي يعيشها الضابط، في سبيل نسيان واقعه ومأساته.
أما الشذوذ الذي يعيشه الضابط فهو يعبر عن وضعه اللامتوازن، وجميع أعماله وتصرفاته الشاذة ضمن حركة السرد تدل على حالة الضعف والعجز، فهو يريد الانتقام من الجميع والنساء خاصة، حتى إنه يحقد على الحيوان أيضاً، ولا يتردد العريف "بعطوش" في تنفيذ أي أمر من أوامر الضابط في سبيل تحقيق الانتقام الذي يريده هذا الضابط.

ولكن إلى متى سنبقى نعلّل تصرفات هذا الضباط وأشباهه بالمرض سواء أكان مرضاً نفسياً أم جسدياً، فهو يستحق هذا العجز ويستحق الموت لإنهاء هذه الظاهرة المرضية التي لا تؤذي نفسها فحسب بل تؤذي كل مَن حولها وكل مَن يقف في طريقها، إنه شكل من أشكال الاعتداء على القيم والدين، في محاولة لتحطيمهما وكسر الأعراف المتوارثة، وفي الحقيقة هو يستحق كل هذا العجز والتوتر والخوف بقتله رمز الخصب والتوالد؟!

ولكن ما يبعث على التفاؤل الذي يحيط به جو من الإنسانية العاقلة هو استيقاظ ضمير "بعطوش" وعودته إلى إنسانيته في نهاية الرواية عندما يقوم بقتل هذا الضابط.

أما حالة التوتر والخوف والغربة فهي ملازمة لهذا الضابط المستعمر، وهي حالة تجاوزت حدّها الطبيعي، لتتحول إلى ظاهرة مرضية. وتمتد هذه ظاهرة المرضية لتشمل الثكنة العسكرية كلها بما فيها من عساكر وجنود وآليات...

ويسيطر الغرور على الضابط المستعمر، وكأنّه القبطان الفرنسي الوحيد الذي استطاع فتح جميع الجبهات، وهو غرور ناتج عن حالة الاضطراب والتوتر والضياع التي يعيشها هذا الضابط.

وفي حديثه عن علاقة المستعمر مع الآخر، يعود الدكتور محبك للتأكيد بأن الجسدية التي تحكَّمت بعلاقة المستعمر بذاته، هي ذاته التي تحكم علاقته بالآخر من خلال عدة نقاط، هي: اصطناع الأعوان، الاحتقار، إغراق الآخر في الخمرة، التعذيب، الاعتداء على القيم.
فاصطناع الأعوان هو أمر مهم بالنسبة للضابط المستعمر، فهم عيونه، وهم مَن يشبعون شهوته الشاذة، وهم أداته التي ينفّذ بها جرائمه واعتداءاته.
ويبقى الاحتقار هو ديدن الضابط المستعمر مع مَن يحيطون به، فهم، بنظره، لا يساوون شيئاً، ولا يستحقون أكثر من رصاصة واحدة.
وفي سبيل وصول الضابط إلى متعه الشاذة يغرق الآخر في الخمرة، فحالة السكر التي تنتاب أعوانه هي حالة من فقدان الوعي في سبيل تحطيم ثقافتهم وكسر قيمهم.

وأكثر أشكال الجسدية وضوحاً هو التعذيب الذي يمارسه الضابط المستعمر على الجماد والإنسان والحيوان، وهو، أيضاً، شكل من أشكال الانتقام للذات المريضة التي تعفّنت فيها الخلايا الحيّة. وهو يستهدف بذلك الاعتداء على حضارة الشعب وثقافته ووجوده. وفي ذلك كله ما يؤكد حالة تحطيم القيم والاعتداء عليها التي يقوم بها الضابط المستعمر.

بقلم أحمد فائز عزام

[1نقد السرد: مقالات في نقد القصة والرواية، د. أحمد زياد محبك، دار الفرقان، حلب 2012.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى