الجمعة ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم مفلح طبعوني

شاعر بين مدينتين

لى الشاعر أحمد دحبور

التقينا أول مرة في ناصرة الجليل، صيف أربعة وتسعين وتسع مائة وألف. تحدثنا يومها عن الحياة التي تستولد الفلسطينيَّ من أجل الانتفاض، السجن حتى الموت. تحدثنا عن الأدب والقمع، عن السياسة والخبز، عن النبيذ والمنفى، عن العشق والانهزام، عن العطاء والاستسلام، عن الورد والدم، عن الزيتون والحرب، عن الإبداع والهدم، عن الشعر والنثر، عن الكرمل وحيفا، وعن الوادي ونسناسه.

انبهرت من هدوئه الصادق، وسكونه الصافي، مثلما انبهرت من قبل من إبداعاته ومكانتها، في المحافل الأدبية والثقافية، ومواقعها عند المتلقين، فأنشدت قصيدة أحبها، للشاعر راشد حسين:

"أنت مجنون ..
ولن تشفى..
أمامك جنة الدنيا..
ولست ترى سوى حيفا.."

هو من المثقفين المتقدمين والتقدميين، يتواصل مع الثقافات الأخرى بعفوية ومحبة، ومنذ حوالي الخمسة عقود، وبالتحديد قبل عدوان سبعة وستين، القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، يكرس كل ما يملك من أدوات إبداعاته، للدفاع عن قضية شعبه، قضيتنا، وعن قضايا الشعوب المظلومة بإنسانية راقية وحداثية، كيف لا وهو القائل:

"أن تكون شاعرا حديثا يعني أن تكون إنسانا حديثا. وهذا يتطلب، لا أن تضيف الكثير وحسب، بل أن تتخلى عن الكثير".

التقيته في الناصرة التي أهداها بعد زيارته لها، وردة وقصيدة:

وردة للناصرهْ،
دمعة تسري على خد جليلي،
من الجرح الجليليِّ،
إلى عودة عمر أعوزته الذاكرهْ
دلني يا ولدي يا سيدي يا جدُّ:
هل شاهدتني، من قبل،
ميتًا وتحريت القيامهْ،
أم أنا العائد من غاشية المنفى
إلى بر السلامهْ؟
إن أكن عدت، فعبئ ذكرياتي الشاغرهْ
رُدَّ من وجهي إلى التربة، غصنًا وابتسامهْ،
إنني منها –
فنَسِّبْني إليها بعلامهْ

ولج شاعرنا إلى حدائق الإبداع من أوسع مداخلها، بوروده التي حملها منذ الطفولة. بفكر ثوري تقدمي ينفذ لدواخل النفس البشرية بصياغات إبداعية، رسمها بتطور مع مضامين أصيلة مكثفة استوعبت الانفتاح الإيجابي وأقانيم الصفاء.

تخرج من مدارس وجامعات ترابنا الوطني، والتي خرجت بدورها الكثيرين من أبناء شعبنا في جميع مجالات الإبداع. تمكن شاعرنا "أبو يسار" من تدميك إبداعاته على خلفية ثابتة، بتجانس مع تنقلاتها المرحلية، بخصوصية واضحة، حيث تمكن من غمر إبداعاته الخاصة بالتجديد، والولوج إلى مغامرة عناق المجهول بحثًا عن الأفضل.

يتصدى شاعرنا لمحاولة حصر إبداعاتنا وإغلاقها داخل مفاهيم ( عَقَّادِيَّة) متشنجة بحجة الحفاظ على الأصوات والفواصل والأوتاد.

انغمست ذاكرته باستمرارية وفي أغلب الأحيان، بشكل تصاعدي، مع العذابات الدامية، فانفجرت لغته خارجة من ذاتها، محلقة وراء المدى الأسطوري والصدى الحضاري، لتسبح في آفاق المخيلة، بعد أن أينعت من أرحام الطقوس المبثوثة في الفضاءات الفلسطينية الملازمة لحياة العصافير والورد:

"خذ يدي، يا ولدي،
واقرأ يدي ينبئك جرح:
إنني أقرأ باللمس،
لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها؟
أين أنا؟ أين تكون؟
خذ يدي، يا سيدي اضربني..
تُصَدِّقْ أنني حي،
وفي قلبي جياد خاسرهْ
خذ يدي يا جد، ولتحرث دمي بالوشم
تستيقظْ ينابيع،
ويمتدَّ ربيع القدس من نومي،
إلى يومي،
وتنهدَّ السجون
فلقد غردت الريح وردت بالتباريح الغصون:
يا طيورا طائرهْ
يا وحوشا سائرهْ
بلغي دمعة أمي،
أن حيفا لم تزل حيفا،
وأني أسأل العابر عنها
في ربوع الناصرهْ".

التقيته ثانية في حيفا، حدثني عن كينات وادي النسناس، كينات أمه، حدثني عن الكرمل والبحر، عن ساحة الحناطير.. وعن الفرن.

حدثني عن حجارة الطفل الفلسطيني التي فرضت نفسها على الشعر، فأخذت القصائد وبشغف، الغرف من نبع الطفولة الفلسطينية، ومن تمردها على الواقع، بعطاء مكثف ووفاء شاسع، جعلها تختلف عن باقي طفولات العالم، بتمردها وحيويتها.

وقد رسم شاعرنا الدحبور هذا الواقع بقصيدته (حكاية الولد الفلسطيني):

لأن الورد لا يجرح
قتلتُ الورد
لأن الهمسَ لا يفضح
سأعجنُ كل أسراري بلحم الرعدْ
أنا الولدُ الفلسطيني
أنا الولد المطل على سهول القش والطينِ
خَبَرْت غبارها، و دوارَها، والسهد
وفي المرآة أضحكني خيال رجالنا في المهد
وأبكاني الدم المهدورُ في غير الميادينِ
-تحارب خيلنا في السِند
ووقت الشاي ... نحكي عن فلسطين
ويوم عجزت أن أفرح
كَبرْت، وغيرَت لي وجهها الأشياء
تساقطت الجراح، على الربابة، فانبرَت تَصْدَحْ
بلاد الله ضيقةٌ على الفقراء
بلاد الله واسعةٌ وقد تطفح
بقافلة من التجار والأوغاد والأوباء
-أيأمر سيدي فنكب أهل الجوع والأعباء؟
-أتقذفهم؟ ومن يبقى ليخدمنا؟
-إذن تصفح
ويوم كَبرْتُ لم أصفح
حلفت بنومة الشهداء، بالجرح المشعشع فيَّ : لن أصفح

وقبل الختام، أقدم لشاعرنا، جمل المحامل، مقطعًا من قصيدة (جمل المحامل) التي كتبها سنة اثنين وألفين، والتي يقول فيها:

سيؤلمك العذاب على الصليب،
وربما اقترع الجنود على ثيابك،
ربما لم ينتحر من سلموك،
وكيف ينتحر الذين
بنفسهم قتلوك ذات صبيحة ومساء.
وما الدنيا سوى أسماء
ولكن لا عليك
فإن زلزلة تراود صخرة الجبل
ويا جمل المحامل عدت بالأعباء
ولكني أبشرْ
لن تعود غدا إلى ما كانت الصحراء.
وَأَخيرًا إِلَيْكَ يا أَحْمَدُ.. يا أَحْمَدَا.. أَبا يَسارٍ.. رَشَّةَ عِطْرٍ مِنَ النَّاصِرَهْ:
لَكَ مِنَّا باقَةَ أَزْهارٍ مِنْ رُبى النَّاصِرَهْ
اَلَّتي قاوَمَتْ، ظَلَّتْ قاهِرَهْ
لَكَ مِنَّا باقَةَ وَرْدٍ مَعَ أَدْمُعٍ صابِرَهْ
وَلَـها ظِلٌّ فَوْقَ رُبوعٍ ناضِرَهْ
لَكَ مِنَّا باقَةَ أَزْهارٍ مِنْ رُبى النَّاصِرَهْ
وَالَّتي عَبَقَتْ بَيْنَ عُيونٍ قاصِرَهْ
رَقَصَتْ أَلَـمًا بَيْنَ ذِئابٍ كاسِرَهْ
وَٱسْتَمَرَّتْ في ٱلْعَتْمَةِ سائِرَهْ
رَغْمَ ظُلْمِ ٱلْقُرْبى وَعُروشِ ٱلْـخَنَى ٱلْـخاسِرَهْ
لَكَ مِنَّا أَحْمَدُ.. أَزْهارَ روحِ النَّاصِرَهْ
 
ألقيت في حفل تكريم الشاعر في مدينة البيرة – رام الله، أواسط نيسان/2012.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى