السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢

«أنشودة للبكاء» إطلالة روحانية، وأبعاد صوفية

وليد أحمد الحسام

من شرفات سَكِيْنةِ القصيدة وهدوء الشاعرية وهجعتها المترعة بضياء الفكر وصفائه يطل (إبراهيم أبو طالب) بوحي هاجس الروح أنشودة لبكاء طينة النور.. أنشودة تتفتق من تراتيلها العذبة روحانية تعمر الوجود قداسة، وتمزج مشاعر الإنسانية بطهارةٍ روحيةٍ تبيَّض بها القلوب والأبدان فيعيش خيال الإنسان حياةً صوفيةً محضة.

((أنشودة للبكاء)) عنوان المجموعة الشعرية الثانية للدكتور/إبراهيم أبو طالب، وهي مجموعةٌ شعرية تتماهى أنفاسها بخشوع مع تسابيح هائمةٍ في ملكوت الروح.. خصف الشاعر عنوانها من رؤيةٍ متوغلةٍ في الصوفية وركبه من:-

((أنشودة)) وهي عند الصوفيين شلال حنينٍ تغتسل من فيضه المشاعر.

((البكاء)) وهو صلوات الروح وابتهالها بين يدي بارئها.

كم هو جميلٌ أن يُطبع شعر شاعرٍ بومضات روحانية وأبعاد صوفية دون وعي الشاعر، ودون أن يحاول ارتداء التصوف كما قد يحدث عند شاعر ما، وهنا تكون التجربة الشعرية صادقة وإنسانية محضة لا يشوبها شائب، وهذا البعد الصوفي غير المتعمد نجده عند شاعرنا هذا الذي قـد يكون للحياة الاجتماعية أثرٌ والتربية الدينية(#) في ذلك كما هو ملموس عند كثير من الصوفيين؛ فقد عاش الشاعر طفولته وصباه بين يدي جده الذي كان قاضياً، عالماً في الدين واللغة فارتشف الشاعر من علمه وثقافته الدينية، وظل هذا الأثر ملازماً لفكره ومسترسلاً في شعره لكنني حين وقفت على الإهداء بالقراءة المتمثلة له وهو فقده لإنسانة عزيزة على قلبه في وقت كتابة هذا العمل الأدبي خطر إليَّ بعد قراءة هذا الديوان أن موت إنسانة بحجم أمه – كما في الإهداء – وفقدانه لها وحزنه عليها قد جعل روحه تمرُ بمرحلة صوفية وروحانية غير واعية وإن لم يكن قد مارس طقوس المتصوفة فإن ذلك قد يكون سر الأثر الصوفي في شعره، فكثيرٌ ما يشعر الإنسان أو يمر نفسياً بروحانية خلال مدة معينة، وأحياناً كثيرة قد يجد في التصوف ملاذاً له من أزماتٍ نفسية أو اجتماعية أو سياسية يبحث فيه عن عالم أكثر صفاء ونقاء.. عالمٍ روحاني يُنقّي روحه، وها هو الشاعر في حزنٍ يناجي الدمع، ويبحث فيه عن بهاء ذلك العالم فيقول:-

"أيها الدمع؛ زدني الآن نوراً
وانشر الصدق في العيون
وفي الأرض
فما في السماء غير لحنك لنٌ
أنت يا سيدي البكاء، سمو
أنت ماء الوجود
في ضمأ الروح".(#)

هكذا يطلب الشاعر من الدمع النور الذي يُصفِّي الوجه والسريرة، ويحاول أن يلامس الصدق في عيون الناس هذه القيمة الإيمانية النبيلة، وهكذا تنفعل روح الشاعر الباحثة عن عالم القيم وعن حياة السعادة النابعة من الإيمان.

لغةٌ راهبة.. وترانيم خاشعة:-

اللغة في عالم التصوف قافلة من ندى المشاعر.. خطاها في الخيال تسابيح روحٍ لم يمسها درن الذنب منذ أزلٍ بعيد، وتلعب اللغة دوراً كبيراً في الخيال الصوفي بانتقائها عوالم رمزية أكثر اتساعاً تختزل من أشكال الوجود رموزاً، وصوراً دالة على الملأ الأعلى والجوهر واليقين والاتصال ووحدة الوجود(#) واللغة في نصوص هذا الشاعر راهبةٌ لم تهجر محراب مناسكها ففي ذلك المحراب نمت وتغذت بروحانيةٍ ترانيمها خاشعة لذهولٍ متسربٍ في خبايا الوجود كأنها كتابٌ سماوي.

هكذا وجدت لغة الشاعر مشرئبةً بإيحاءاتٍ ورموز صوفية، ومفردات تزدان بنورانية الأحاسيس.. مقتنصة من أجواء مُتعبدٍ يختلي بنفسه في معبدٍ لا طرف له ولا تحيط به جدران.. سقفه السماء ليتأمل في ملكوت الله ويصول ويجول بفكره بين مصيره وماضيه ويناجي ربه بقوله:

"يا إلهي،
إليك أسلمت حزني
فتقبَّل مني البكاء صلاةً
واعفُ عني
أفشيتُ سرَّك للناس
لأني
ما عدت أسطيع صبرا".(#)

في صمت الوجود وغفلته تستحضره اللغة عندما ينفرد مع الله عز وجل ويلوذ به، فتنثال عليه بلفظ المستغيث ((يا إلهي)) ومصطلح الناسك ((صلاةً)) ومفردة المتوسل بالدعاء ((تقبل – اعفُ)) وعبارة اللاجئ المثقل بالتيه ((ما عدتُ أسطيع صبرا))، وترانيم خاشعة بخشوع روح الشاعر، وممَّا يقتنصه خيال هذا الشاعر من مفردات متعلقةٍ بمحيط الزاهد المتعبد قوله في مقام الحسين:-

"قلبك السجادة الكبرى
الذي ما مات
لكن
صار للجنة جسراً
يقتفيه الأولياءْ".(#)

نجد أن ((القلب)) وهو منبع الأحاسيس، و((السجادة))، و((الجنة)) و((يقتفيه الأولياءْ)) مفردات ومسميات لأشياء نجدها في طقس المتصوف عندما ينفرد بنفسه لمناجاة ربه، ولم ترد الألفاظ الموحية إلى التصوف في قصيدةٍ أو قصيدتين فقط من ديوان هذا الشاعر بل لا تخلو قصيدة من تلك الألفاظ والتراكيب حيث نجدها في ثنايا هذا الديوان تتباهى بوميضها كالآلئ بين الحصى والأحجار الكريمة ومما ورد من المفردات الصوفية بكثرة هي ((الصفاء، الضياء، النقاء، السماء، الوجد، النشيد، الخطايا، الوجود، وحورية.. وغير ذلك)) وما اخترت هذه المقاطع إلا للاستشهاد، فقد جاء في حديثه عن صنعاء قوله:-

"في مسجد (المفتون) أخلع فتنتي
وأصلي العصرين جمعا
و(الفليحي) يرسل (المذهب)
ويأخذه (عقيل) على صوامعه
ويسمعها السماء".(#)
ويقول عنها أيضاً:-
"شرفاتها للروح أبواب
وسدرة منتهاها لحظة الإشراق
ساعات الصفاء"

إن كل قصائد هذا الديوان إذا نظرنا للغة نجدها فيضاً من المفردات والألفاظ التي تختزل عالماً خصباً من التصوف، كما أنها تخرج بطابعها عن دائرة التجربة الشعرية أثناء الكتابة وتظهر في حالٍ من اللاوعي وتكسب الألفاظ مدلولات جديدة، وتكرار الشاعر لبعض هذه الألفاظ الدينية يعطي النصوص موسيقى صوفية داخلية منبعها اللاوعي، كما أن للموسيقى في قصائد هذا الديوان غنائية وتناغماً وإيقاعاً يغسل الروح بلحن الكلمة المقدسة، ((الموسيقى عنصر مهم في الشعر فهو كما يرى أرسطو الأساس الثاني للشعر)).(#)

انخطافات وتجليات روحانية جامحة:

إن الأفكار والعواطف مادة خام لكتابة القصيدة فالشاعر الذي يكتبها كما هي لا يكون مبدعاً، ولا خلاقاً، بل لا يكون شاعراً(#)، ولكنني وجدت في غمرة غرائز هذا الشاعر مهرجان من العواطف والمشاعر تصور – بأسلوبه الخاص – عالم الروح وعالم ما وراء الطبيعة وبانفعالاته يناقش قضايا الوجدان باحثاً عن عالم يستمد شرعيته من مكونات ثقافية متعددة كالقرآن والشخصيات الدينية والمكان والوطن في رحلة شعرية أبعادها روحانية وانخطافاتها وصورها الفنية تهجدات عذبة يستعذبها المتلقي وتترك آثارها في مشاعره ممزوجة بإيحاءات وإشارات صوفية، ويتمثل التصوف لدى هذا الشاعر في مقام الشخصيات الدينية والشهداء والأولياء خير تمثيل في قصيدة بعنوان ((في مقام الحسين عليه السلام)) حيث يجد فيه مثالاً للقداسة والطهر والولاية الحقة لله ومن المعروف أن التغني بالأولياء والصالحين من عناصر الشعر الصوفي، ولا يخفى ما للتراث الديني من تأثير في وعي الكاتب(#) يقول الشاعر:

"أيها الآتي من الوحي سلاماً
وسلاماً
يوم جئت
يوم عشت
يوم غادرت مع كل النجوم
يوم صار الأفق من حولك نوراً
واستدار
طاف كل الصحب في مسعاك
كانوا حول قدس الماء
طلاباً صغارا
وفراشاتٌ على ضوئك عاشت
قمت تدعوهم
وعطر الوحي من تغرك ينساب جلالا"

ويـقـــــول:-

"نحن آمنا قديماً
ونريد الآن تجديداً
مع صوت السماء
***
نحن ناديناك
أخرجناك من صلواتك الأخرى
ورتلنا مددْ".(#)
***
إلى أن يقول:-
"إن صوت الله في الدنيا
هو الفصل الخطاب
ورسول الخير للدنيا
هو الحب العظيم
وضمير الحق في الدنيا
يحركه الحسين".(#)

لقد صور الشاعر هذه الشخصية الدينية بوحي آتٍ من النور ينساب من ثغره عطرٌ من زبد السماء، وأنه رحل مع الأولياء الصالحين أولئك النجوم الأبرار، كما صور حاجة الناس إليه ليجدد بقيمه ومبادئه الإيمان في قلوبهم وما الناس الذين يطوفون على قبره إلا طلابٌ يتعلمون من تاريخه الحكمة والمبادئ ويكتسبون منه القيم، وأن ذكراه التي رمز لها بالشمس تزيد المؤمنين إيماناً وتديناً وأن هذا الإمام صوت الحق وضميره بين الناس وأن نداءات الأنبياء في دمائه تلبي الإسلام وأجزم أن للشاعر في هذا الاتجاه تجديداً فنياً صوفياً منصهراً مع الحداثة حيث تظهر ملامح هذا التجديد في لغته الخطابية ورؤيته الفكرية؛ فكان خطابه موجهاً للغائب بجسمه، والحاضر بكل معاني القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية والإنسانية التي تمنحنا الشعور بالسمو الإنساني، يقول الشاعر: ((نحن أخرجناك من صلواتك الأخرى إلى صلواتك الدنيا)) أي استحضرناك نوراً ودروساً ومرجعاً لحياتنا عند ضلالنا لنستمد منك الهدى والحكمة والقيم، أمَّا تجديده من حيث الرؤية فنجد أن الشاعر عند بحثه عن العالم المثالي المتجدد بقيم ومبادئ الدين الإسلامي وجد أنه هذا العالم الذي يستمد شرعيته من هذا المكون الثقافي المتمثل في هذه الشخصية التي مـن خلالها تتجدد علاقتنا بالله حيث رمز لله عز وجل بقوله:- ((صوت السماء))،(#) وكأنه يشير إلى خللٍ في علاقتنا بالله، ولم يصرح بلفظ الجلالة تنزيهاً وتقديساً له، أضف إلى ما سبق من ملامح التجديد أنه ربط هذه الشخصية بما تمتلكه من ممكنات تحقيق العدالة ونشر القيم بواقعنا الذي يحتاج إلى ذلك وهذا لا يظهر عند مناجاة الكثير من شعراء الصوفية للأولياء والتوسل بهم ومن تجديده أنه يناجي هذا الولي ليس لأنه من عباد الله الصالحين فقط بل أضف إلى ذلك أن هذا الولي في نظر الشاعر المثل الأعلى الذي سيخلص المجتمع من وحشة الحياة ومآسيها، فالشاعر يعبر عن شعور وآمال هذا المجتمع الذي يعيش فيه، ويبحث عن الشخصية الدينية العادلة التي تلبي الحياة الكريمة لهذا الإنسان(#)، إن هذا شغفٌ في قلب شاعر يحركه الحسين والعلاقة في ذلك هي رابطة الدين الإسلامي الحنيف.
إذا نظرنا للمكان في الشعر فإن الشعر لا يضع حدوداً لتعامله مع المكان، فالمكان الشعري ينحدر من علاقات عديدة ومختلفة تبعاً لطبيعته ومرجعياته وتشكيلاته الشعرية.(#)
وفي كثير من الأعمال الشعرية يكون المكان طقساً يحمل طقوس العبادة استجابة لدعاء الآخرة ونداء السماء(#) كذلك للمكان تجلياتٌ روحانيةٌ في شعرية هذا الشاعر تكتنفها صنعاء قصيدة التاريخ والفضاء المقدس في ديوان هذا الشاعر، حيث جاء وصفه لها مجنحاً بصوفيةٍ تتتبع روحانية المكان كما نقرأ قوله في هذه المدينة العريقة:-

"سماؤها الدنيا
إذا ابتسمت تدلت قٌبلة الرحمن من أرجائها
ومضت على سجادة النجوى
ترتل ما تيسر من حديث السور"
- ويــقـــول:-
"صلواتها في الليل تسبيح (الكبير)
دعواتها الخمس الكساء
****
ونشيدها في الروح تعزفه
المآذن
والنوافذ
والنساءْ".(#)

لقد وصف الشاعر (صنعاء) بصفاتٍ واقعية يذوب لها خيال القارئ كما يصف أحدهم الجنة حيث يتخطى بخياله في أرجاء هذه المدينة متلمساً البهاء مما تزخر به من طقوسٍ دينية وتسابيح وصلوات وأدعية وأناشيد وما فيها من مساجد ومآذن صدى صلواتها تسحر لبَّ الإنسان وتسكره بروحانية المكان، تراتيلاً في شعائر هذه المدينة ومقتنياتها الإسلامية كما نلمس في القصيدة إيحاءات الدهشة والذهول بملامحها الدينية، والكتابة عن المدينة تستجمع قوتها وعنفوانها الدائمين من تجربة وخبرة الشاعر في صداقته العميقة مع الأمكنة.(#)
علاقة الشاعر بالوطن – أيضاً – علاقةٌ صوفية ناضجة الرؤية.. علاقةٌ منسلخة من علاقته بخالقه(#) – كما اتضح لي من شعره – حيث يقول في قصيدته التي تحمل عنوان ((مفتتح البكاء)):-

وطني أحبك رغم كل متاعبي
مُذ كنتَ في هذا الوجود وجودي
لو لم أوحد خالقاً متفرداً
لجعلت نحوك قبلتي وسجودي(#).

من خلال البيتين السابقين نكتشف أن علاقة الشاعر بوطنه علاقةٌ دينيةٌ خالصة فالوطن في نظره مقدسٌ لأنَّه من أساسيات الدين الحنيف، وله في قلب الشاعر مكانة عظيمة عظمَّها الله تعالى وأن حبَّه واستشعار عظمته والحفاظ عليه عبادة لله المعبود، وأن التأمل لما فيه من جمال الطبيعة وأسرار حياتيةٍ وكونية بديعة هو تدبر وتفكر في مقدرة الله جل وعلا، وأن الجمال في الوجود ما هو إلا تعبير عن جمال خالقه – كما هي رؤية الصوفيين – حيث يقول

وجرى ماؤك المصفَّى دلالاً
قال: كن في النفوس نفساً جديدة
فإذا بالوجــود يقطر حبــاً
وإذا بالجمال يغدو عقيدة(#)

فالجمال الإنساني عقيدة بالجمال الرباني – تعالى ربنا وتقدست صفاته – إذ يصور الشاعر في هذين البيتين أن استشعار جمال الإنسان والطبيعة والكون استشعارٌ لجمال الخالق البارئ.
أثر القرآن الكريم، واستدعاء بعض قصصه:

يظهر تأثر الشاعر بالقرآن – وهو المكون الأول من المكونات الثقافية والأيدلوجية في قصائده جلياً يسمو بالقصيدة إلى مرتقى الروحانية، فحيناً نجد تأثره بذلك من حيث البعد اللغوي والموسيقي فنجد تناصاً في كثير من مفرداته مع مفردات القرآن وتناغم لغته بألفاظ قرآنية بليغة، وحيناً آخر نجد تأثره بالقرآن فكرياً أو من حيث المعنى(#) إذ يتجلى ذلك في رؤيته كما في بعض المقاطع، كما أنَّه قد يخطف بشاعريته الفذة آية كريمة عندما يجد عند الكتابة مناسبة الاقتباس، ومما قاله ولغة القرآن ديدن لسانه:-

"فانبجست منه آهات عَدْنٍ
بذات الشمال
وذات اليمين
وذات الرياض التي هطلتْ
روحها في رياح الديار"
ويــقــــول:-
"أتت كي تقد قميص السماء"
ويــقــــول:-
"فدمدم رعد السماء"
ويــقــــول:-
"كن
في النفوس
نفساً جديدة"(#)

مما سبق نستشف أن الشاعر أطلق للغته العنان فإذا بها تُحلِّق في فضاء القرآن تعتصر منه مفردات مركزة ترتشف منها القصيدة بهاء الروحانية وعبقها ففي المفردات التالية: (عَدْن – ذات الشمال – ذات اليمين – تقد – فدمدم – كنْ) نجد تناصاً مع آيات قرآنية، وكثيرةٌ هي الألفاظ والتراكيب القرآنية المنتشرة في قصائد هذا الديوان ومن هذه المفردات والتراكيب: (سوءة – أيها التي استخدمها في مطالع بعض الأفكار والصور الشعرية وهذا تأثر بالقرآن من حيث الخطاب – صلصالها – تبارك – نصير).. وغيرها من المفردات المستقاة من وحي القرآن وتأثيره؛ وما هذا التأثر الواضح إلا دليل على تعلق الشاعر بعقله وروحه بالقرآن لأنه المرجع الروحي والفكري الذي يستمد منه الشاعر فكره وفلسفته ويجد فيه عالماً روحانياً متسعاً، وارتباطه بالقرآن هو الذي يحمله إلى الجو الروحاني الذي يستلهم فيه الهدوء النفسي ويستند إلى قوانينه الربانية والرؤى التي تعالج قضايا الحياة.

نجد أيضاً تأثراً (تناصاً) من حيث الفكرة والمعنى بين بعض أفكار الشاعر وأفكار قرآنية بأبعاد فنية من حيث الدلالة مع ما تفنن به الشاعر من لمسات شعرية في القصيدة تنقلها من القرآنية إلى الشاعرية وهذا يدل على أن تأملاته في النص الإلهي عميقة الإدراك، ومن انخطافات فكره وذهوله في إيحاءات القرآن قوله على لسان الغيمة:-

"أنا قلتُ للصخر
كُنْ جنةً
فاستجاب
وأورق"(#)

في المقطع السابق تظهر فكرة الشاعر مجتلاةً من فكرة مقدرة الله على أن يقول لأي شيءٍ (كن فيكون)، والغيمة في دهشة الشاعر تخلق من الصخر بمائها جنة مزهرة وهذا تأمل في تسخير الله للأرض سحبه، واستحضار الشاعر لهذه الفكرة وتكراره لها في بعض قصائده يدل على افتتانه وافتتان فكره بها وتعظيمه وإيمانه العميق بقدرة الله في الخلق، وفي خلق الله للإنسان آية حيث إن الخالق خلقه من نطفة ثم جعله علقةً ثم المضغة ثم العظام ثم يكسو العظام لحماً ثم تأتي الحياة حيث قال تعالى: [ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ](#)..تظهر هذه الفكرة بما تتضمنه من تسلسل الحدث في قول الشاعر:-

"نزرع الحب في رؤوس المنايا
نقطف الغيم
ثم نكسوه ورداً
ثم نبكيه في المزاهر".(#)

تجليات قرآنية مذهلة فها نحن في المقطع السابق نزرع الحب، ثم نستجدي له الغيم لتسقيه ثم نكسوه بالورد ونشكله حديقة مزهرةً بالأماني ثم نبكي في شرفات المزاهر بزفراته، هكذا الآدمية تبكي بشجونٍ نفخها الله في روح الإنسان:-

"نفخ الله فيه موَّال حزن
فغدونا نبكي على كل شيءٍ".(#)

هذه الفكرة التي تصور نَفْخ الله للحزن في بني آدم متناصةٌ مع قوله تعالى: [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] (#) صدق الله العظيم.

ولزلزلة الأرض كما في قوله تعالى: [إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا] (#) تلاقح نصي مع قوله:-

"وإذا ما زلزل الشيطان
أرضاً أنت فيها
وارتضت أن تتهاوى".(#)

هذا كله اشتغال فكري تملأ فراغاته رؤى قرآنية لقصائد تمخض بها جو روحاني وتأملات شعرية في آيات يعيش بها الإنسان ساعات من الخشوع والتسبيح لله، وتلذذ روحي؛ وما سبب تلك اللذة إلا الشعـور بصوفيةٍ فضاؤها القصيدة.

وفي قصيدة (خزيمة) – هذه المقبرة المشهورة – وقف الشاعر متطلعاً في المصير ومتأملاً في ما آل إليه الراحلون إلى حياة الآخرة، وفي لحظة رهبة الموقف والأسى على حياة الإنسان الضائعة في شقاء الدنيا نجده يناجي أهل الممات ويرتبط بهم وأثناء حديثه عنهم وجد مناسبة الموقف لآية كريمة يجد فيها موعظةً لمن نسي الموت وألهته الدنيا فاقتبسها مما ازداد نصه تألقاً روحياً حيث قال:-

"هــاهـــم هنــــا
يغــالبون السير
يجرحون في الخطى الدماء
والسائرون في الممات
يقرؤون:
((ألهاكم التكاثر
حتى
زرتم
المقابر))(#).

كما أن خيال الشاعر يستدعي عدداً من القصص القرآنية التي هي من دروس العبرة والموعظة، ويستثمر دلالاتها في موضوع القصيدة التي يربط أحداثها وشخوصها بالقرآن وبدلالة رمزية تفضي بلغتها الاستعارية إلى رؤية الشاعر(#)، وبها يمدُّ النصوص بفضاءٍ صوفي متسع يحلّق فيه القارئ بروحه، ونجد تلك الاستدعاءات لقصص الأنبياء والأولياء في مواطن شتى من نصوص هذا الديوان، وربط بين أفكار هذه القصص وأفكاره حول واقع الحياة حيث يقول الشاعر مخاطباً الدمع:

"أنت ((عيسى))
غداة يبحث فيها عن نصيرٍ
به يداوي الخطايا
ويــقــــول:-
كي تضمد شرخاً
قد تدلى في جانبيه شهيدٌ
أبيض الكف.../
قرباناً غناه هابيل ولم يبسط الذراع دفاعاً
أنت ((أيوب))
يشعل الليل حزناً
وقروحاً
ودعوةً
واصطباراً
أنت في الجُبِّ هارباً من ذئابٍ
شمَّرت كي تنال منك مماتاً
فجنتْ من يديك سبع سنابل خُضر
وكنت حزناً رغيداً".(#)

هكذا ضرب الشاعر بخياله في الأحقاب الماضية مستدعياً بعض القصص القرآنية ليستخلص منها أفكاراً تلامس تجربته الشعرية، حيث عرج على عيسى عند بحثه عن نصير فرأى مشهد قتل هابيل لأخيه قابيل تقرباً إلى الله، فمَّر بأيوب ليلاً ليتعلم منه الصبر عند المعاناة، ولمح يوسف في الجب هارباً من ذئاب البشر؛ فإذا لجأ عيسى عليه السلام إلى نصير يداوي خطاياه، ولجأ أيوب عليه السلام إلى الصبر عند أحزانه وجروحه، ولجأ يوسف عليه السلام إلى الجب ليحميه من الذئاب فإن الشاعر يرى أن الدمع ملجأ لكل إنسان.

فلسفة صوفية خاصة:-

قيل: إن التصوف هو فلسفة المسلمين وفكرهم ومنطقهم، ولكن لكل شاعرٍ – صوفي أو غيره – فلسفةٌ خاصة بخصوصية الرؤية والفكر والعاطفة، ومن خلال قراءتي لديوان هذا الشاعر لمحت كثيراً من الرؤى الفلسفية الصوفية الفريدة بخصوصية فكرتها وإذا كان الرومانسيون يثورون في الدين على القوالب الكلاسيكية خاصة ما يتعلق بالخوض في الوجود والنشأة وغير ذلك فإن هذا الشاعر تعامل معها مستنداً على معرفته التي لا تتجاوز ما هو محظور شرعاً(#)، كما وجدت كثيراً من المفردات الغامضة بالنسبة لي في استخدامها ودلالاتها وكأنها عند الشاعر رموز لمتعلقات روحية، ومن المعلوم أن للمتصوفة معجمهم الخاص وعالمهم الرمزي الذي يحيط بهم(#)، ومن الرؤى التي طرحها الشاعر وتناولها ببعدٍ فلسفي هي قضية البدء كما يقول في عدة مقاطع:-

"هكـذا البــدء
كنـت أنتِ
ومنكِ
خُلق الشعـــر
والحياة الرغيدة"
ويقول في قصيدةٍ أخرى:-
"أنا من طينة البكاء وجودي
ونشيدي
نشيد آدم في البدء
بكـــاءً
.../
أنا من طينة البكاء وجودي
وحياتي حياة آدم في البــدء
بكــــاءً".(#)

من خلال ما سبق نلاحظ – من وجهة نظري – أن البدء في رؤية الشاعر من صفات الله وحده وتصرفاته فهو المبدئ، وأنَّ مصطلح البدء لا يقتصر على معنى التكوين والخلق الأول للوجود فحسب بل كل شيءٍ في هذا البدء بدءٌ، فإذا كان الوجود بدءاً فإن كل ما خُلق فيه بدءٌ أيضاً، فخلق الإنسان بدءٌ مصحوبٌ ببداية خلق الطبيعة والحياة الرغيدة، وبداية الشعر وبداية البكاء والفرح وبداية كل الأضداد، فالإنسان بدءٌ لبدء الحياة الرغيدة وهي حياة الفرح والترح، كما هو بدء لبدء البكاء كما في قوله: ((حياتي حياة آدم في البدء بكاءً)).

وليد أحمد الحسام

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى