السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

قصة معلِّم انحرف مركبُه

ساعة واحدة هي المسافة الزمنية التي كانت تفصلني عن حياة الحرية والسعادة.

ساعة بحرية من العرائش إلى إسبانيا. يدور العقرب دورة فأنتقل من ومن الشقاء إلى زمن الحياة الرغدة.

«إسبانيا! يا مدينة الأحلام المحققة! أنا قادم إليك فتهيئي لاستقبالي، وافرشي ذراعيك لي، وغطّيني بسائر جسدِك الباذخ! لقد هيّأتُ نفسي للرحلة عبر المحيط وأنا مليءٌ بالثقة.

أنا لا أستهينُ بالبحر. أعرف أنّ أقوى الأقوياء لا يساوي شيئاً أمام جبروته اللامحدود. أنا قشّة تافهة للغاية، ورغم ذلك سأركبُك أيّها الجبّار، وسأعبر منك إلى الجنّة».

بهذا الكلام كنتُ أناجي نفسي والمحيط.

أعترف بأنّني أغمضتُ عينيَّ قبل الإبحار. أعترف بأنني آمنتُ بأنّ البحرَ سيقدِّر ارتماءتي الجنونية فيه كما تقدّر أمٌّ حنون ارتماءةَ طفلها في حضنها وانفجارَه بالبكاء.

«كفكف دموعَك يا فلذةَ كبدي! لقد أنهكتْكَ تياراتُ الحياة. قد تلاطمَتْ بك أمواجُ الزمن وسخرتْ منك. تبكي خسارتَك يا ولدي. كفى بكاءً ولا تحزن على ما فات...» فتنبعثُ من صدرها المتعرّق روائحُ ملحية تذكِّرُ بروائح الطحالب البحرية، فيتنشّقها ويهدأ ويغوص شيئاً فشيئا في كنف السكينة.

أعترف بأنني ما فكّرتُ بما فيه الكفاية. كنتُ منشغلاً بصورة واحدة: صورة البذخ.

وهذا ما جعلني أنسى لويزة التي قفزت إلى المركب قبل أن آذنَ لها.

يا لها من لويزة فاتنة! جميلة، لطيفة، ووفية. أحبّها حدَّ الموت, ولو ماتتْ قبلي لدفنتُ نفسي معها.

للويزة والبحر قاسم مشترك: التموّج. للويزة شعر متموِّجٌ، لكنّه في لون الكستناء.

كنتُ قد أعددتُ كلّ شيء؛ فرحلة البحر وإن كانتْ قصيرة زمنياً إلا أنّها غير متوقّعة. وما يُدريك؟ لعلّ البحرَ يهيج أو يفرغ من مائه فجأة. مثلُ هذا حدث. كلّ اللوازم مُهيّأة إذن: الجراب الذي به الماء والأكل والمصباح الكهربائي والخريطة والبوصلة طبعا، فلو ضلَّ مركبي لوجب عليّ أن أنقذ نفسي. أليست المغامرة كلّها عملية إنقاذ؟

أعترف بأنني لم أكن متفائلا بالقدر الكافي. ذلك التفاؤل الذي تبقّى لي بعدما تبدّدت تفاؤلاتي على إثر خيبات متعدِّدة. بذلك النزر القليل أبحرتُ...

ماذا لو جاءتْ موجةٌ طائشة وهزّتْ مركبي الصغير حتى السماء وصفعتْ به وجه الماء؟

إنّ ما يؤلمني هو أن تضيع لويزة؛ وأمّا أنا فلا تهمّني ـ في مثل هذه الأحوال ـ نفسي. لأمُتْ عندما تحلُّ الموت! لتأكلني الأسماكُ النهمة! هذه سُنّة الحياة. سُنّة مجحفة لكنّها الحقيقة المُرّة.

لا ! لن أسمح بأن تصيع لويزتي. لا أقدر على أن تختفيَ عيناها اللوزيتان.

قفزت لويزة إلى المركب وبقفزة أخرى تخطّت العوارض لتقف على مسطحة مقدمة المركب، ووضعتْ أماميتَها اليسرى على حافته.
بدا منظرُها العام وشموخها بأنفها الأسود وتطاير شعر قصّتها بفعل الرياح؛ كمشهد محارب روماني أسقط خصمَه وداس على صدره؛ كصيّاد أفريقي يسحق بثقل رجله الحافية جثة حيوان ضار بعدما جندله بحربة. لويزة رائعة! أحبُّها. هي لي أفضل من شلة من الأصدقاء.

عندما ألقيتُ بالجراب في حنية المركب، لم تلتفتْ. مكثتْ ترنو إلى البحر. خلتني قرأتُ في عينيها أفكاراً جرّيئة. لعلّها كانت تناجي نفسها قائلة:«إذا كان سيّدي يريد العثور عن نفسه في البحر، فإلى البحر؛ وإن كان يريد أن يموتَ في البحر فإلى البحر».

أمعنتُ النظرَ في لويزة المتأمِّلة، وتصنّعتْ هي عدم مبالاتها بي:«هذا قراري ولن أتراجع عنه» وزفرتْ زفرة وخالفتْ رجليها وقفزت نحوي، ثم شرعتْ تلحس بلسانها الوردي الخشن وجهيَ الشاحب.

كنت أشهر بوجهي في لون الزعفران أو أكثر منه. ولقد كان كذلك، إذ ما إن لامستْه يدي حتى اصفرّتْ. أهو برد الصباح؟ أهو الخوف؟ لم أكن خائفا. لم يكن الخوف في روحي. ارتعشتُ قليلا. جسدي ـ هذا الموروث ـ هو الذي يخاف.

لول مرّة أرى الأمواج رؤيةً مختلفة. لأول مرّة أنظر إليها كموصوف لا كموصوف بها. بدتْ في انكسارها على الشاطئ كجنود دءوبة تحاول اختراق صفَّ دفاع عدوِّها، فيجندلها، فتعود للكرّ، وتموت، وتنبعث من مائها وتعود إلى الهجوم. أو كصلوات يصلّيها عابدٌ زاهدٌ إذ كانت تنشأ من لا شيء وتعود إلى لا شيء...

عند سجدة عظيمة سجدتها الأمواج، أعليتُ بصري إلى السماء. كانت صافية وزرقاء... كعادتها.

«سيكون البحر هادئا» قلتُ في نفسي.

كانت صفحة الماء صافية وزرقاء كذلك.

استغربتُ للتشابه القائم بين السماء والماء.

رقص المركب. نظرت إلى التلّة البيضاء التي يوجد بها مقرّ عملي وسكني. بدت التلّة مهجورة؛ ومسكني مذهولا، والمدرسة حزينة.
«هل لي الحقّ في ترك رفات طفلتي ليأكلَه الكلس؟ أمال، بسمتها الملائكية تغمرني اللحظة. رحلتْ ولمّا ترَ النور. صراخها، أنينها، صمتها الأخير يتفجّر في رأسي.

وتلك النافذة البلهاء، أرى عبرها ذكرى زوجتي الهاربة.

في الحجرة المتربة، جلست على كرسي قديم، ووضعت ساقاً على ساق، وراحت تطالع مجلة نسائية مليئة بالصور الجميلة. أحلام جميلة هي الأخرى لكنها... قاسية. قاسية.

«السعيد؛ أنا لا أتحمّل عيشة الفقر هذه» كانت تصرخ في وجهي كلّ يوم. «يوماً مّا لن تجدني في هذا القبر».

نفّدتْ وعدَها... تراها الآن في طنجة تلهو كما يحلو لها. « هل وجدتِ في طنجة الأشياء التي كنتِ تحلمين بها؟» الكلُّ هجرني. فلأهاجر أنا الآخر بهذا المركب المتهالك. عسى أن يصل بي إلى شطّ الأمان.

تفحّصتُ أركان رحلتي... أربعة: صديقة في المقدِّمة، محرّك مربوط بسلك حديدي في الخلف، مركبٌ بطولي، وجراب. بهذه سأصل. كرهتُ أن أطيل النظر إلى نافذة غرفتنا الثانية. معتمة، بيد أنّها ـ كعيني مارد ـ انبعثتْ منها صور مرعبة: فرشة رثة محشوة بالقطن الرخيص. حصير من بلاستيك مثقوب. طاولة من خشب الصنوبر الذي من مثله يصنع الفقراء صناديق الدفن. كرسي بليد. جدران مقشورة الطلاء زرقاء قاتمة مُمْرِضة؛ وعلى واحدة منها صورتان؛ واحدة لي والأخرى لزوجتي. تجلّتْ أحلام ببسمتها البورجوازية كإحدى روائع الدنيا. حيّة دوما على الصورة. دافئة والحب ينبعث منها. فيما أنا على الصورة باهتا، وبشاربي الكبير وياقة قميصي المدلاة... بليدا. وبشعري المصفوف المفروق والرتوشات التي أجراها المصور على صورتي لتجميلي... أضحوكة.

2

يمكنني الآن وأنا أدفع بالمركب إلى جوف المحيط أن أعترف بأنّ زوجتي أحلام، لها الحقّ أن تهجر السعيد... الفقير... ابن الخالة التي مات زوجُها من زمان.

دمعةٌ يتيمة أسرعتْ عبر الوجه الزعفراني.

الآن أفكّر في الموت. ليس في تلك الموت التي يتعرّض لها البحّار أو الغطّاس. تلك الموت مجرّد حادثة:«غرق ومات» وانتهى الأمر.
الموت التي فكّرت فيها مرعبة... لأنّها موتٌ دائمة.

أتخيّل أنني باقٍ في الموت لا أبرحها... أشعر بمرارة في فمي... أقلق.

نبحتْ لويزة فقلت لها:«هل نُباحُك هذا تعبيرٌ عن الموافقة، أم أنّك تُعارضين الفكرة؟» فأبرقتْ بعينيها العسليتين:«هذا هو عرض البحر فأبحِر إن كنتَ تريد ودعنا من الكلام»!

لويزة؛ من لا يُحبُّك؟ أنتِ تشعرين بحزني وقلقي، وتأسَيْن عليَّ، وفيك استعدادٌ لأن تخدميني حتى آخر رمق من حياتي؛ وإن لا تستطيعين فعل شيءٍ حيال مأساة من مآسي، تبكين البكاء الخالص من أيّ طمع.

أنتِ لستِ كباقي الحيوان. أنتِ إنسانٌ فقد القدرةَ على النطق لكنّه اكتسب قدرة هائلة على المخاطبة. تقولين:

 هيّا يا السعيد! أبحِر تجد نفسَك إلى الأبد أو تفقدها...
 دعيني أتذكّر يوم طرقتِ بابي أوّلَ مرّة. نحيلة كنتِ؛ ومريضة. وعندما فتحتُ لك الباب، نظرتِ إليَّ بعينين شاحبتين. منطفئتين.
كانت الخطيئة تحفُّك, خفضتِ بصرَك. انبطحتِ أرضا. كنتِ مثقلةً بالتهم. كانت أثداؤك منتفخة وبطنُك مُدلّى. كنتِ ترزحين تحت ثقل الندم. كنتِ حبلى. وفي الأسبوع الأوّل من مكوثك ببيتي، أجهضتِ سِتَّ قطع بنفسجية كانتْ لتكون جراءك. كانتْ مجرَّد دزينة من الأعين المغلقة. وبكيتِ في تلك الليلة دموعاً حقيقية: دموع الحيوان. وضممتُك إلى صدري وأنَنْتِ وقلتِ لي:«أهانني ذلك الكلبُ ورماني... ما أحبّني كما كنتُ أعتقد... ما استعبدني وما حرّرني... هجرني كما لو كنتُ مجذومة... إلى كلبة أخرى أوفر صدراً وأرقَّ خِصرا...»
 كفى يا السعيد!
 أنتِ أجمل كلبة رأتْ عيني؛ وإن كان لي من أحِنُّ إليه فهو أنتِ... وأرض تُرابها أحمر، وسماءٌ برِّيّة ألفتُ أن أقرأ فيها كلمات من سُحُب: أرنب... ذئب... سلحفاة...

بمجرّد أن سحبتُ خيط المُحرِّك وانفجر، انفجرتْ في ذاكرتي ثورة أحلام:«مللتُ العيش معك... أنتَ لستَ رجلا... أنت أفقر من رأتْ عينايّ... » أحلام رائعة الجمال في غضبها وثورتها. همستُ:«... وما لها هذه العيشة؟... القرويون يكرموننا بالحليب والجبن والبيض...» فشدّتْ رأسها بيديها وصرختْ:«طلِّقني! طلِّقني!..»

المسكينة... كانت دوماً تحدِّثني عن الحياة في طنجة:«الحياة في طنجة دوما رائعة ولو كانت حياة الضياع والبؤس والهوان... يكفي أن تقول لنفسك سأعيش في طنجة فتشعر بالروعة».

أرتعش من البرد.

صرختْ أمال صرختَها الأخيرة وفارقت الحياة في الهزيع الأوّل من الليلة الأولى من شهر يناير.
 أينكِ الآن يا حالمة؟ لعلّك تراقصين شبحاً مّا في إحدى الحُفر الليلية بأحد الفنادق المطلّة على البحر. لعلّك ثملة. لعلّك تستمتعين بنسياني.

تستسرعني لويزة.
 حبيبتي، سنُبحر لا محالة. أما رأيتِني جلبتُ المركبَ من صديقِنا كريم البحّار؟ وأعددتُ العُدَّة وجئتُ إلى هنا؟ هل تتوهّمين أنّني سأتراجع؟ نحن مُبحران لا محالة... وإنّما أردتُ أن أصقل ذكرياتي بِرَمْلِ هذا الصباح البحري حتى لا تعذّبَني؛ ذلك لأنّ الذكريات المُعتِمة شديدة التعذيب.
 ...
 بسببها سقطتُ في الجنون وكِدتُ أشنق نفسي؛ ولولاك ما صعدتُ من حفرة الجنون... ما نزلتُ من شجرة الشنق.
أحلام لم تكن تحبّني:«تزوّجتُ بك لحظة ضعف... لحظة عطف وشفقة» كانتْ تُردِّد.
الشاطئ صار بعيدا.

3

بدت البيوت البيضاء المتراكبة ككومة من قطع السكّر لكن ... مُرّة. في كلّ بيتٍ مرارة. هل يستطيع سرابُ الصباح تذويبَها؟
وتراقصتْ خيالاتُ المراكب الراسية على صفحة ماءٍ بعيدة. كيف يحدث أن ترتسِمَ الصوَرُ بعيدةً عن أشيائها؟

خلتُني في اهتزازات الأمواج الناعمة وكأنّني أعوم في شعر أحلام الشديد السواد. الأمواج الناعمة زرقاء خضراء، ورغم ذلك تراءت لي سوداء برّاقة... تماما كمثل شعرها.

بمجرّد أن تطأ قدماي أرض إسبانيا سألقي بكلّ حوائجي في البحر، وإذا أمسك الحرسُ بي، سأدَّعي أنّي إسبانياً فقد الذاكرة. سأتكلّمُ الكلمات القليلات التي تعلّمت:«سويْ... أولْبيدار تودو...» أنتِ لا عليك يا لويزة. لن يستجوبوك. وعلى الرغم من ذلك انتبهي. إن أرادوا استقدامَكِ سيقولون:«بيني آكّي!» وعكس ذلك سيقولون:«بي... بايْ!» من أين للإسبان أن يعرفوا أنّي أمثل عليهم دور الذي فقد ذاكرتَه؟ سيحارون. سيبحثون لي عن هوية. سيدوخون في البحث؛ وفي النهاية سيقفلون ملفّي. لِيُسمّوني خوسي إن أرادوا... ولأعش الحياة التي يهاجر من أجلها أمثالي! ... حياة الكرامة.

عندما أتحدّث عن حياة الكرامة فإنّني أقصد حياة النسيان. فلو تركتُ لذاكرتي العنان لركضتْ بي إلى صور الذلّ اللامنقطعة: صور قذرة... طفل يأكل من المزابل... تلميذ يغسل مرحاض خاله... طالب متخاذل عن نضالات الطلبة... محِبّ رديء. مع النساء كنتُ كالمتسوّل أعتذر عن فقري في غباوة... ثم إيماني بأحلام:« أنتِ وجودي ـ كنتُ قلتُ لها ـ أنتِ معبودتي... افعلي بي ما تشائين» لهذا أعشق البحر. البحر يمنحني الجرأة على البوح بضعفي. أنا الآن عارٍ أمامك يا صديقتي لويزة؛ فهل ما زلتِ تُكِنّين لي الاحترام؟ هل ما زلتِ تحترمين شخصاً وُلِدَ مُتسوِّلا وقضّى حياتَه يتسوَّلُ الخبز والحب؟
في إسبانيا لن أتسوّل. أعِدُك... ربّما تسوّلت للمرّة الأخيرة... لكنّها المرّة الأخيرة.

تسمّرَتْ لويزة في وقفتها تستطلع الأفق بنظرة حادّة صامتة. ثم انفتلتْ على نفسِها فجأة؛ وكأنّ ذبابة لسعتها ونبحتْ. وفجأةً توقّف المحرّك، وتوقّف المركبُ، وتوقّف اهتزاز الماء. شُلّتْ كلُّ حركة. وقع المركب في شرك المياه اللامتناهية... توقّفت الرياح كذلك ولم تعد تصفع مقدّمةَ طلعتي. كفّت الرياح عن تطيير شعري وقميصي. كلّ شيء توقّف... سحبتُ خيط المحرّك مرّة... مرّتين... مرّات... ولا فائدة. وضعتُ يدي عليه... بارد... ميِّت. عاودتُ محاولات الإنقاذ مرّات ومرّات... ما زال باردا. مات المحرّك.
أعتقد أن الشعور الذي شعرت به هو بالذّات شعور طبيب فشل في ردّ الحياة إلى شخص توقّف قلبُه عن النبض. في حالتي؛ أنا ذلك الشخص المحتضر وأنا ذلك الطبيب.

نظرتُ حولي. لا شيء غير المحيط. ظلّتْ لويزة متسمِّرةً. يظهر أنّها غاضبة. المحيط السماوي يهوي قليلا. سحابة متوقّفة تراقب. الشطُّ غائب. أطلّت أشعّة شمس رقيقة وصارتْ تداعبُ وجهي. أشبالٌ تلهو. شيئاً فشيئا صارت تستأسِد؛ وبمخالبها النارية شرعت تخدش وجهي... تنهشه. كنتُ ما زلتُ حائرا في مكاني. حاولتُ أن أحتميَ من أشعّة الشمس بظهري لكنّ البراثن النارية انغرزت بعيدا في جلدي. وتقافزتْ على صفحة الماء ـ كجراء ضباع لئيمة ـ انعكاساتُ الألسُن النارية... الوقحة.

4

تجري الرياح بما لا يشتهي مركبُك. خانك محرّكك يا السعيد؛ وإسبانيا تراجعتْ خطوة كامرأة تتّقي اندفاعة محبّ أرعن. ما العمل إذن؟

هذا المركب الصغير كان يعتمد على قوّة الدفع من الخلف. لا مجاديف فيه. أأجدف بيديّ؟

لا تبرحي مكانك يا إسبانيا! أنا آتٍ. قريباً سأجد الحلّ... أتفحّص المركب. كلّه من خشب. أرى لوحة خشبية تدعم عارضة منقلعة. أقتلعها بحذر:«هذه ستكون مجدافي» شعرت بقليل من نشوة الانتصار؛ أن أقتلع ضلعاً من هذا المركب المشلول وأجعل منه مجدافاً وأحركّه. لويزة صامتة. أخاطبها:
 تكلّمي! كفاكِ لوماً لي وعتاباً صامتا. مات المحرِّك لكنّ الحياة ما زالتْ في قلوبنا. لنُجدِّف! ... فإسبانيا على بعد ذراع منّا ليس أكثر.

«البحر يتصرّفُ تماما كامرأة» فكرتُ بذلك عندما انقلب فجأة من حالة السكون إلى حالة الاضطراب، من الوداعة إلى الشراسة. غاصتْ موجة وتعالتْ موجة. هبّتْ ريحٌ وتفجّر تيّارٌ مائي، وصار يجرُّ مركبي إلى الداخل يعبث به.

كنتُ أقصد الشمال وإذا بالتيّار يجرُّ مركبي جهة الغرب. ضربتُ بمجدافي وجه الماء المضطرب وضربت. خبطات عشوائية... دون جدوى. كنتُ كبعوضة سقطت في كأسِ مارد فتجرّعها دون أ، يشعر بها ذرّة شعور. كان تيّاراً وئيداً عنيدا مُصرّاً على استدراجي إلى وجه المحيط الشاسع.

وعادت الأشبال النارية إلى وجهي تنهشه بعدما هدأت الأمواج قليلا. كنتُ أضربُ بذلك المجداف بقوّة محاولا الرجوع إلى الخطّ المستقيم الذي رسمتُه: جنوب ـ شمال. لكنّ قوّةً جبّارة جعلت مركبي ينحرف؛ وفي لحظة ثورة صرختُ في وجهه:
 أتريدُ أن تريني وجهَك المرعب؟... أرنيه! فأنا لا أخشاك... ولْتَرَ أنتَ الآخرَ وجهي... وجه معلّم اكتسبَ قوّة عظيمة في ذات الانحراف.

وظلّتْ لويزة هادئة. استغربتُ لهدوئها. أما شعرتْ بأنّنا ننجرف؟ تسمّرتْ في مقدمة المركب وسافرتْ ببصرها إلى الأفق. ناديتُها فلم ترُدّ.

وعاد الموج إلى الاهتزاز... بقوّة هذه المرّة؛ حتى خشيتُ على مركبي من أن يغمره الماء. وبالفعل، هوتْ علينا موجة وغمرته؛ ولم تتململ لويزة. لعلّها كانت تشعر بالسعادة؛ إذ رأيتُها تتنفس بهدوء، ومرّة رأيتُها تلحسُ ماء البحر.

لم أستطع منع نفسي ـ وأنا في تلاطم الأمواج ـ من تذكّر لوحة فنّية: مركبٌ شراعي في خضم أمواج بحر عاتية. رسمها الفنّانُ على نحو بدتْ فيه الأمواجُ كشعر حسناء خفية، والمركبُ في وسطها كثغر يبتسمُ من اللذّة.

لمّا انتبهتُ إلى انجراف جرابي، كانت الشمس قد قاربتْ قلبَ سماءٍ صافية. هذا التناقضُ بين حالة السماء وحالة البحر دفعني إلى الاعتقاد بأنّ الأزرقين ليسا سوى أشياء رمزية. رموز لا معقولة بالكاد نجد لها معنى؛ ولكنّنا نحتاجُ لها ونمشي فيها الدهرَ كلّه قائلين لأنفسنا:«لعلّ سِرَّ كلِّ المعاني في نهايتها».

الغريب هو أنّ قوّةً مجهولة تدفّقتْ في عروقي وفي قلبي، فأمسكتُ بتلك القوّة مجدافي المسكين وشرعتُ أجدِّف وأجدِّف؛ وقلتُ للويزة:
 إمّا أن أبلغ إسبانيا... أو الشطّ... أو الموت.

أحدثتْ قفزتهُا في حنية المركب طرطشة، واندسّتْ بين ركبتيَّ ونبحتْ في وجهي. خُيِّل لي إنّها قالتْ:«واصل التجديف! قريبا سنبلغ هدفَنا، وإن لم يكْفِ النهار فعلينا بالليل... وإن لم يُسعِفنا الليل، فلنركبْ نهاراً آخر... إذ لا بُدَّ من بلوغ الهدف».

في السماء ارتسم شريطٌ من السحاب الأبيض. كانتْ حدوده ناعمة؛ وكأنّما رسمها فنّان مقتدر. كان يشي بساعد امرأة بضّة، وانحرافي موازٍ له تماما. فخلتُني منزلقاً على شيءٍ مماثل لما أراه في السماء، والليل على الأبواب، وخدُّ تلك المرأة المفترضة على مشارف الغرق.

5

عندما حلّ الليل كنتُ فقدتُ كلّض مائي بسبب التعرّق الشديد؛ وقرّرتُ التوقُّفَ عن التجديف؛ ليس بسبب العطش أو التعب، ولكن لأجل التأمُّل. كان أوّل ليلٍ يحلُّ عليَّ في غفلة منّي. منذ شهور كنتُ أتبيّن حلول الليل على البحر. كنتُ أقف على التلّة البيضاء وأرقبُ... الليل... الليل طيٌّ دائمٌ للصفحات الكئيبة. كنتُ أشعر ببصيص رقيق من السعادة يدغدغ قلبي وأنا أتابع عملية الطَّيّ تلك.

عندما يحلُّ الليلُ تنقضي جميع أشكال الغياب ويحلُّ الأمل.

كان ليلا خارج الزمن إذ أنّه حلَّ بدون مقدّمات. لا ضياء تخفت، ولا نجوم تتلألأ بالتناوب، ولا غيوم تنطفئ. أقبل ذلك الليل كمتفرّجٍ متسلّل. حضر دفعة واحدة وصار ينظر لي من خلال الضوء المتبقّي على صفحة الماء.

نجوم منقدحة هنا وهناك ضحكت منّي لكوني اعتقدتُ أنّ ركوب البحر لعبة، ولكوني أضعتُ حوائجي، ولأنّني آمنتُ بجدوى الهجرة إلى بلد غريب لقاءَ نزرٍ من الكرامة.

كان ليلا ماكراً؛ وكنتُ في رقرقة ضوئه على رؤوس المويجات المخادعة قشّةً، وكانت لويزة بين رجليَّ كطفلة وديعة في كنف والدها الساهر مع النجوم.

أمام ذلك الليل، لا ينبغي أن نفكّر في البرد أو العطش أو الخوف.

يتوجّب التأمّل... ليكنْ ما تتأمّل فيه فراغاً أو امتلاءً، هذا لا يهمّ... المهم... اتخذ وضعية المتأمّل. استلق على ظهرك. انسَ ألمَ الضلوع. لا تفكّر. لا تحس. اترك صور الأشياء تعبر بصرك. حرر دماغك من الإبصار لأجل الرؤية. دع الصور تعبر عينيك، ثم عصبيك البصريين، ثم باحة الإبصار في مؤخرة الدماغ، ودعها تخرج من قفاك لتعود إلى مصادرها. اجعل الصور حرّة. خذ منها الرؤية واتركها تعود إلى أشيائها... ذلك هو التأمّل الذي يتوجّبُ على الذي ضاع في المحيط.

في نهاية تأمّلي، كان الليل قد استوثق بالمكان. وكان قلبي قد خلا من كلّ نيّة في الرحيل أو العودة إلى الشط... من كلّ خوف... شابّاً كنتُ أضنُّ أنّ الرجل الذي يتيه في البحر لا بدَّ أن يُجنَّ م فرط الخوف... أنا... لم أكن وحدي، معي لويزة ولم أكن خائفا.
قلتُ لها:
 هيّا؛ استلقي مثلي في حنية المركب، ولنراقب معاً حركةَ النجوم! وليجرفنا التيارُ حيث يريد.

كنتُ صرفتُ الماء الذي تبقّى في الحنية بيدي وطرحتُ المجداف فيها ودعمتُ به ظهري.
 لنسترح قليلا...

بدتِ السماءُ صافية... لا ريح؛ بيد أنّي شعرتُ بانزلاق صامتٍ لمركبي.
 عجيبٌ أن تسير بدون أن تمشي.

وكانت النجوم قد غيّرتْ مواقعَها.

لم أقدر حتى على النظر إلى الساعة. علمتُ من حالتي الجسدية أنّها تناهز العاشرة ليلا... في مثل هذا الوقت من الليل؛ وبعد عمل مضنٍ، أشعر بما أشعر به الآن: التعب والتنبُّه.

انتابني دُوار. ليس دُوار البحر لأنّني تعوَّدتُ مع صديقي كريم البحار على حياة المراكب بالقرب من الشط؛ بل بسبب دوران السماء؛ أقصد دوران صفحة السواد التي تنطبعُ عليها النجوم.

دُوارٌ خفيفٌ ولذيذ جعلني أنام.

نِمتُ ملءَ جغنيّ، وتحرّرتْ لويزة من قبضتي، وأُضيئت السماء بضياءٍ خفية وحلمت:

كنتُ أشوي طائراً زاهيَ الألوان. خلخلت النار الزرقاء ريش ذلك الطائر المسكين. وفي الحين تجلّى عاريا. نضج بسرعة. وعندما مددتُ يدي لألتهمَه... نبح. قلتُ في الحلم:«... وهل الطيور تنبح؟» كان الصبح قد خرج من رحم الظلام؛ فرأيتُ لويزة متأهِّبةً لمغامرة جديدة؛ وهي في مكانها المعتاد، وأنا ما زلتُ في وضعية الاستلقاء.

وضعتُ يدي على بطني لأكتم لغطَها. الجوع. لم أعد أعرف أين أنا.

أحسستُ بشفتيَّ يابستين بيضاوين. العطش. خاطر مجهول همس في أذني:«ضِعتَ يا السعيد»؛ فما أنتَ فاعلٌ بدون ماء ولا طعام؟ خفق شيءٌ في قلبي، وارتعد جسدي وقلتُ لذلك الخاطر:«رجال عظماء واجهوا الموت بشجاعة ولم يتحسّروا على أنفسهم؛ فإذا تحسّرتُ على نفسي الفقيرة، سأكون حقّا ذلك المسكين الذليل... إذا خفتُ من الموت، سأكون حقيراً أمام هذه الكلبة الشجاعة... لا! ما يخاف ليس أنا... إنّه هذا الجسد البليد.

6

مررتُ في اليوم الأول بسلام. فقدت محرّكي وجرابي الذي به حزائجي وزادي وحصّلت على مجداف. العطش والجوع يعذبانني، ولكنني سأقاوم، وسأنقش على لوح المركب أيّامي حتى لا أنسى؛ شرطات عمودية للنهارات وشرطات أفقية لليالي.

وقفتْ لويزة وراحت ترقبُ خيالات تتراقص في جوف الأزرق. هي الأخرى جوعانة وعطشى. استدارت لتخفيَ مؤخرتَها. أفرغتْ أمعاءها. شيئا يابساً طرحتْ.

أنا لا أشعر بشيءٍ يثقل على أمعائي. من الممكن أن يتمسّكَ لاشعوري بما في جوفي على تفاهتِه. كنتُ دائما أقول:«اللاشعور كائن محيِّر؛ يتمسّكُ دوما بالأشياء على تفاهتها».

لا زال المركبُ ينسابُ على خطٍّ مقعَّر. تأمّلتُ هذا الخطّ. رفيعاً كان. تذكرتُ الصور التي قبله. أعدتُ رسمه في خيالي، فتجلّى كذقن امرأة... مررتُ يدي على ذقني. طالتْ لحيتي. نما الزغبُ في غفلة منّي. أمور كثيرةٌ تحدث في غفلة منّا إذا ما نحنُ تِهنا في البحر.

أيُّ شيءٍ إذن يجعل الأمورَ تحدثُ في وعْيِ صاحبها؟

نظرتُ إلى ساعتي. العقارب متوقِّفة. الساعة تشير إلى الحادية عشر وخمسة وأربعين دقيقة. أكره أن يتوقّف الزمن. أخشى منذ الساعة أن تحدث كلُّ في غفلة منّي. نزعتُ الساعةَ من معصمي. قرأتُ اسمَها كمن يقرأ صلاة الجنازة «دوغْما»... كنتُ أفتخر بهذا الاسم. كانتْ ساعةً رائعة... بها أرّختُ لمليون خيبة. الآن هي ساعةٌ ميتة. هي الأخرى خذلتْني. ألقيتُ على شاشتِها المضبّبة آخر نظرة وقذفتُها إلى جوف البحر. أحسستُ بنشوة لذيذة. كنتُ كمن تحرّر من وهمٍ استعبدَه ألف سنة وسنة.

تذكّرتُ شخصية روائية تحطّمت سفينتُها وقضت عشرة أيّام في بحر الكاريبي، وأرّختْ لمغامرتها بالساعة والدقيقة. أستغرب أن تتحطّم سفينة وتستمرَّ عقارب الساعة في الدوران.

لو لم تتوقّف ساعتي لأوقفتها بيديّ... لقتلتها وألقيتُ بجثتِها في البحر كما فعلتُ قبل قليل. من المستحيل أن تقبلَ بالضياع وأنت في الزمن. وحدهم محدودو التفكير، الدوغمائيون يتمسكون بالساعة وهم في حالة الضياع.

أنا رميتُ ساعتي لتتلقفها القروش. لتحدّد بها القروشُ مواعيدَ هجوماتها على البحارة الضالّين. لتحدّد بها مواعيد هجوماتها عليَّ إنْ أرادتْ. أنا لا آبهُ لها ولا أخشى أسنانها الموسوية.

عندما شارفت الشمسُ كبد السماء تمنّيتُ بقوّة أن يكون في حوزتي ورقة وقلم. كنتُ لأكتبَ الصور الساحرة التي يصوّرها لي العطش.

تمدّدتْ لويزة على سطّيحة مقدمة المركب ومدّتْ قوائمَها الأربعة إلى أعلى. وجاءتني صورةٌ أخرى مضحكة: عقل إلكتروني تتطاير منه شرارات صفراء وحمراء وتصدر عنه أصواتٌ جنونية... أورديناتور أحمق. لعلّه لم يكن أحمق ولكنّني رأيته كذلك.

في ذاك النهار، علمتُ أنّي بدأتُ أخلط الأمور. وأغرب ما خلطت هو أنّي فكّرتُ بالليل وأنا في عزّ النهار. وعادت الشمس تطلق عليَّ أشبالَها الوقحة؛ عديمة الاحترام والتقدير... تتقافز على وجه المعلّم. تغرز أظافرها فيه وتسلبه دم وجهه... صحت في وجه ذاك النهار المظلم:«انجلِ عنّي»! .. ولم يفعلْ. بل كان يصطبغ بلون دمي أحمر فأحمر. كنتُ أحسُّ بالجمر يسقط من السماء في عينيّ. الألم لا يُطاق. فخارَ الجسد وانطفأ النور.

قبل أن ألج الغيبوبة، تناهتْ إلى وعيي المتبقّي صورة امرأة. لم تكنْ زوجتي الهاربة. كانت امرأة مبهمة. كلمة. غير مستقرّة. عائمة. فارتميت فيها وتكاثفت حولي... تضمُّني.

حدّثني صديقٌ يوماً مّا:«المحكوم عليهم بالموت رمياً بالرصاص، شنقاً، أو ضرباً بالسيف... عندما تدوّي الرصاصة، تنزلق الربقة، أو يطير الرأس؛ يستمنون... عندما تحضرُ الموتُ، تحضرُ غريزةُ البقاء».

«لعلّني ميتٌ بعد قليل» قلتُ لنفسي. وفي انتفاضة لا شعورية صرختُ:«لا! ...لا! ... لا أريد أن أموتَ في هذا الضياع الغبي... فلو مُِتُّ هكذا لما غفرتُ لنفسي».

عينا لويزة اتّقدتا وذكرتاني بعينيْ زوجتي عندما تغضب.
 هل ما زال لديك أمل؟...

فهزّتْ أنفها واستدارتْ لترقبَ الأفق. واستدرتُ إلى نفسي:«ما أشدَّ حمقي لمّا أحضرتُها معي!»

و...و... وغبتُ عن الوعي.. لم تدُمْ غيبوبتي سوى بضع دقائق. و خُيِّل لي أنني غبت عن الوجود دهورا كاملة. انتصبتِ الشمس عمودية و اخترقتْ سياطُها سائر بدني، و تراقصت على وُجيْهات المويجات اللامتناهية العدد، رؤوسُ أسماك صغيرة فضولية.كانت تطلّ ُ في الشمس وتغيبُ في الماء. ترقب متى ينضج طعامُها... أنا ولويزة. جفّ َ حلقي حتى صار كقطعة خشب يابسة. شيء مّا بداخلي يُشعرني بالخطر. رأيتني في صورة خاطفة أشرب من ماء شلاّل كنتُ رأيتُ مثله بنواحي مدينة بني ملاّل... أُزود. الجنّةُ هي الماء. كنت أعي أنني على صفحة ماء بأبعاد الدنيا، لكنه ماءٌ لا يشفي غليل العطش. هذا تناقضٌ آخر: أن تكون في الماء ولا تستطيع الشرب منه. فكّرتُ «ربّما بلغتُ اليابسة قريبا... ربمّا تُمطر... لن أشرب من الماء المالح قبل أن أستنفد كل الاحتمالات...» لويزة هي الأخرى عطشى. عرفتُ ذلك لأنها توقّفتْ عن اللهاث. عندما تلهث الكلبة، تفقد المزيد من الماء. هي لا تلهث الآن، تحاول تبذير أقلّ ما يمكن من الماء. تساءلتُ:«أيّ ُ صور ٍ يصوِّر لها العطش؟». نظرتُ حولي: ماء من حوله ماء. ورأيتُني في كلِّ مكانٍ منحرفا... يدور مركبي في دائرة شاسعة.

وجاءتني صورةُ أمّي. وجهها. صورةٌ عملاقة. كانت أمّي حزينة. عيناها مغمضتان. تبكي. أو أنها تعِبَتْ من البكاء. لعلّها تبكي موتَ والدي أو هي تبكيني أو تبكي وحدتَها. أو موتَها... شعرتُ بعينيّ َ تغرورقان بدمع قليل.

زادعطشي.

اتكأتُ على جنب المركب و غطست يدي في المحيط، فتسرّبتْ برودتُه إلى ساعدي ولم تتجاوزْه؛ إذ كان باقي جسدي ملتهبا. ناولت ُ فمي جرعة ماء مالح بيد أنه بدّد أوهامي العطشية. واستعدت صفاءَ فكري قليلا فرأيتُ الشمسَ وقد تدلّت في السماء الصهباء إلى حدودِ خطِّ الأفق.كانت على ما بدا لي، باسمة وسعيدة بتبحُّرِها... أو بانتصارها عليّ َ... أو أنها كانت مبتهجة بمعانقتها الماء في الأفق وبإطفائها عطشَها فيه.

عندما رأتني لويزة أشربُ من البحر، نبحتْ. وبدَل َ أن توبِّخني، أو تحذرني، نطّتْ إليّ َ وشرعتْ تلحسُ يدي، ناولتها جرعة من ماء المحيط، فحرّكتْ ذيلها تعبيرا عن الفرح:
 أ لا تحسّينه مالحا؟

لم ترُدْ ولكنها تخطّتْ العوارض بهدوء، وصعدت إلى السطّيحة في مقدّمة المركب، وأسندتْ ذقنها على أماميتيْها وراحتْ تنظر... دوما إلى الأفق.

قريبا تحلُّ ليلتي الثانية في البحر، فهل هناك جدوى من التجديف؟ لويزة مبعثرة في مكانها. طالَها العياء والجوع والعطش. هفا قلبي لها. غمرني شعورٌ بالذنب. كنتُ مذنباً لأنني جرجرتُ هذا الكائن العظيم إلى هذه المغامرة الملتبسة.

تبدو في انكسارات الأشعة الأرجوانية الضاربة في فروِها، كنارٍ آيلةٍ للخمود.

فانتابني شيءٌ من الفرح لأنني مازلتُ قادرا على أن أتأثر بالمواقف العاطفية. بـُعَيْدَ هربِ زوجتي، مرضتُ و تحجّر قلبي. لم أكن أشعر لا بالحزن ولا بالفرح؛ كنتُ أكثر الناس قلقا. قال لي صديقي كريم ذات يوم:«أن لا ترتعش من الحزن أو الفرح، فهذه جهنّم بعينِها» وابتسمتُ له ابتسامة بيضاء وقلتُ:««بل هي أكثر من ذلك... أما رأيتني أضحك؟... إنه حزنٌ من نوعٍ آخر حزنٌ أحمق! » وقلت ُ:«هذا الجهنّمُ أهونُ من جهنّم الناس! الناسُ مصدرُ كلِّ شرّ... ما اقتربتُ من واحدٍ منهم... ما خاطبتُ أحدا أو خاطبني إلا وطالني شرُّه ودمّرني... قد أكونُ أنا الآخر مصدرَ شرّ، لكنني لا أتحمّل أن أعذبَ الآخرين... أنا لستُ حاكما ولا إلها...»
أمّا الآن، وأنا على أبواب هذا الليل الشاسع، والخوفُ يتربّصُ بي و الجوع في معدَتي يعبث بها، و صديقتي واهنة ٌ ٌ باكية، فإنني أشعر برعشة في قلبي؛ رعشة َ سعادة لأنني أُحبّ.

ألقيْتُ اللوحةَ/المجدافَ في حنية المركب وتحسستُ رِجليّ َ اللتين بدأتا تتكمّشان بسبب الاجتفاف والرطوبة. ظهرت عليهما نفْطاتٌ ممتلئاتٌ بالماء. قلتُ لهما:«أعرف أنكما لم تمكُثا في ماء البحر ما مكثُماه خلال هذه المغامرة وأنكما ألفتما الماء العذبَ والصابون... كُتب عليكما الصبرُ فقد يطول المكوث».

صاحت معدتي:
 الفراغُ يقتلني!
 أما تعِبتِ من الامتلاء؟... قد ابتلعْتِ في حياتِك عشرات الأطنان من الخبز، فلا تصيحي بعد الآن!
 الفراغ يؤلمني! صاحت معدتي بإصرار.
 ما عساي أفعل من أجلك؟ إنني أشفقُ عليك، أما ترين أني منحرفٌ في هذا التيار المجهول وأني لا أملك حتى صنّارة ً أصطادُ لك بها شيئا من السمك؟ وهل كنتِ تقبلين بسمكة نيِّئة؟ صمتتِ المعِدة ُ. لكني شعرتُ بأنها ستطالبُ بالأكل مرّة أخرى.

المسكينة! ليس لها من هـمّ ٍ سوى البلع.

7

في الصمت الذي غمر المركب فجأة، أُتيحَ لي أن أرى مرّة في حياتي، باباً في الليل... باباً مضيئة. ربّما تشكّلتْ من تضاربات أشعّةٍ متأخرة أو تائهة هي الأخرى.؛ لكن خلفَها ظلامٌ عميق.

عندما ولجتُ تلك الباب، غادرني الإحساسُ بالألم. أحسستُ بالطلّ ِ الليلي ينفذ عبر جلدي، وبخلاياي تتشبّعُ بهذا الماء الجزيئي، وتبددتْ لويزة في الظلام.

قلتُ لنفسي:«سأسهرُ هذه الليلة إلى آخرها، فلا معنى أن أنام و مركبي ينحرف في دوّامة أجهل منطلقها ومنتهاها. نعم! سأبيتُ صاحياً متيقظاً في هذا الليل. سأعدّ ُ شهيق البحر وزفيرَه. سأتبيَّنُ الكلام الخفي الذي ينفخه بألسنة الأمواج..»
 ... النوم مضيعةٌ للوقت..
 ... النوم... موت...
 ... لو...

النوم جبّار أخر. لا أعرف أحدا استطاع أن يقاوم ملك النوم أكثر من بضعة أيام.

اليقظةُ المتواصلة شيءٌ قاتل.

نمتُ تلك الليلة و لا أدري في أية ساعة بالضبط من الليل ولجتُ ملكوتَ الصور العجيبة و الكلمات البديعة.

كان حلما قصيرا ومتردِّدا. صفة التردد هذه، هي بالذات ما جعله يكتسب صفة الكابوس الرهيب. تماما ككابوسية وصلات الإشهار القصيرة المتكرِّرة: رأيتـُني أفتح باباً في حائطٍ أزرق. فتحتُه وسرتُ في طريق مُعبدة مصبوغة بلون أزرق. وعلى حافتيها مصابيح ذات إنارة باهتة ينبعث منها ضوءٌ أزرق. فتحتـُه. نفس الطريق والمصابيح والضوء. وفي النهاية، نفس الباب. كنتُ أسير في ذلك الحلم رغماً عنّي، والغضبُ يدور في أحشائي، دون أن يجد طريقه إلى لساني لكيْ أصيح...أو ليديّ َ، لكي أحطم البابَ والطريق والمصابيح واللونَ الأزرق...

التكرارُ والرّتابةُ جحيمٌ آخر.

كنتُ في الحلم أشعر بالبرد. حاول شيءٌ مّا في، أن يستجلب موقد نار. في النهاية أفلحتُ في استجلاب صورةِ موقد نارٍ كنتُ أقمتُه في طفولتي... أنا وأصدقائي. كنّا ثلاثة خيالات ونارا صغيرة. لم نكن نتكلّم. كنّا نصغي إلى طقطقات النار. وكانت السعادة تحفّـُنا.
استفقتُ مرّة فوجدتُ لويزة قد اندسّتْ في ودفّأتني بفروها.

نسيم الليل البحري ليس باردا جدّا. جدبتُ لويزة إليّ َ، وغطستُ أنفي في فروها الدافئ وتنشقت رائحتها... كانت رائحة نباتية لا مثيل لها.

ظلّت رائحة لويزة الليلية عالقة في أنفي حتى انبلاج صباح يومي الثالث في المحيط.

تذكّرتُ رائحة إبطِ زوجتي. لإبطِ زوجتي رائحةُ الثوم المخفّف. رائحة زكية. بلسمية. كنتُ أداعبُها قائلا:«رائحة إبطِك كرائحة أبدان اليهوديات» و كانت تردّ ُ ضاحكة:«كيف تعرف؟ هل سبق لك أن ضاجعتَ إحداهن ؟». لم أضاجع يهودية في حياتي ولكن زميلة لي في الدراسة اسمها شمش بيضاء وجميلة كثومة. أشم فيها تلك الرائحة. كانت تعجبني. ولم أجرؤ أبدا أن أسألها ما إذا كان لجميع اليهوديات مثل تلك الرائحة وما إذا كان مرجعُها إلى نظامهن الغذائي (؟).

لم تكن أحلام تطيق الثومَ في الطعام. أقول لها:«رائحتك هذه تأتيك من الزغب الأصهب في الإبط». فتقهقه:«هل أقصّه؟» فأردّ ُ في حياء:«إذا قصصتِه فإنه سينبت لك زغب آخر، أكثر سواداً و سيعطيك رائحة خائبة» نعم! قضتْ أحلام بعض اللحظات الجميلة. كانت سعيدة معي في بعض الأحيان. كانت تريد قدرا كبيرا من السعادة. تقول:«بعض الناس يملكون الأطنان من السعادة ونحن لا نمتلك حتى غراماً واحداً نها». فأهمس لنفسي:«... بعض الناس لا يملكون حتى هذا الغرام منها».

رائحة إبط زوجتي انبعثتْ من حنيات الموجات المتراقصة حولي والمتلاعبة بمركبي؛ وصورة شمش وهي ممدَّدة على رمال شاطئ الرباط غمرتْ بصري وتلاشت الصورة ومكثتْ رائحة الثوم كما تمكث الرغبة المكبوتة في طيّات الجلد.

كنتُ في صباح الأمس الأول أسير نحو الشمال والشمس المشرقة على يميني؛ أمّا في هذا الصباح، فالشمس على يساري. مركبي الآن يسير نحو الجنوب... شيءٌ مّا قرّر أن يسير مركبي نحو الجنوب.

إلى ذاكرتي جاءتْ هذه الكلمات التي صفعني بها الموظف بالقنصلية الإسبانية بطنجة
 نو بْودي تينير إلْ بيزا!

قوى غريبة... خفية تمنعني منالرحلة إلى الشمال. عطشان. جائعاً. مجرّداً. مكبوتاً. منكوباً. موشكا على الانفجار...
 أيتها القوى الخفية التي تسبب هذا الضياع... إنّي أتخرّأُ عليك.

تلك كانت صيحتى في وجه المحيط.

عمّني دفء لحظيّ. شعرت أنني رضيع في حضن أمه. تركت نفسي أهدهدني برقرقة مويجات لطيفة.

تراءت لي المويجات في صباح اليوم الثالث من تيهي في البحر كقطيطات بيضاوات سعيدات بالصبح راضيات راقصات. ورقص مركبي وطرب، ونبحتْ لويزة؛ ثم حكّتْ جلدها حكّاً واهنا وانبطحتْ لتتابع بنظرات حالمة تقافز القطيطات.

قلت:«إذا نجونا من هذا الانحراف، سأكتب قصَّتَنا».

لم أكتب في حياتي قصة، لكنّني شعرت بأنّي قادر على كتابة واحدة. هناك من كتب عن نجاحه في التمثيل أو الرياضة، ومن كتب عن مأساته في السجن، ومن كتب أخوافَه أو رغباته الدفينة،و...و... أمّا أنا فسأكتب قصتنا، ليس لأنّي أعتبر أنّ ما نحياه الآن أمراً يستحق أن يطّلع عليه الناس، ولكن لأنّ ما نحياه قد يكون ذا قيمة.

لن أكتب للناس جميعا. سأكتب فقط لأمثالي ممن يركبون البحر وفي نيّتهم أنّهم سيعثرون على ضالّتهم وما يعثرون سوى على الضياع... أقصد ذلك الضياع الشاسع الذي نطمئنُّ له.

كنتُ أتكلّم بصوت عالٍ حتى أن لويزة ثبّتتْ نظرتها عليّ َ واستمرّتْ ترقبني كمن يرقب مشاهدٌ مسرحيةً وعلى فمِها ابتسامة ماكرة.
تملّكني غضب وصرختُ في وجهها:
 ليَ الحق في أن أكتبَ، لأنني أشعر بالضياع، فلِمَ تمكرين؟

ارتعبتْ لويزة. وفي محاولة منّي لتخطّي العوارض لأجل ضمِّها إليّ َ وطلب المسامحة منها، وقعتُ في حنية المركب وارتطم فمي بدعامته وسال دم...
 ليَ الحق في أن أكتب، لأنني أشعر بالضياع! قلت بصوت واهن مشرفٍ على البكاء.

8

قد يكون العطش الماكر هو الذي أملى علي مثل هذه الأفكار. لو قدِّر لي أن أشربَ بيرة لفكّرتُ بشكل مختلف تماماً. لم أشرب بيرة في حياتي، وإنما جاءتني صورة واحدة منها. صهباء كشعر زوجتي في إخراجه الثاني أي بعدما صبغته بالأكسيجين... باردة في حرِّ الصيف. شهية نديّة مُغرية خارجة للتوِّ من زمهرير الفريزر.

في الأفق تراءت لي باخرة. بدت كلعبة أطفال. في الأول، جدّفتْ يدي نحوها بدون وعيٍ منها. لكنني أوقفتها. كانت حركة سخيفة أن أجدّف نحو باخرة ما كنتُ أعرف بالضبط هل هي آتية أم رائحة. ما إذا كانت الأرواح المطلّة من كوات قـُمْراتها سعيدة أم شقية. بدتْ كالتلّة البيضاء التي شيِّدتْ عليها المدرسة التي أعمل بها. كقطعة سكر.. ضخمة ربّما... لكنها تذوب شيئاً فشيئا في خطِّ الأفق. لن تستطيع مثل هذه الباخرة/اللعبة أن تنقدني. اقتنعتُ بهذا عندما رأيتها ترقص رقصة أخيرة و تغوص في خطّ الأفق دون أن تظهر من جديد.

قلت للويزة:
 لا تؤمني بتلك الصورة الكاذبة! فلن ينقدَنا ممّا نحن فيه إلا أن نحلم أو نتخيّل.

وسرتُ أرقبُ انزلاق مركبي: كان ينسابُ بالموازاة مع انسياب الشمس في جسد السماء، حتى إذا ما توقّفت في مستوى كبدها، توقف هو الآخر وراح يتأرجح في مكانه البحري... يسترجع أنفاسه... أمْ يرقب ما يحدث في الأفق...

انبثقتِ السكّرةُ مرّة ثانية. وتأرجح مركبي بقوّة وغاصتْ غوصاً أخيرا ومكث مركبي بعضا من الوقت... يرقب، ثم واصل انقياده... الأحمق.

كان فكري يسير في طريق، والشمس تسير في طريق، ومركبي يسير في طريق آخر... وكان العطش المدمّر... هنا.

مرّة أخرى هوتْ عليّ َ الشمس بسياطها الملهبة ونفذتْ بسهولة عبر التمزقات التي طالت قميصي وسروالي بسبب خدوش المسامير وألواح المركب. كانت تـُؤرِّبُني تأريباً مؤلماً إلى أبعد الحدود.

وطفحتْ على جلدي ـ دون مقدّمات ـ نفطاتٌ عديداتٌ مليئة بشيءٍ كالماء، بيد أنها محرقة كأكياس صغيرة من نار.

كنتُ أطلبُ ماءً فها أنا أبدِّدُ ماء بدني في هذه النفطات اللعينة. كنتُ أحترق في الماء. قاومتُ بشكل لا معقول الرغبة الشديدة التي انتابتني في أن أقلع قميصي. شيء مّا أمرني بألا أفعل وإلا احترقتْ رِئتايّ ْ.

كذلك امتنعتُ عن قلع سروالي على الرغم من الالتهاب الذي بدأ ينتشر في ثنية فخدي. كنتُ أتقرّح. أتعفـَن. أتفسّخ...«ما كل هذا التعذيب! هل كل هذا التعذيب لكوني ركبت البحر؟ لكوني تتبّعت بصيصا من الأمل في العيش الكريم؟..»

كانت الأسئلة تتركّبُ في ذهني مكمولة و لكنني أنطقها مشتّتة:
 ما... كلــ...ها...ذا... التعتيب...

كان لساني قد تشقّقَ من فرط الجوع والعطش. لفتَ نظري إبزامُ الحزام:«لِمَ لمْ أفكّر في صنع صنارة منه؟» حاولتُ طيّه ليصير صنارة. لم أفلح. كان قاسيا. تخلّيتُ عن الفكرة و عدْتُ إلى الأفق. لا زال خالياً من أية باخرة.

مالت الشمسُ إلى اليمين بينما لا زِلتُ في مساري.

ثم دغدغة في قلبي. مسحة بهجة و كأنني سأعثر على شيء سعيد؛ ماء أو سمكة. انتظرتُ أن يتحقّقَ الإحساس. زمنا. لم يحدث شيء. بعض الأسماك الصغيرة، فِضّيات، تقافزت بعيدا عني. بكل تأكيد لن أستطيع اصطيادَها. لم أكن صيّاداً... لم أصطد في حياتي سمكة. حتى لمّا كان صديقي كريم البحار يعلّمني صيد السمك، لا أفلح. كانت صنانيري تخرج دوما فارغة من جوف البحر.
لست صيّاداً... أنا... معلّم انحرف مركبه... و يعيش حالة الضياع.

«إلى أين أنا ذاهب؟». استحضرتُ بصعوبة المعارف التي اكتسبتها في الكلية: من الناحية الجغرافية ـ البحرية، فإنني أنحرف جنوباَ بسبب قوّة التيار البحري التجاري الثالث، و لعلّي ما زلتُ بماوزاة الشاطئ المغربي...
 أية سخرية أقدار ٍ هذه التي تذهبُ بك إلى عكس ما ترغب...؟

يكون الطقس في مثل هذا الوقت محتملا في العادة ، والبحر دافئاً و هادئا. ولكن في بعض الأحيان، تتفجّر القرّاعية العظيمة فيتبدّل وجهُ البحر... لا مركبَ يصمد في وجهِ القرّاعية! يخبط البحرُ خبطة عشواء. فهل أستطيع أن أنقذ كلبتي ونفسي؟...

لمّا استطال ظلّ ُ لويزة حتى صار في طولِها؛ عند حدود الساعة الرابعة بعد الزوال، حدث من تلك الأمور التي لا يصدِّقها العقلُ. وتأكّد لي أن أجسامَنا آلاتٌ لا نعرف عنها إلا النزرَ القليل.

على الساعة الرابعة بالضبط، التقطتُ إحدى الإذاعات الاسبانية. في البداية، اعتقدتُ أنني أسمع مذياعاً يحمل لي الأثيرُ صوتَه. من قارب أو مركب. بدأتُ أدور في مركبي كالمجنون لعلّني أرى ذلك القارِبَ أو المركب. لم أرَ إلا المحيط... إلا صفحةَ الماء الزرقاء.
بعد انتهاء الدّقات الموسيقية الأربعة، سمعتُ بكل وضوح:«سونْ لاسْ كْوارتوسْ دي لا تاردي... آكّي رّاديو دي إسبانيا...».
تكلّمتِ الأخبارُ عن استعداد أمريكا وبريطانيا لقصف العراق، عن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، عن فضيحة بيل كلينتون الجنسية، عن شخصٍ فاز في البطولة العالمية للجري، عن آخر فاز ببطولة الأكل، وعن آخر حصّل على جائزة في الأدب الروائي... تكلّموا عن أشياء كثيرة لكنهم لم يتكلّموا عنّي وعن أمثالي.

جاءني هذا الخاطر كما يجيء إلى طفل غيور.

لا! لم أكنْ لِأهتمَّ بنفسي إلى هذا الحدّ؛ فمن أكون حتى يتكلّم الناس عنّي؟

كلمةٌ في نهاية الأخبار الاسبانية دفّقتْ في قلبي أملاً جديدا:«... لا لوبْيا...»

فتحتُ عينيَّ فوجدتُ لويزة بالقرب منّي تئنّ ُ أنيناً ضعيفا، ونظرتُها شاردة... بلْ حيرى. كانت قلقة.
 قريبا سنجدُ الخلاصَ يا حبيبتي لويزة! قلتُ لها، وضممتها إليّ َ وقبّلتُها بحنان مفرط.
لكن لويزة لم تهتمْ. أشاحتْ برأسِها عنّي... غاضبةً على ما يبدو.
أمّا أنا، فلقد انهمكتُ أتابع الأصواتَ الآتية من المذياع...
 هل سمعتِ ما يقولُه هولاء الأربعة والمذيعة؟
نبحتْ لويزة نباحا واهنا، أو أنها أحّتْ ثمّ َ صدّتْ وجهها.

كانت الندوة تدور حول الهجرة السرية من إفريقيا إلى أوربا عبر المغرب. كانوا يتكلّمون عن أناس في مثل حالتي؛ ولهذا تتبّعتُها حتى مغيب الشمس.

تكلّموا عن الأسباب السياسية للهجرة، عن الأسباب الاقتصادية، عن عوامل الاجتماع، وعن أسباب أخرى، ولكنّهم لم يتكلّموا عن الأسباب الحقيقية التي تدفع بمن هو مثلي ليركبَ المغامرة البحرية: الطموح اللامعقول لزوجتي، الجشع اللامحدود لأصحاب القرار مـن حولي، الجشع الذي جعلها تشعر بالحرمان والذي دفعها إلى اعتناق الوهـم هي الأخرى.

عندما فكّرتُ في كلمة (الوهـم)، شيءٌ مّا قطع خطّ َ تواصلي بالإذاعة، فلمْ أعُدْ أسمع ذلك الدفقَ من الكلام المليء بالرّاءات المتسارعة والمتكلّم عن قضيتي ولكن من وجهة نظر الكلام الصحفي الجافّ.

منتصف الليلة الثالثة. هبّت ريحٌ باردة و تأرجح مركبي حتى كاد ينقلب. كنتُ فرحاً بهذه الريح الليلية التي تحمل معها المطر. الظاهر أن المرء عندما يشتدّ ُ عطشُه خلال النهار، ينفتح له باب الخيال واسعا ليدخل عوالم فاتنة، كلها صور و رؤى ساحرة. لكن في كنف الليل، فإنّ تلك الباب لا تنفتح وكأنّ الظلام يطفئ الخيال. قلت لها:
 أبشري! ماءٌ آتٍ من السماء... سوف نرتوي حتى الثمالة. سوف نسكر بماء السماء كما لم نسكر في حياتنا من قبل.
أنّـتْ ولهثتْ بعد انقطاعها عن اللهاث زمناً، ثم عادت إلى حالتها...

نظرتُ إلى السماء. توقّعتُ أن أراها مثقلة بالسحب. قبّة من الظلام. بدلاً من ذلك، رأيتُها متلألئة في العديد من أرجائها، والقمر قد مال بوجهه على خطّ ِ غروب الشمس، تتبعه نجمتُه.

لم يكن واضحا أنها ستمطر. لعلّها لن تفعل. كانت تتوجّع كامرأة عندها حملٌ كاذب. تضرّعتُ لها:«أمطري يا سيّدتي وأنعشينا أنا وكلبتي! لِمَ لا تمطرين؟ هل أنتِ مريضة؟ هل أنتِ غاضبة؟ هل بيني و بينك أية مشكلة؟» تأرجح المركب ساعة أو ساعتين ثم هدأ فجأة، ومشى ينساب على صفحة البحر وقد أضاءها برق بعيد، فتجلّت الصفحة البحرية كجلدِ حيّة ٍ زرقاء.

في انسيابه، كان يترك خلفه رغوة بيضاء سرعان ما تتشكل منها صورٌ مخيفة؛ وجوهٌ وأشكالٌ تتداخل مع كلمات غير مكتملة.
انبطحتُ وصرتُ أتابع بالرغم مني تلك الأشكال المرعبة التي يرسمها المركب ببطء. عندما كانت إحدى الموجات الطائشة تقذف به إلى الأمام، كانت تلك الرسوم لا ترتسم. وبحركة تلقائية منّي، فككتُ السلك الذي يربط المحرّك و هوى المحرك «بلوم!» رأساً إلى الأعماق. فاندفع مركبي بسرعة أكبر من تلك التي كان ينساب بها وارتسمتْ خلفه ـ هذه المرّة ـ خيوط رفيعة بأشكال راعتني.
لو كان لي ورقة و قلم، لرسمتُ إحداها للذكرى.

تحسستُ جيب سروالي بدون قناعة تامّة، إذ سبق لي أن تحسسته ولم أعثر فيه على أيّ شيء. كنت في عرض المحيط خالي الجيوب ولا أملك سوى كلبتي وخيالي. ولعلّني لم أكن أملك حتى الكلبة؛ فلقد بيّنت لي من خلال ردود أفعالها تجاه حركاتي الغريبة أنها ملكُ لنفسها. من الغرور أن يعتقد المرء أنه مالك لنفسه وأن الكائنات الأخرى غير جديرة بأن تمتلك نفسها.

في لحظة مّا، عرفت أنني نمت على الرغم من تفتح عينيّ َ وتتبعهما لمشهد رقص الرخويات حول مركبي، وراقَ لي أن أتابع الحكايات التي يرسمها لي خيالي... حكايات أخجل أن أذكر بعضها، بينما البعض الآخر يضحكني عندما أتذكره:
 كنت مع كلبتي في مكان عجيب: حديقة فسيحة وفي أطرافها أشجارٌ شـُذبت. قصّت على شكل أرقام. كانت الساحة دائرية، ولمّا دققتُ النظر، عرفت أنها أرقام ساعة كبيرة. وكانت لويزة منبطحة بسفح الشجرة (3) وأنا مختبئا خلف الشجرة (11) أحاول التسلل لكي أفاجئها. وهي تلعب بذيلها غير آبهة بي. غير منتبهة. تسللت من الشجرة (11) إلى الشجرة (12) وما كدت أنتقل من (2) (3) لأحقق المفاجأة، حتى تبدّدت هي والأشجار والأرقام؛ ولم يبق سوى الساحة... خالية. فاستفقت ونظرت إلى لويزة. كانت نائمة. و إلى السماء. كانت مضاءة بضوء آتٍ من بعيد. وهبّت ريح هادئة وداعبتْ وجهي وهمستُ لنفسي:
 حمل كاذب!... لا مطر!...

كنت قد قضَّيْت ثلاثة أيام دون شرب أو أكل، أحسست بأنني أقدر على فعل أي شيء لأجل الحصول على جرعة ماء وكسرة خبز. أشياء متوفرة إلى حدِّ أننا لا نعيرها اهتماماً، وكأنها موادّ زائدة، لكن عندما تصير نادرة، تكتسب قيمة لا حدّ لها. أُعطي أجرة شهر للحصول على كأس ماء. بل أجرة ثلاثة أشهر.

9

سار المركب في طريقه الغامض ضدّا على إرادتي. تأملته ملِيّاً: وحش هذا المركب! غول ابتلعني دون مضغ وحملني في بطنه إلى وكر غيلان أخرى... ستأكلنا الغيلان يا لويزة... أفيقي!... انتبهي!...حذار! ... حاذري! ...

نوبة قلق انتابتني. فكرت في أن ألقي بنفسي إلى البحر لكنني لم أفعل. هدّأت لويزة و قلت لها:
 إنها تقلبات أحوال هذا الجسد البدائي...

كانت شفتايّ َ قد تقرّحتا كثيرا بسبب العطش والملوحة التي رسِّبها رذاذ البحر عليها.

ودار كل شيء كالإعصار في داخلي؛ وعصف بالأمل الذي كان قد تبقّى لي. شعرت بقلبي يهوي في بئر سحيقة في صدري، وانفجرت باكيا سائلا مركبي:
 بحقِّ السماء إنك لمركبٌ غامض! كنتُ قد جهّزتك بمحرِّك، وملأت بطيْنَك بالبنزين، وضبطت توازنك، وخففت عنك الأحمال لكي تسير في الطريق المستقيم، فأبيْتَ إلا أن تضلّ الطريق وتنحرف؛ فهل أنت مركب صديق أم مركب عدوّ؟ هل أنت مركب يدري ما يفعل أم أنك مجرّدَ مركبٍ خشبيٍّ تافه ينحرف حيث تجرفه التيارات وليس له إرادة ولا هدف؟...

ضربتْ موجة ٌ مقدمة المركب، موجة عرضية. فانقذفتُ إلى الخلف حتى كدت أسقط، وصعد المركب تلّة ً من الماء.
كان مركبي يصعد ماء بكلّ تأكيد، فقد كان الماء تحتي وكان الماء الذي حولي يبدو في مستوى أخفض.

أحدث الاصطدام ـ بين المركب والتلّة المائية الغريبة ـ في نفسي صورةً عزيزة عليّ َ؛ في الحقيقة، أحدثَ صورتين متداخلتين: صدر أمي كما رأيتها وأنا في الخامسة وهي تغتسل أمامي في مكان لا أذكره جيّداً، فأذهلني ثدياها الضخمان؛ وصدر أحلام زوجتي كما رأيته لأوّل مرّة وهي تغتسل في حمّام بيتهم. كم سحرني ثدياها الصغيران! تطابق الصورتان هذا راجعٌ إمّا للصدر أو للاغتسال أو للمرأة. الفرق هو أن مشاهدتي الأولى كانت إرادية إذ كنت حاضرا عندما بدأت أمّي طقس الاغتسال ولم تمنعني من مشاهدتها، وأمّا المشاهدة الثانية فقد كانت بالصدفة إذ كانت أحلام تستحم وغفلت أن تقفل باب الحمّام وشاهدت ما شاهدت... ثديا زوجتي كالإجاصتين الطريتين على الدوام، منذ ذلك الحين حتى الآن.
 ولويزة ماذا تفعل؟
 تلحس أثداءها... أمر غريب.

أشياء طافية على وجه الماء... أوراق كبيرة و أكياس كروية من نفس اللون... طحالب حمراء عطّلت انسياب المركب. توسّطها المركب فمددت يدي لها فآلمتني القروح الوردية التي اكتسحت يدي.

أخذت (كرات الماء) بين يديّ َ و تفحّصتها. تذوّقت واحدة. الماء. ضعيف الملوحة بيد أنه قوّي الرائحة. رائحة اليودْ أعرفها. ضحكتُ وقلت للويزة:
 انتظرتُ أن يجيئنا الماء من السماء، وها هو يجيئنا مُعلّـَباً في أكياس طحلبية.

بدون تردد، التهمتُ الأكياس المائية. لويزة هي الأخرى فعلتْ.

كنا نأكل الطحالب، ليس لإسكات آلام الجوع وإنّما للحدِّ من تجاوزات الخيال والوهم التي يمليها علينا العطش.أضحكتني هذه الوضعية التناقضية «أن نأكل لنشرب». تذكرتُ أن بعض الحيوانات لا تشرب الماء أبدا وإنما تكتفي بالماء الموجود في الأغذية التي تتناولها؛ جرذان الصحاري مثلا وبعض الظباء.

شعرت بانتعاش حقيقي، ومع ذلك خفّ َ إحساسي بالجوع. «هذه مَنْجاتُنا!» قلت للويزة، وشرعت أجني أكبر كميّة منها ( الطحالب) تحسُّباً لأن تطول مدّة ضياعنا في المحيط.

لم تكن وجبة الأكل الشهية التي تناولناها أنا ولويزة لِتمرَّ بسلام، فبعدما اتقدت الشمس وتأجّج لهبُها، ارتفعت حرارتي بشكل لا معقول، وكأنما تفجرتْ في أحشائي ودمائي قنبلة نفطية، وتسارعت دقات قلبي، وزاد تعرّقي واختلجت أنفاسي...

لويزة هي الأخرى لم تكن على ما يُرام، فلقد تمدّدت وسارتْ تنظر إليّ َ بعينين مضطربتين.

استمرّتْ نوبةُ الحمّى زهاء ساعة أو أقل، أو أكثر. ضننتُ في أوجها ُ بأنني سأتفحّم أو أجف من فرط التعرق، لكنّي بردتُ وهدأ قلبي وجاءتني فكرةٌ كنت قرأتها في كتاب؛«بعض روّاد الفضاء غامروا بالدخول إلى عين الشمس. بلغتْ درجة الحرارة على شاشة الحاسوب 10.000 درجةً مئوية. المركبة الفضائية مصنوعة من مزيج معدني يقاوم مثل هذه الحرارة لا أكثر. ربّانُ الفضاء أمر بالاستمرار في شق عين الشمس على اعتراض مساعده. قلق شامل. فجأة تبدأ الحرارة في الانخفاض. تستمر الحرارة في الانخفاض حتى الدرجة 37.5 مئوية، فيجدون في قلب الشمس، جنّة ً حقيقية...»

هذه القصة دمّرتْ كل قناعاتي التي كنتُ أومن بها وأنا طالب إلا واحدة: أحلام ابنة خالي... الثري.

10

لويزة مرحة الآن. تلحس فمها وتجيل بصرَها من المحيط إلي ومِنّي إلى السماء. و ارتسمت على شفتيها ابتسامة مكر جميل.
 ليس هناك ما يستدعي كل هذا التمحيص يا لويزة...
المحيط هو ما نحن فيه... ولا شيء غير المحيط...

كنت مخطئا في هذا القول. أشياء خفية كثيرة تحيط بنا، وأشياء تتهيّأ.

على الميمنة، انبلج قرش أبيض من صفحة الماء الزرقاء. وفي اللحظة ذاتها، انبلج قرش أخر على الميسرة. كانا قرشين لامعين. وما كادا يغوصان حتى قفز قرشان أبيضان آخران من نفس المكان من الصفحة التي ظهر فيها القرشان الأوّلان. ثم حتى خُيِّل لي بأنهما نفس القرشان يغوصان ثم يعودان إلى مكان انبلاجهما الأول لينبلجا منه مرّاتٍ ومرّات، بعد أن يقوما بدورات تحت الماء.
 لِمَ تريد أن تجد تفسيراً للأشياء؟ يا لها من عادة سيئة!

قفز القرشان الأزليان آخر قفزة وغابا في الأعماق اللجيّة إلى الأبد.

لويزة نامت وأنا في حالة من الانتعاش والحيوية بحيث وددتُ أن أفعل شيئا مّا. فكّرت أن أؤثث هذا المسكن المحمول بالماء الذي صرت أعيش فيه: هذا الركن للمطالعة... هذا للأكل... وهذا الكنيف... وهذا للتريُّض وتنمية العضلات...

تأثيث البيوت والمراكب والخلايا السجنية... مجرد عادة يفرضها الجسدُ لملءِ الفراغ واقتصاد الطاقة... الجسد يخشى الفراغ.
ارتقبتُ أن تدقّ َ (سون لاس كوارتوس دي لا تاردي) على أحرّ من الجمر، لأنني كنت متيقظاً وراغباً في متابعة الأخبار والندوة. تمنّيتُ أن تتكلّم الندوة عن الهجرة السرّية عبر البحر. تمنّيت أن تستجوب الندوة كلَّ مهاجر سري عن البحر على حدة. تمنّيتُ أن يحدِّثهم واحدٌ منهم عن زوجته الجميلة الرقيقة الطموعة إلى أبعد الحدود، ويقول لهم إنها هي من دفع به إلى ركوب المجهول والمخاطرة بحياته لأجل أن يحضر لها سيارة أو عقداً من الذهب الأحمر أو ثوب حرير...

كانت الثالثةَ زوالا. تأكّدت من ذلك لأننا كنّا ثلاثة: أنا و لويزة والمركب. ثلاثة: البحر والسماء والشمس. ثلاثة: العطش والجوع والحرمان. ثلاثة: الوهم والواقع والخيال. ثلاثة:...

استمررت في دوّامة (الثلاثات) ولم يخرجني منها سوى (سون لاس كوارتوس دي لا تاردي... آكّي رّاديو دي إسبانيا...):
الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تقصِفان المنشآت المدنية العراقية. أزيد من 400 قنبلة صاروخية. أنا أتابعُ سيناريو الهجوم وكأنه يحدث أمام عينيّ َ. العراق يتلقى الضربات. العالم يتفرّج. أمريكا وبريطانيا تعلنان انتصارهما. العراق يعلن انتصاره. رئيس أمريكا ينهزم في قضية مَنيّ. روسيا تحتج (؟) (هل هي مع العراق؟)... يا له من كابوس حيّ!

تفحّصت وجه لويزة فبدا لي معذبا، وعينيها، فرأيتهما تنفتحان وتنغلقان وتدوران في محجريهما. خشيتُ أن تكون عليلة. قلت لها:
 - لا عليكِ! فقريبا سنرتوي بأمطار السماء. سمعت الأخبار تقول إن ريحاً من جنوبية ـ غربية إلى شمالية ـ شرقية آتية وفي جوفها الأمطار... ستمطر حقّاً هذه المرّة. ألا تشمّين الريح الباردة الضاربة في أوجهنا؟

كان التيار المائي القوي يحملنا بالاتجاه المعاكس لاتّجاه الرياح. صرختُ:
 أ تسمعين؟... قريبا... الماء! ...

ابتسمتْ لويزة وقالت:
 إني أسمعك، فلا داعيَ للصراخ.

كانت المفاجأة عظيمة. لويزة تتكلّم كلاما فصيحاً.
 هل أحلم أم أنك تتكلمين مثل بني البشر؟

ضحكتْ وقالت:
 أنا كنتُ دائما أتكلّم معك. أنتَ الذي لم تكن تفهمني.

لم أصدِّق في بادئ الأمر عينيّ َ وأذنيّ َ: شفتا لويزة تخرجان الحروف في نطقها السليم. تتكلّم كما نتكلّم نحن، وكلامُها ينفذ إلى سمعي خالصاً.
 إن لم أكن أحلم، فما هذا الأمرُ الذي أرى؟
 إنك لا تحلم. أنتَ تسمعني وهذا كل ما في الأمر. قالت.

مرّات عديدة تمنّيتُ أن أقدر على فهم لغة الحيوان، ولم أتوقّع قط أن تخاطبني الحيوانات بلساني. قلتُ لها.

 تكلّمي معي إذن! تكلّمي دون توقّف، فأنا سأتابع بشوق كبير ما سوف تحكينه لي... احكِ لي عن قصّة حياتِك... عن رأيكِ في هذه المغامرة... وعن الأمور التي تُفكِّرين فيه لعلّني أكون من الفاهمين... لعلّني أتوقّف عن الشعور بالوحدة والضياع...
 لن تشعر بالوحدة معي بعد الآن؛ فأنا صديقة صادقة ليس لها خرذلة طمع في مصادقتها لك. أنا صديقة تُحبُّكَ كما أنتَ بعيوبِك ومحاسِنِك؛ فاستكنْ ودع السعادة تملأ قلبك!

وأضافتْ:
 إنّ أشدَّ ما كنتُ في حاجة إلى التعبير عنه بِلُغة البشريين هو أنّنا ـ نحن معشر الحيوانات ـ نملك مشاعر وأحاسيس كالتي عندكم؛ بل وأشدَّ قوّة. وما يضرُّنا كثيرا هو أن نسمع الجهلة من الناس ـ عندما يأسروننا ويستعبدوننا ويضربوننا ـ يقولون:«ما هي إلا بكماءات لا حِسَّ لها ولا شعور». قولٌ فاجر. هل رآى بنو البشر كيف نحبّ أطفالنا، كيف نقاتل من أجلهم ومن أجل حرّيتِنا، هل رآى كيف نكون أوفياء لأصدقائنا منهم، كيف لا نقتل من هم من جلدتِنا، كيف لا نقتل الحيوانات الأخرى إلا دفاعا عن النفس أو من أجل إطعام أطفالنا وأنفسنا؟
 هل تدّعين أنكم معشر الحيوانات تقدرون على الحب؟ أعني أن تحبواْ مثلما نحب نحن؟

تورّد أنف لويزة و تلألأتْ على زغبات خدِّها نقاطٌ حمراوات كنمشٍ زمرّدي.
 هل أحببتِ يوما مّا كلباً من الكلاب؟ قولي و لا تخجلي!
 ... حدث َ.

شهقت أنا.
 ... أنتَ تعلم أن لنا عادات لا تروق لكم رؤيتُها. ولهذا ـ ربّما ـ تعتقدون أن لكم الحق في احتقارنا. وإنما هي عاداتٌ خُلقتْ معنا و خلقنا معها. ونحن بها لسنا أقلّ َ ولا أفضل من سائر الحيوانات. كنتُ أحببت كلباً وسيما. لون فروِه أصفر. وتمنّيتُ أن أُرزق منه بذريّة. لكن عادتـَنا أن تتصارع الكلاب من أجل الإناث. وصرع كلبُ بشعٌ كلبي وقتله. لهذا فررتُ من قريتنا إلى طنجة حتى لا أ ُنجبَ كلاباً بشعة... وهناك، تعرّفتُ على كلبٍ وعدني بالحبِّ وبالحياةِ الرّغدة في مزابلِ وفنادقِ وزقاقاتِ وأسواقِ وبيوتاتِ المجازرِ البلدية... كانتْ حياتُنا جميلة ً في البداية، لكن خطِرة. هناك، عندما يمسكون بك، يضربونك حتى الموت... انظر! (أزاحتْ لويزة خصلة ً من شعر رأسها بيدها اليمنى ) ... هذا أثر جُرْح أحدثه جزّارٌ برميةِ ساطور. كدتُ أفقدُ الحياة هناك وهذا ما دفع بي إلى الهجرة إلى العرائش... لأعيشَ حياة ً هادئة.
 والجِراء؟... الإجهاض؟...هل...؟
 إنها جراءُ كلابٍ كثيرة... وإنّي أكره أن أتذكّرَها؛ فهيَ تُذكِّرُني بحياةِ الضياع... لم يُكتبْ لها أن تعيش... هذه حكمة.
لم أشعرْ إلا والدموع تنهمر من عينيّ َ. فجدبتُ لويزة إليّ َ وضممتُها إلى صدري... ألفيتُها باردة جدّاً في حين، بدأتِ الحمّى تتّقِدُ في جسدي.
 لِندعِ الكلامَ عن هذه الأمورِ التي تعذبنا! ... هل تشعرين بالجوع؟...

تذكّرتُ أن لدينا ذلك السلك الذي كنّا نشدّ ُ به المحرّك إلى المركب. فلوْ صنعنا منه صنانير لاصطياد السمك...؟
 أنا الأخرى فكّرتُ أن أرتميَ في المحيط لأجلبَ لك الأكلَ و لكن ظلالَ قروشٍ نهِمةٍ كانتْ تحومُ حول المركب و أسفله. و فكّرتُ أنّك لو فقدتني لمِتّ َ من الحزن عليّ َ قبل أن تموتَ من الجوعِ أوِ العطش...
 آه! ما أتقاكِ يا كلبتي العزيزة! كم كنتِ متبصِّرة ً وكم كنتُ أعمى! ... أنا ـ حقّاً ـ لا شيءَ أمام حكمتِك.
 لا تقُلْ هذا الكلامَ أيها السعيد! فأنت معلمُ أطفالٍ و مهنتك في جلاء الجهل عن العقول وإنارتِها بنور العلم لَهيَ ما يُعلي قيمتـَك.
 ... و ما رأيُكِ في الرحلة؟
 ... تغنيك أكثر.

11

من أغرب الحقائق التي حكت لي عنها لويزة، أن الحيوانات تفهم جميع اللغات وأنّ على عين الإنسان غشاوة الغرور تمنعُه من التواصل معها.

وقالتْ عنّي أنّي ما استطعتُ التواصلَ معها إلا لكوني تنازلتُ عن كبرياء الإنسان وغروره حيث رميتُ بأنَفتي وتكبّري في البحر، ولمْ أكنْ أدري أنني فعلت. قد فاق َ علمُها علمي.

وفيما نحن نتسامرُ في أمور ٍ أخرى، رأينا لمعاناً في السماء، فقالت:
 انظرْ إلى تلك الطائرة! هل تعتقد أنها في الأعلى و نحن في الأسفل؟ أو أنها بين الأضواء و نحن في العتمة؟

و لم أعرف كيف أردّ ُ عليها. و تابعتْ:
 يعتقد الإنسان أنه اخترعَ الطيران وأنه بلغ الأوج وأنه في عصر الأنوار... هل نسيَ أن الحيوانات طارتْ قبلا منه؟ ... من المؤسف أن أقول ما سوف أقول، ولكن الإنسان جاهِلٌ كبير.

كانت لويزة رائعة، بل أكثر من الروعة في نطقها بهذه الأفكار الجريئة، وفي منتصف الليل همستْ لي:
 ... و الآن، استعدّ ْ لرؤيةِ ما لم تره عينٌ من قبل!

نظرتُ إلى صفحة الماء... أنوارٌ آتيةٌ من العمق. وشِدّتـُها تتزايد، وعندما بلغتِ السطح، ظهر عددٌ لا متناهٍ من قناديل البحر بأنوار زرقاء خافتة وباردة. بدَتْ صفحة ُ الماء كساحة مطارٍ في الليل. وعِوضَ أن تحُطّ َ عليه كائناتٌ فضائيةٌ غريبة، انبعثَ من جنْبِ كلِّ ضوءٍ، نونٌ فضّيّ ٌ مفلطحُ الجسد ومدّ َ رأسه نحو السماء.

كانتْ دهشتي بالقوّةِ التي قبضتْ صدري وشدّتْ تنفسي... رأيتُ رؤوسَ الأسماك منقوشةً بنقوش كالكتابة، ولمّا تحققتها، قرأتُ اسم الجلالة [لا إله إلا الله] على رأس كل نون.
 هل رأ... رأيتِ هذا يا لويزة؟ همستُ. و كانتْ هي الأخرى مشرئبّة نحو السماء.

دامت صلاة الأسماك زمنا ثم انسحبت النّوناتُ، فَقناديل البحر، مخلِّفةً وراءها ضوءً باهتاً عالقاً بصفحة الماء الهادئة.

وحلّ َ نورٌ في السماء، وعرفتُ أن الزمن في كنف الصلاة العجيبة قد تصرّم دون أن أشعرَ به.

حلّ َ صباح اليم الخامس ولم أكن قد نِمتُ، فجأةً، اقشعرّ َ بدني بسبب هبوب ريح باردة جدّاً، فتكوّمتُ على لويزة لأدفئها ولأدفأ بها. شعرتُ بأن التقرّحات التي كانت في رجلي بدأتْ تتراجع، وقلت لنفسي:«لعلـّها الطّحالب (؟)» تناولت حزمة منها وفركتُ بها صدري وظهري وثنية فخدي وسائر بدني ووجهي، فشممتُ فيها رائحة ً ذكّرتني بأولى زياراتي للمستوصف الصحّي وأنا طفلٌ مريض. ... رائحة البنج. ألقيتُ بنظرة دائرية إلى فراسخ المياه المحيطة بمركبي المنحرف وبنظرةٍ حيرى عليه.كان قد غيّر وِجهته. والمويْجات المنقذفة إلى الأمام والمتراجعة، تبدو في بياضها الفضي، كأصابع امرأة بضّة متوترة تخدش بأظافرها فرْوَ موكيط...

ها هو رذاذ ٌ سماوي يحل! قلت لها فلم تردّ. واندفع المركب بقوّة ليقودني إلى العاصفة.

في زمن مضى، كنتُ أكره أن أصادف العواصف؛ لكني في هذه المغامرة، اشتقت لها. فعلى الرغم من كونها مرعبة إلا أنها تحمل في ثناياها كلّ َ الخير.

في الحين، انهمر مطرٌ غزير ملأ َ في بضعة دقائق جوف المركب.

«طرطشنا» أنا ولويزة فرحاً بالماء وغسلنا وجْهـَيـْنا و لحسناه وشربناه من حنية المركب كما تشرب الدوابّ ُ... لكننا كنّا سعيديْن. للغاية.

في غمرة الفرح، لم أنتبه للطحالب التي غادرتِ المركب. طافية ً بعيدا. مبعثرة ً في تضارب الأمواج. لم أنتبه كذلك لخسوف المركب تحت ثقل الماء. كاد أن يغرق. تداركت الأمر وبدأتُ أغرف فائض الماء بيديّ َ وألقي به في البحر أنا أفكر في حالة الإنسان الذي لمّا يكون في حاجة ماسّة لشيء، يطلبه بقوّة، ولمّا يحضر ذلك الشيء الذي طلبه، يبدِّدُه... كنتُ أبـَذرُ شيئاً كنتُ تمنّيتُ منه جرعة واحدة لا أكثر.

استمرّت لويزة «تطرطش» في الماء. طفلة شقيّة فرِحة بماء المطر. سعيدة.

تصاعد المركب بفعل الأمواج مقدار قامة رجُلين، وغار بنفسه بنفس المقدار عدّة مرّات. كان الموقف رهيباً ولكنني لم أعثر في قلبي على ذرّة خوف. كنتُ تحرّرتُ من الخوف... من الطّلب... من الابتغاء.

استمررتُ أفرغ المركب من الماء ولويزة تلعب فيه ككلبة حقيقية تلهو غير آبهةٍ بي. فقلتُ لها:
 قولي شيئاً! عبِّري عن فرحتِك بالكلام! لكنها لم ترُدّ... للمرّة الثانية.

كانت عاصفة ً طائشة ً لم تدُمْ طويلا أو أنها كانت مجرّدَ ذراع ٍ لعاصفة تضربُ في الغربِ وشماله.

بعد أن هدأتْ، جلستُ أفكّر في الحصيلة: ماذا خسرت؟ ماذا ربحت؟ فانفجرتُ بضحكةٍ مدوِّية أعتقد أنها سُمعتْ في إسبانيا. «الخسارة لا شيء لأنني لا أمتلك شيئا»... الربحُ الكبير هو أنني تحررتُ من الخوف ومن الابتغاء... أقصد؛ طلبَ الأشياء الزائدة، الكمالية، تلك الأشياء التي يفاخر بها الفقراء مهما كبُرتْ ثروتهم؛ و ربحتُ كذلك صديقة لا مثيل لها...
 أ ليس كذلك يا لويزة؟

أخذتُ لويزة بين يديّ َ ونظرتُ في عينيْها أسألها، لكنها تنصّلتْ بعنقها من يديّ َ وأعرضتْ عنّي وقفزتْ إلى الماء المتبقي في حنية المركب. قلقت. تمتنع صديقتي عن الكلام؟

حدث هذا بعد أن ارتويت... فيا ليتني بقيتُ على عطش حتى تكلِّمَني لويزة إلى الأبد...!

ريحٌ باردة متبقية. لويزة تنظر إلى الأمام و تنبح. المركبُ سار إلى الجنوب الشرقي. الشمسُ ظهرت على اليسار. و أشياء طافية: صناديق خشبية عديدة.
 الظاهر أن مركباً تجارياً تحطّمَ بسبب العاصفة و هذه حمولتـُه.

جلبت صندوقاً إليّ َ و قلعتُ الخشب الرقيق المحطّم. بالداخل، علب سردين.

شحنتُ علب السردين إلى مركبي و أنا مليء بالحبور.
 بهذه يمكن أن نصمد عدّة أيامٍ أخر.

تناولت علبة. حاولت فتحَها دون طائل. درت حولي لعلّني أجد شيئاً أفتحها به. لا شيء! ندمتُ قليلا لكوني ألقيتُ بالمحرِّك في البحر. فلوْ أبقيتُه لأمكنني الآن أن أحطِّمَ هذه العلبة على حديده. ضربتُ علبة سردين بأخرى ولم تنفتح أيّ ٌ منهما. نظرتُ إلى العلبتين بين يديّ َ متحسِّراً ثم ألقيتُ بهما في البحر؛ ثم بباقي العلب. وصحتُ في البحر:
 أنتَ خدّاع!

نبحتْ لويزة:«هاوْ هَوّاوْ!» في عدد و نبرة الكلمات التي تفوّهتُ بها.

كان شيءٌ من الطحالب ذات الكرات المائية قد انحبس بين عوارض المركب.
 سنأكل هذه... على حين.

وسار مركبُنا يدور ويدور في حوض من الماء حول بؤرة منخفضة.

كثيرٌ من الناس يعتقد أن صفحة الماء أفقية على الدوام. هذا خطأ ٌ، فَلِكُتْلَةِ ماء المحيط الهائلة تضاريس كما للكتل الصخرية. هناك مرتفعٌ، وهناك منخفض ٌ، وهناك منبسط ٌ، وهنا حوض ٌ يدور فيه مركبي كما يدور المخاضُ في رحم امرأة.

12

لم تكنْ زوجتي ترغبُ في الحمْل. كانت تقول بأن الحمْلَ سوف يشوِّه سُرّتها الجميلة.

الحقيقة أن سُرّتَها كانتْ جميلة بالفعل. دائرية قليلا وناعمة ومنسجمة مع خِصْرِها وصدْرِها المرتفع.

فكـّرتْ أن تجهِض نفسها ولكنها تخاف العمليات الجراحية. واستسلمتْ إلى الحمْل. لكنها لم تتوقف عن التمارين الرياضية وعن لعْنِ الظروف والبلادة ( بلادتها) التي أسقطتْها في زواجٍ رديء (زواجها مني).

كنتُ أشفقُ على سُرّتِها الجميلة، لكنني كنتُ أرغب في طفل أو طفلة. فأنجبتْ لي طفلة أمال، أنا من سمّاها بهذا الاسم. أحلام لم تفرح بها كثيراً. وهذا راجعٌ ـ ربّما ـ لكون أمال تشبهني أكثر ممّا تشبهها. أنا لستُ قبيحاً، لكن أحلام جميلة جدّاً.

أحلام هاجرتْ. أمال غادرتِ الدنيا. أنا ولويزتي ننسابُ بهذا المركبِ الضعيفِ نحو بؤرة الليل.

كانتْ ليلة باردة. وأدّى صفاءُ السماءِ إلى انقشاعِ قمرٍ باهتِ اللون منقطّعِ الجانب وكأن أحدٌ مّا عضّ َ منه عضّة.

بدا القمرُ كخبزة كبيرة وهذا ما جلبَ لي الاحساس بالجوع المؤلم.

تحسستُ الكرات المائية الطحلبية، وشرعتُ ألتهمها الواحدة تلو الأخرى، وأعدُّها كما يعدّ ُ المتعبِّدُ حبّات سبحته. وفي الوقتِ ذاته، كنتُ أتخيّلُ سكّيراً مّا يتناولُ حبّات العنب بين الجرعة و الجرعة.

تأكدتُ في ليلتي الخامسة تلك أن الطحالبَ ذاتِ الكراتِ المائية الغنية برائحة اليودْ، هي ما سبّبَ لي نوبة الهذيان بالأمس.
كنتُ يقِضاً عند بلوغي الكُريـّة الأربعين، وعندما فقستُ في فمي الكُريـّة الواحدة والأربعين، اختلطَ طعمُها عليّ َ وجالَ في خاطري أنه طعمُ رحيقِ أزهار نباتِ الإكيومْ الذي كنّا نتناولُه ونحن أطفال.

سَرتْ في جسدي رعشة كتيار كهربائي خفيف مدغدغ. وبعده حُمّى أنستني برد الليل. وهدأ البحر تماماً، وران عليه جوّ ٌ من الشاعرية الساحرة. وتململت لويزتي و قالتْ لي:
 مرحباً بك أ يا السعيد! فسألتها بغضبٍ:
 لأيِّ شيءٍ ترحبين بي؟ فردّت:
 أرحِّبُ بك لأنّك دخلتَ عالمي من جديد.
 معذرة! فالكلماتُ المبهمةُ تقلقني... كنتُ أضنّ ُ أنّكِ لن تكلّميني أبدا...
 إنه مجرّدُ ضنّ.

استمرّتْ النوبة ُ وقتاً أقلّ مما استغرقته نوبتي الأولى، كنتُ أتوقّعُ أن تكلّمني لويزة كثيراً عن أمورٍ غريبة، لكنها لم تفعلْ. اعتبرتُ أن كل ما جرى بيني وبينها ضربٌ من المعجزات.

في الصمت الذي ضربتـْه حولي لويزة (لسببٍ أجهله حتى الآن)، تابعتُ الصور السريالية التي يرسمها لي الخيال... الخيالُ نعمة... لولا الخيال لما استطعنا أن نعيش.

بقيتُ على تلك الحال مستمتعاً بالصور التي يرسمها لي خيالي، محتمياً بدفءِ اليود من البرد،حتى دقتْ ـ هذه المرّة ـ «سون لاس كوارتوس دي لا مانيانا...» الساعة الرابعة صباحا بإحدى إذاعات إسبانيا.

الأخبار تتكلم عن استمرار اعتداءات الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق. فرنسا تدعو إلى رفع الحصار المضروب على العراق وتنعت كلينتون بالرجل المتغطرس. الشارع العربي والإسلامي يخرج في تظاهرات احتجاجية خطيرة... خطيرة للغاية... لكن سلمية.
وفي الجزائر مذابح يُجهلُ دوما مرتكبوها. وفي مصر، صحافة تحمِّل صدّام مسؤولية ما يتعرّض له الشعب العراقي من عقوبات أمريكية و قصف...

حقيقة أضفتُها إلى الحقائق القليلة التي توصّل لها فكري المتواضع: الأخبار أغرب من الصور التي تصوِّرها لي الكريات الطحلبية، تخصيصاً منها تلك التي ما ننفك نتوجّسُها.

في صباح يومي السادس، هطلتْ علينا أسماكٌ من السماء.

خمس سمكات كادت واحدة منها أن تصفعني.

انقضت لويزة على واحدة وشرعتْ تنهشها بنهم. وبقيتْ السمكات الأربعُ «تطرطش» في حنية المركب. وضعتُ رجلي على واحدة، دون تفكير، فانفلتتْ ووخزتني بإحدى شوكات ظهرها، أحدثتِ الوخزة ُ ثقباً مؤلما جدّا في رجلي:«أتفو!» صحتُ، وأمسكتُ المجداف أضرب به هذه السمكة و تلك حتى توقفت عن النطّ.

تناولت واحدة بعدما همدت. تفحصتُها؛ لونها أزرق به خطوط بيضاء؛ لها زعنفتان مفروشتان في شكل أجنحة ولهذا تقدر على الطيران.

ذكّرني شكلها بلونٍ من السمك كثيرا ما أكلته. شممتها فسال لعابي وعرفتُ بأنني ضمنتُ أكلا حقيقيا ليومين على الأقل.

نظرت خلفي فرأيتُ أسرابا من هذا النوع تقفز من الماء وتطير لمسافات طويلة وفي كل مرة، ينبعث من جوف الماء سمكٌ كبير... دلفين على الأرجح... نوع من الدلافين لا أعرفه....

13

كيف أبدأ هذه السمكة؟ حراشفها قاسية. فكّرتُ أن أنزع جلدها كله، فعضضتُ على ذيلها. شعرتُ باللعاب يملأ فمي. راقت لي ملوحة السمكة ونكهتها التي ذكرتني بنكهة الطحالب ذات الكريات المائية. ضننتُ أن سلخ سمكة طرية من الأمور الهيّنة. الواقع أن التحامَ الجلد باللحم ولزوجة الجلد، زائد العياء الذي شلّ َ عضلات يدي، جعل المهمة شبه مستحيلة حتى أنني قضمتها على جلدها ولم أجْن ِ من تلك المحاولة الوحشية سوى غزغزة مقرفة وجروح في شفتيّ .

جرى الدمُ في فمي مالحاً مخثراً فابتلعته بدافع لا شعوري، وملأتْ منخاريّ َ من داخل حلقي، رائحة الحديد الصدئ. فكرت:«من الطبيعي أن يصدأ دمي وكل هذه الرطوبة من حولي».

ألقيت نظرة على لويزة. كانت تمسك زعنفة بين مخالبها وأنيابها. جرّتها بحركة نصف دائرية من رأسها، فانسلخت السمكة. أحسستُ بالخجل. حاولت تقليدها فلم أفلح. بعد محاولات عديدة، نجحت في سلخ السمكة في بعضٍ من جوانبها. شعرت بشيء من الاعتزاز، ثم بقليل من الخجل المتأخر. في النهاية كنتُ أقضم لحم السمكة الطري.

خدّرتني تلك العضة في اللحم الحيّ. كانت في طعم الموز المقلي في الزبدة.

ألقيت بفضلات السمكة الطائرة في البحر، فتناقزتْ حفناتُ ماء والتهمتها. أسماك شبقية تلتهمك في طرفة عين لما تسقط. فكرت بأنني محظوظ إلى أبعد الحدود... كوني على مركب. محمي به. لم تترك لويزة من سمكتِها سوى الزعانف الشائكة. هي الأخرى قنعتْ بما أكلتْ ووفَّرتْ لنفسِها سمكة. عجبتُ لهذا الاقتصاد.

14

أحداث غريبة حدثتْ لمّا انتعش جسمي من جسم السمكة الطائرة.

انعطف مركبي بسرعةٍ قدّرتُها بالكيلومتر في الساعة (أقل من ميل في س). سار لأربع ساعات على مدار مقوّس حتى القوس الوهمي.
بغثة غمرتني صورة جسد امرأة عار، لكنّني لم أر من عُريِه سوى بطناً مندلقة قليلا. كأنّها بطن حبلى. حاولتُ إعمال خيالي حتى أتبيَّنَ وجه تلك المرأة المائية الحبلى المضطجعة؛ فلم أتعرَّفها.

وجهها بعيد. بعيد عن إداركي. كنتُ أراه؛ لكنّني لم أقدر على إدراكه. كانت تفصلني عنه رقرقاتٌٌ زرقاءَ كطيور ضوئية يلهو بها ماء المحيط.

في ذات الوقت، جاءتْ لويزة تتمسَّح برجليَّ وأنا أرنو واقفاً إلى الأفق لعلَّني أتبيَّنُ ذلك الوجه المستبعد. تمسَّكتْ قليلا ثم انحنتْ لتلعقَ ماءً تبقّى في حنية المركب.

كان صباحاً سعيدا؛ وكنتُ قلقا. وبالرغم من الضياع، فإنّني لم أكن أشعر بالبؤس. على اليابسة كنتُ بئيساً؛ أمّا هنا، فلا.

ماذا كنتُ سأجدُ في إسبانيا؟ الشوارعَ النظيفة الجميلة؟ الناس الأصحّاء المتورِّدي الخدود؟ المقاهيَ الأثيرة؟ أصنافَ المأكولات والمشروبات الشهيّة؟ النساءَ الجميلات المتحررات؟ المسكنَ المريح؟ باقات الورود في كلِّ زاوية؟ المعارضَ والفنون...؟

إن وجدتُ كل هذا فلن يليقَ بي لأنه ليس ملكي وأبداً لن يكون ملكي، لأنني وإن شاركتُ في قليلٍ منه بعرقي، إلا أن الإسبان نالوه بدمهم.

لماذا لا يوجد مثلُ هذا في بلدي؟... في بلادي أمورٌ كثيرة تجعل الحياة فيه صعبة: الجشعُ بنسبة 99% ... الطمعُ بنسبة 98% ...الغشُ بنسبة 97% ...التزويرُ بنسبة 96% ... الزبونية ُ بنسبة 95% ... الفقرُ بنسبة 94% ... الأميّة ُ بنسبة 93% ... التبذيرُ بنسبة 92% ... الفنونُ والآدابُ بنسبة 0.03% ... هذه الأرقامُ... قذرة. هذه الأرقامُ تمنعني من تنشقِ الهواء النقي. أشعر على الدوام بالاختناق. هذه الأرقام حرمتني من أغلى شخص: زوجتي أحلام. بسببها هجرتني إلى طنجة وبسببها ركبتُ المغامرة البحرية...

لا ! لن أستطيع أن أكذبَ على نفسي و أقول:«ما للإسبان فهو لي».

الإسبان بكـَواْ في زمنٍ مّا، وحاربوا مدبّري تلك الأرقام اللعينة وخلطواْ بدمائهم إسمنتَ الديموقراطية الحقة وبنواْ به جنّتَهم.
سأعود بكلِّ تأكيدٍ لأغيرَ تلك الأرقام بكل ما أملك...

انعطف مركبي في دورة الجنونية، فإذا بي على شفيرٍ مائي ثم بعيداً عنه في مركز حفرة مائية.

انزلق مركبي إلى تلك الحُفْرة، ولولا أنني جدّفتُ بقوّة، لابتلعتني. كنتُ أجدِّفُ ولا أتململ من مكاني إلا قليلا وكأنّ َ حبلا قوياً يربطني ببطنها ويجرني إليها.

في نهاية النهار السادس كنتُ ألفتُ الآلامَ والجوعَ وخيالاتِ العطش المدمِّرة. تغييرٌ عميق ٌ طرأ َ على فيسيولوجيَتي... فَلوْ استمرّتْ رحلتي هذه أزمنة عديدة لتحوّلتُ إلى نبتة.

لو أنني خـُيّـِرتُ «أية نبتة تودُّ أن تصيرَ إليها؟» لاخترتُ شجرة الزيتون...

أوراقها الفضية تجلبُ لي السّكينة. ثمارُها الكميث والسوداء والخضراء، وزيتُها الذهبي، تعطيني الإحساسَ بأنني لستُ فقيرا. و فروعُها الحيرى وأغصانُها المتهدّلة، تذكرني دوماً بالأبِ الذي لم أتعرّف عليه في صغري...

كنتُ أجلسُ بسفحِ شجرة الزيتون بالبادية... وأكتبُ على التربة حروفي الأولى... بابا...أمّي... بابٌ... بابا ببابي... وأحسُّ بالفراغ.
عند الغروبِ رأيتُ سماءً حائرة... لا حمراء ولا أرجوانية... تشوبها خيوطٌ بنفسجية فقلتُ للويزة:
 هذا كائنٌ آخر في حيرة!

التزمت لويزة الصمت ولم تردّ َ على استفزازي لها.
 سألتزمُ الصمتَ أنا الآخر.

الكلامُ مضيعةٌ للوقت. الكلام يمنعنا من التفكير الموجب. أعتقد أن نسبة الكلام المجدي لا تتعدّى 5% من كل الهدر الذي نهدره. الكلام المكتوب شيء آخر. ربما تتعدّى نسبة المفيد منه 5% لأن الكاتبَ يكتبُ ـ في الغالب ـ في صمت، ولو أنه كتبَ وهو يتكلّم، لقالَ أشياءَ لا قيمة َ لها... أشياءَ تافهة بكل تأكيد.

في الصمت الذي التزمتُ به ـ بعد أن تأكّد لي أن لويزة لا ترغب كثيرا في الكلام ـ استطعتُ أن أفكر في بلدي و أهلي...
قال لي سائح ياباني ذات مرّة:»لأهل بلدكم ثلاث خصلات غريبات: يزدحمون من دون سبب عند الحافلات والمكاتب (رأيتُ مرّة رجلين يتدافعان عند شبّاك بنكي ولم يكنْ معهما أحد آخر )، يجيبون على أيِّ سؤال يُطرح عليهم وأحياناً يجيبون دونما أن يُطرحَ عليهم أيّ ُ سؤال، و يتكلمون بدون انقطاع».

كم طنّـاً من الكلام الفارغ أنتجنا؟ أنتِ أحسن حالا مني يا لويزة! أنتِ اخترتِ الصمت. نامي ما شئتِ أن تنامي وادعي لي أن أقدر على ممارسة الصمت!

مرّتْ طائرة في السماء الحيرى... في صمت.

على الرغم من أنني أمسكتُ لساني إلا أن لساني الباطني استمرّ َ في التكلّم:
 هل من صالحي أن أصادف مركباً ينقذنا؟ هل كوني لم أصادفه لحدِ الآن مجرد صدفة أم مسألة مخططٌ لها؟...

تنامتْ في داخلي فكرة ٌ حتى إذا ما ازدهرتْ، ضحكتُ:«وما أدراني أن تكونَ المراكبُ التي أتوقّع منها إنقاذي، تتوقّعُ هي من مركبي إنقاذها؟»
 أليس كذلك يا لويزة؟ إذا كنتِ تغرقين، هل تستنجدين بغرقى آخرين؟ أجيبيني بصراحة يا أحكمَ كلبة صادفتها في حياتي!
 لا! بكل تأكيد!
 والآن، تلفـّعي بالليل وأصغي إلى همسِ المُوَيْجات! ولا تحاولي أن تفهمي شيئا! فلا جدوى إطلاقاً من الفهم، وإلا، فاستمعي إلى لغطِ الأمعاء! ... هذا اللغطُ الذي لا يكفّ ُ أبدا. استمعي إلى ضبيحِ المعدة وعواءَ الأمعاء، ولا تردّي شيئا إذ ليس لنا لهذه الغيلان أكل!
 ....
 كم طنّاً من الأزبال التهمتْ؟

إنها لا تقنع أبدا.
 ...

 .... نامي الآن!

15

في عمق الليل، شعرتُ بالحاجة... قضيتها... شيئا قليلا... في نهايته... قضتْ لويزة... شيئا لا يُذكر...
في قلب الليل، تذكّرتُ قولة يرددها الناس عندما يريدون رفعَ مِزاج ِ الأشخاص الأرقين (أو على العكس) عندما يبيِّتون نيّةَ لحس ِ مزاجهم. يقولون:«كل القطط سوداء في الليل». لم يكنْ مِزاجي عكِراً حتى أتذكّر هذه القولة التي يعنون بها الأفكار السلبية، وإنّما جاءتني الذكرى هكذا... بسبب الليل المخيّم على الفضاء بكامله... وأية أفكار سلبية يمكن لها أن تطالَني بعد كل ما جرى لي؟
الناسُ يأرقون خوفاً من الفقر... من فقدان العمل... من فقدان الحبيب... من أن يخرجهم أحدٌ من بيوتهم و يشرّدهم (فالبيوت ليست مجرّد مساكن؛ هي ملاجئ أيضاً)... من الليل المخيّم على الفضاء كلِّه... من الموت... أنا، تحرّرتُ من الخوف. لم أعدْ أخاف بعد هذه المغامرة.

يخافُ الناسُ لأنهم لا يعرفون ماذا ينتظرهم. لو عرفوا ما خافوا. أنا أعرف ماذا ينتظرني: فإمّا أن يقتلني العطش والجوع، أو ينقلب مركبي فتلتهمني الأسماك..وإمّا أن أنجو. باختصار:... إمّا أن أموت أو أعيش.

ما بعد الموت وما بعد العيش لا يهمُّني البتة لأنني إن مِتّ ُ سأموتُ عارياً، وإن عِشتُ سأعيش عاريا... عارياً حتى من الذنوب.
أنا لا أخاف! من يخافُ هو هذا الجسدُ الأخرق.

16

في صباح اليوم السابع كنتُ حسمتُ نهائياً سؤالَ «هل أجدِّفْ أم لا؟»

هل تستطيعُ أن تقاومَ تياراً أحمق لا يعرف بالضبط إلى أين يسير؟ : شمال ـ جنوب/ جنوب ـ شرق ـ غرب، ومرّة أخرى جنوب الشرق...؟ أنا الآخر لم أعرف إلى أين أسيرُ وفي أيِّ مكانٍ أستقر.

تنقلتُ من مدن وقرى عديدة ولم أستطعْ أن أجدَ السكينة في أيٍّ منها. كانت المدن والقرى تمرِّغني دوماً في الحضيض. حوالة ضحلة. أضطرّ ُ للسكن في الأحياء الفقيرة... ياه! ما أظلمَ الفقراء للفقراء!

أخجل أن أتذكّرَ الوعود الكاذبة التي كنتُ أعد بها أحلام.

لم أكن لأستطيعَ تحقيقَ أدناها. أفهمُ أحلام حينما هجرتني إلى طنجة. هربتْ من شبح الفقر كما تهرب الأسماك الطائرة من شبح الدلفين. أتمنّى ألا تكونَ قد فشلتْ في حوضِ حمام فيلتهمُها ملتهم.

صدمتْ نفسي رائحة عانتها؛ وفي الأفق، تراءتْ لي غابةٌ مزدهرة حولها رذاذ ُ ألوان صفراء وبرتقالية... سحابات من حبوب لقاح.
كنتُ رأيتُ مثل هذا المشهد في الرّيف.

لاحتِ الجزيرة ُ على شكل مثلّث أخضر وزرقة المياه تتخللها متراقصة كما مويجات غرّة.
 اليابسة! ... اليابسة! ... إلى الميمنة...! صحتُ كما يصيح النوتي.

لكن لويزة لم تأبهْ إلى ضجّتي.

اندفعتُ أجدّف ناسياً القرار الذي أخذتُ (ألا أجدّف)؛«إنه الجسد... دوماً الجسد» قلتُ بصوتٍ مسموع.

جدّفتُ باتجاه اليابسة، وعندما اقتربتُ منها، فجّرتْ أشعة الشمس جزيرتي.
 ... سراب! ـ برّرتُ للويزة ـ لو لم أشمّ َ رائحة عانة أحلام، لما اندفعتُ تلك الاندفاعة الغبية.

بقيتْ سمكتان. أرى أن بؤبؤيهما ابيضّا وسال خيطٌ أخضر من فتحة في بطنيْهما. سريعاً شرعتا تتفسّخان.
 كم هربتما من الأنياب أيتها السمكتان السيِّئتا الحظ! كم طِرْتـُما في السماء دون جدوى! فكان الفشلُ هو نهايتُكما. هل فكّرتُما مرّة أن لا طائلَ من الهروب باتجاه السماء؟ وأنكما لو قاومتما العدُوّ، إمّا أن تنتصرا أو تستشهدا فتخلدا؟....

كانت الشمس قد اتّقدَتْ ودنتْ منّي حتى مزّقتْ سياطُها النارية جلدي وأبْلَتْ ثيابي وطبخت دمي.

كرهتُ الشمسَ في تلك الساعة.

حتى الماء الذي كان في حنية المركب تعفـّنَ وظهرتْ عُفونة جديدة على رجليَّ: بثور صفراوات تنبعث منها رائحة الكبريت. وعلى الرغم من تعفـّن ِ الماء، شربتُ منه قليلا ورششتُ بقليل لويزة منه.

همس لي صوتٌ:«ستصبحُ رجلا حقيقياً بعد هذه المغامرة» فغضبتُ.
 ماذا يعني أن أصبحَ رجلا حقيقيا؟ هل الضياعُ وأكلُ العفن وشربُ التلوّث والاكتساءُ بالبثور والعيشُ على الأحلام والأوهام، هو ما يجعل الرجل رجلا حقيقيا؟

...
 أنا لا أريدُ أن أكونَ رجلا حقيقياً. كل ما أريد هو أن أكونَ إنساناً بمعنى الكلمة، ولو سألوني :«اطلبْ ما تريد أيها السعيد!» لطلبتُ أن تعودَ لويزة لمخاطبتي.

أكلتُ سمكتي بعد أن سلختها (بسهولة هذه المرّة). وتمدّدتُ في الحنية أرقبُ تارة ً لؤمَ الشمس وهي تتلوّنُ بألوان الهدنة المؤقّتة، وتارة ً أخرى أرقبُ دفْقَ السعادة في عينيّ ْ لويزة و هي تلتهم سمكتها.

دقّتْ «سون لا كوارتوس دي لا تاردي».

عند البيـﭗْ الرابعة، انقذف مركبي بقوّة حتى كدنا نسقط أنا ولويزة. ثم ضربة أخرى، فهدوءٌ، ثم ثالثة أكثر قوّة...

نظرتُ إلى الجانب فرأيتُ سمكاً كبيراً يحاول قلبَ المركب. تحمّستْ لويزة ووقفتْ على مقدّمة المركب ونبحتْ كالمسعورة.

خشيتُ عليها أن تسقط مباشرة في فمِ وحشِ البحر. و استعددتُ لمعركة خطيرة. شددتُ قائمة لويزة الخلفية بطرف الحبل الذي كان يدعم سلك المحرِّك إلى العارضة، وأمسكتُ بالمجداف، وترقّبتُ الوحش.

لم أر من الوحش سوى زعنفة في شكل مقصلة تـُأرِّب الماء. كانت تنسابُ فيه بكل رقـّةٍ وجمالٍ بيد أنها كانتْ رهيبة. إنه قِرشٌ أزرق ضخمٌ بِطولِ رجل.

تقدّم مرّة أخرى وضرب بطن المركب، فهويْتُ عليه بالمجداف عدّة ضربات.

العنيدُ تراجعَ ثم عاد للقتال. لويزة تعضّ ُ بطنَ المركب في جنون. ضربة أخرى قويّة جدّاً جعلتِ المركبَ يميل حتى غمره الماء. كنّا على وشك الغرق، وهذا لم يكنْ ليخيفَنا؛ وإنّما خشينا أن ننتهي في جوف القرش. كانتْ ستكونُ ميتة ً مضحكة؛ وليس لدينا حتى من يشمتُ بنا أو ينقل أخبارنا.
 خذْ هذه... و هذه يا وحش!

كنتُ أضربه بعصبية فثار وانقذف من الماء وعضّ َ على المجداف ليقضمه بسهولة (تماماً كما يقضم البسكويت). لن أنسى فكّـَه... صفوفاً من الأسنان المسنّنة الرهيبة، وعينه النائمة على الغدر.

رميتُه بما تبقّى في يدي من المجداف إلى عينه، فتلوّى في الحين.

استمرَّ القتالُ ساعة بكاملها حتى خُيِّلَ لي إنّما الوحش ُ يلهو بي، وأنّه لا نيّة َ له في قتلي... على الأقل حتى الساعة... كان يلهو بي أو ـ ربّما ـ كان يصرف وقته معي بهذه الطريقة في انتظار موعدٍ مع قروش أخرى... ولغرضٍ آخر.

سحبتُ حزامي. لففتُ طرَفـهُ حولَ يدي وأخذتُ أصوِّتُ الماء بالطرف المسلّح بالإبزيم...

17

كنتُ أصارع الوحشَ والكلامُ الإسباني المنبعث من الإذاعة في تدفقه الغزير، وفي تلاطمه، جعلني أشعر بأنّ قتاليَ للوحش إنما يحدث في بحر من الكلام.

عند إشارة أخبار الخامسة، كان القرش انفتل على جنبه وتراجع، ثم توجّه نحو الأفق مخلِّفاً خيطاً من الدم الأسود.

في تلك الفترة، تحدَّثت الأخبار عن بداية محاكمة كلينتون في قضية بقعة المنيّ التي تركها على كسوة مونيكا/السكرتيرة الزرقاء وحنـَتِهِ باليمين و عرقلة سيْر العدالة...

عاودتني نوْبَة ُ العطش المؤلم؛ وتراءتْ لي خيالاتٌ عجيبة في الأفق: طيور على شكل أسماك، أو العكس. أرجوانية. يمزقها سرابٌ أحمر متلألئ في خيوط الشمس الغاربة. وتناثرت تلك الأشكالُ في سماء المغيب الآزوردية، مخلِّفة أشكالاً خطِّية... استطعتُ أن أقرأ: قصة... معلم... انحرف... مركبه...
ــ أحدٌ مّا يكتبُ قصّتي في السماء. قلتُ للويزة.

في الليل، أعدْتُ شريطَ قتالي مع وحش البحر. شيءٌ مّا غير عادي في الشريط. حدْسي يخبرُني بأنّ الوحش َ على بيِّنة ٍ مِمّا يفعل. كان يريد ما حدث بالفعل. لم يكن غرضُه قتلي. تساءلتُ:«هل يكون وحشاً حقيقياً أمْ أنه وهْم؟»

يُقال إنّ البحرَ تسكنه كائناتٌ خرافية وأخرى مثلنا، لها القدرة ُ على التفكيرِ والإيذاءِ المقصود... هل يكون الوحش ُ الذي قاتلتُ واحداً منها.

هبّ َ ريح ٌ دافئ جعلني أشعر بالخدر والطمأنينة والارتخاء. كنتُ سعيداً في تلك اللحظة. ارتخيْتُ كليّاً وتركتُ نفسي أنسابُ في عالمِ الأحلام.

توقعتُ أن أحلم حلماً جميلا، لكن ما حصل هو العكس: كنتُ في سجن من سجون القرون الوسطى من نوع السجون المهجورة المظلمة الرطبة، ورجلايّ َ مصفدتيْن بأصفاد صدئة، كانتا تؤلمانني ألماً لا يُطاق... لم يكنْ هناك لا سجّانٌ و لا جلاد... كنتُ في سجنٍ مهجور ولم يكنْ لديّ َ أدنى فكرة عن سبب سجني.

في الصباح، اكتشفتُ أن رجلي متورِّطة بين خشبتيْ جنـْب المركب وعارضة. متورِّمة وتؤلمني كثيرا. فرِحتُ. أن أتألّمَ هذا يعني أنني بخير. لا زالت أعصابي تشتغل جيِّدا. أحسستُ بشيء من الانتعاش بسبب ضباب كثيف يلفّ ُ المكان... تلمّظْتُ الضباب وقلتُ للويزة:
 كُلي! كُلي هذا الضبابَ و انتعشي به!

نبحت. تحسستُ مكانَها وفككتُ قيدَها.

بدا المكانُ الآن كقطعةٍ من واقع ٍ خرافي. كصورة من مغامرات عوليس. الضباب المحيطُ بنا... أنا ولويزة مجرّد وجود ٍ مُبْهم.
إحساسي بأنني ولويزة لسْنا سوى أرواحاً موجودة بشكل مبهم، جعلني أشعر بالسعادة المطلقة، امتزجَ في خاطري إحساسان: إحساسٌ بالتحرّر من كل الرغبات ومن كل الأخواف، وإحساسٌ بالندم لكوني تمنّيْتُ بالأمس أن أحلم حلماً جميلا، ولكوني تخيلتُ الضبابَ كقطعة جبن أبيض... قلتُ في نفسي:«إنه الجسدُ! دوماً الجسدُ الذي يجلب لنا الأفكارَ السالبة».
 لنستمتعْ بهذا الجوّ الرائع ! ـ قلت لها ـ المستغنون يطلبون قمم الجبال... يمارسون التزلّج... يركبون البحر لأجل أن يتبرنزَ جلدهم... يدقون خيمات المتعة في الغابات... يأكلون الأكل الشهي... يشربون الخمور المعتّقة... المستغنون يلبسون الملابس الفاخرة ويتلذذون بالفتيات الجميلات... ونحن: أنا وأنتِ غنيان بوحدتنا في هذا المحيط... ليس لنا مال ومع ذلك نشعر بالسعادة المطلقة، وهذا ما لا يستطيع إدراكَه المستغنون.

تلاشى الضبابُ وتبدّدت حبّاتُه المائية شيئاً فشيئا. استطعت أن أسمع هدير الموج ورجْعَ صداه، فعلمتُ أن اليابسة ليست بعيدة.
اليابسة... اليابسة بالنسبة لي كالتربة العقيمة، لا تسمح أبداً لبذور النبتة المثمرة أن تنمو وتثمر. أنا تلك البذرة التي لم تسمح لها اليابسة أن تنمو وتثمر. حاولتُ أن أكون شخصا ذا قيمة في اليابسة لكنها كانت دوماً تردّني إلى التفاهة.

كان لي طموحٌ لكنّ اليابسة بدّدته. كنت أحلم بأن أصير طبيباً لأعالج الفقراء... لأعالج والدتي، لكن اليابسة لم تُرِدْ لي ذلك.
رغبتُ في امتلاك بيتٍ يليق بزوجتي أحلام فلم تسمحْ لي اليابسة به.

أنجبتُ طفلة فماتتْ بسبب امتناع اليابسة عن علاجها... كان يكفي لطفلتي عملية ٌ جراحية لصمّام القلب من نوع العمليات التي يجريها المستغنون على أهلهم فيشفون من مرض القلب ويكبرون ويشتغلون في المناصب الرفيعة ويستغنون بدورهم وينجبون أطفالا أصحّاء.

اليابسة هي المستغنون... وهي أيضاً المفقَّرون.

وهي كذلك خروجي من هذا البحر ومشيتي على الرمل وتوقّـفي على شمش. أذكر صورة جسدها المفروغ في الشمع أبيض باردا على الرغم من حرارة الجوّ. كنتُ خرجتُ من البحر وتوجّهتُ على الرمل المحرق إلى المكان الذي وضعتُ فيه جرابي ومنشفتي، فرأيتها. شمش الطالبة اليهودية زميلتي في الدراسة، ذات الرائحة الثومية، ابتسمتْ لي بعينيها الخضراوين و قالت:
 نستفيد من لحظات المتعة؟ قالتها على الطريقة الفرنسية. لم أردّ. خفضتُ رأسي خجلا. كنتُ حلقتُ شاربي وشعرتُ بأنني عار ٍ أمامها من دون الشارب.
 أ بْيانْ طّو! قالت وهي تبتسم.
 أ بيان طو! قلتُ وقد وقعتْ عينايّ على ساقيْها المشمّعيْن.

كانا ساقيْن ِ شبه شفّافيْن حتى خُيِّل لي أنني رأيتُ شرايينها البنفسجية. وأوردتها الزرقاء وعظامَها العاجية وزغبها الشديد السواد.
لم تحدث فيَ رؤيةُ شمش عارية أية رغبة جنسية، ولكنني تمنّيتُ أن ألامسَ ذينك الساقين العاجيين لأجل أن أتبيّن أنهما حقيقيان فقط.
انحسر الضباب حولي وظلّ َ يحجب عني رؤية الأفق. لويزة ممدّدة وقليلة الحركة. المسكينة كابدتْ خلال هذه المغامرة أكثر ممّا تستطيع كلبة أن تتحمله. عندما سنبلغ اليابسة، سأحوّلها إلى جنّة.

أعرف أنني أفقر ممّا كنت من الناحية المادية، فبالمال القليل الذي وفّرتُ، رمّمتُ مركب صديقي كريم وأصلحتُ المحرّك وحوّلتُ بعضاً من المال إلى البسّيطة الإسبانية... لكن قلبي امتلأ بقوّة لم أعدْها له. بهذه القوّة التي في قلبي سأجعل من اليابسة جنّة رحيمة بالنسبة للويزة وأمثالي.

لاحَ وحش ٌ في الضباب الأفقي. بعين ٍ وحيدة... عين مضيئة كعين السّيكلوپ. وتناهى إلى سمعي صوتُ الزئير. شيئاً فشيئا بانتْ لي معالمُ ذلك الوحش... لم يكنْ سوى قارباً به ما يقرب من ثلاثين شخصاً وفي مقدّمتِه مصباح.

صحتُ (صاح الجسد):
 أنا هنا! فشعرتُ بالخجل لكوني طلبتُ النجدة.

مال القاربُ جهتي.
 لقد تِهتُ في المحيط... وكلبتي مريضة...

خمدَ صوتُ محرّك القارب وشارفَ مركبي وعلا صوتٌ:
 ماذا تفعل هنا؟... من أنتْ؟
 لقد انحرف مركبي... أنا منهك جدّاً... هل أجد عندكم ما...؟
 خذ!

فارتطمتْ صفيحة بحنية المركب، ثم رزمة... وأحسستُ بالدّوار.
 شكراً! ... هل أنتم صيّادو سمك؟
 هذا لا يهمّك! قال الصوتُ بعصبية، ثم فرقع المحرّك.
 نحنُ «حارﮔـِون» إلى إسبانيا! قال صوتٌ مخالف ٌ للصّوت الأول.

حارقون؟ قلتُ لنفسي:«لم أكن الواهمَ الوحيدَ، هولاء واهمون أكثر منّي؛ وليس للواحد منهم حتى كلبة وفيّة تسعفه إن هو ضلّ».
تناولتُ الصفيحة. بالكاد استطعتُ أن أفتحَ سدّادَتها اللولبية؛ وشربتُ قليلا من الماء.

كان ماءً مُرّاً به نكهة بنزين. الظاهر أن الذي عبّأ الصفيحة لم يغسلها جيّدا من البنزين الذي كان فيها ـ طبعاً ـ كان مستعجلا.
فتحتُ الرزمة الصغيرة فوجدتُ فيها نصف خبزة كبيرة بها دجاجٌ محمّر وبطاطس وزيتون. الخبزة مصنوعة من دقيق القمح. صنعتْها يدُ أمّ ٍ أو أخت ٍ وزوّدتْ بها ابنها أو أخاها ودعتْ له بالنجاح. وهل ينجحُ من يركبُ البحرَ بحثاً عن السعادة في أرض ٍ غريبة؟
شعرتُ بحزن عميق. آلمتني صورة القارب وهو يتبدّدُ في الضباب. آلمني ذلك الصوتُ الصغير [نحن «حارِگون»] قال الصوتُ بنبرة الأمل. تذكّرتُ والدتي. كانتْ تراوغ ُ المرض. مع أنّها مريضة مرض َ الموت. قالت:«ارحلْ إلى تلك المدينة و عِش ْ حياتَك مع أحلام فهي ابنة حلال، وطيِّبْ خاطِرَها فهيَ... ابنة عِزّ... ولا تشغل بالَك بصحّتي، فأنا بخير! ...»

قضمتُ عضّة ً من الخبز. صعُبَ عليّ َ أن ألوكَه. ثمانية أيّام من الضياع أنستني كيف يُلاكُ الخبز.

ناولتُ لويزة قطعة دجاج. كانت المسكينة غارقة في النوم، ولم أشأ ْ أن أوقظها.

نصف ساعة بعد تناولي وجبة الغذاء، شعرتُ بدوخة حُلوة، فتمدّدتُ على ظهري وتركتني أغفو.

18

في الليل، شعرتُ بالحنين إلى اليابسة. وانتابني مللٌ مفاجئ وإحساسٌ رهيبٌ بالوحدة؛ فبكيتُ في صمت و أنا أتابع منظر النجوم وهي تتلألأ على التوالي في سماءٍ صافية وكأنها حُباحب تستيقظ في ليلة من ليالي الصيف الدافئة.

صباحُ يومي التاسع (وكما توقّعتُ) مشمسٌ وصفحة ُ الماء لُجيْنٌ والمويْجاتُ الصغيرة تذكّرني بزغب ساقيّ ْ شمش. لكلِّ مُويْجة ٍ وجهان: أسود ولُجيْن.

بالأمس حلمتُ حلماً خاطفا: كنتُ أجري في الماء، وفي نهاية الجري، وجدتُ أمّي وزوجة خالي وأحلام وهي طفلة. نظرتُ إلى أمّي فألفيتُها مبتسمة. و إلى زوجة خالي فرأيتُها عابسة.

و نظرتُ إلى " أحلام " فحنتْ رأسَها من الخجل و ساقاها بادِيان بيضاوان لكن ليس في بياض ساقيّ ْ شمش.

تفقّدتُ لويزة، فوجدتها متصلّبة. وضعتُ يدي عليها. باردة. ململتُها فلم تتململْ. رججتها ولم تُبْدِ أية حركة. قد غادرتْ لويزة. ماتتْ صديقتي الوفية ولم أمتْ أنا. أنا من كان ينبغي عليه أن يموت وليس لويزة.

استعصَتِ الدموعُ في عينيّ َ فزادَ تألّـُمي لموتِ صديقتي. نظرتُ إلى جلدي الذي صار في مثل النحاس الصدئ. كله بثورٌ وتقرّحات. خمج. تجاعيد. بقع صفراء متقيِّحة. شيبٌ في زغب صدري. ألمُ نفْطات ٍ في عينيّ. تشققّ ٌ في اللسان والشفاه...

أنا من ينبغي أن يموت. لقد تفسّختُ دون أن أموت وإنها لحالٌ فظيعة! ...
ــ لن ألقِ بكِ في البحر يا صديقتي الوفية. سأعود بكِ إلى اليابسة. سأردّك إلى التراب الذي أنتِ منه... وعندما يشاءُ الموتُ أن يأخذني، سوف أدفِنُ نفسي بجوارك.

قلتُ هذا ومزّقتُ قطعة ً من قميصي وغطّيتُ بها لويزة.
 الآن صار لزاماً عليّ َ أن أجدِّف... سأفعلُ هذا ولو بيديّ.

عندما حلّ َ الليلُ كنتُ رجلا آخر... رجلا أمسى يحِنّ ُ إلى رائحة التراب... رجلا يزدادُ حنينه إلى التراب كلّما تأكّدَ له أن التجديف من دون مجداف لا جدوى منه... وأنّ َ التجديف في الوقت الذي يجرف تيّارٌ قويّ ٌ مركبَه، عملٌ في غاية العبث.
اليوم العاشر من التـّيهِ في المحيط.

سِربٌ من طيور النورس ترقص الباليه في السماء. أشكالها ثلاثية الرؤوس. رؤوس بيضاء وسوداء ذكّرتني بالمُوَيـْجات التي رأيتُ في أحدِ نهارات المحيط كما ذكّرتني بزغب ساقيّ ْ شمش.

كانت تحومُ بطريقة جميلة وكأنها طيورٌ تفكِّر في أن تحُطّ َ على جثة. أنا كنتُ جثة... حيّة. لويزة كانتْ روحاً. مجسمة. حيّة. طيور النورس يتغنّي بها الشعراء، أمّا هذه التي فوق رأسي فهيَ تحوم بشكلٍ مخيف... قد تهجم عليّ َ فجأة و تنهش جثتي المبعثرة في حنية المركب... شكلُها الراقص يوحي لي بذلك. إنها تـُموِّه. إنها تمكُر.

19

صدى ضجيج اليابسة تشكّلَ في السماء كخيوط سُحُبية متداخلة مع ضياءات مبهمة.

كانتْ عناصرُ السماء منسجمة مع بعضِها. كلّـُها تعِدُ بالأذى. كلها تتأهّبُ للالتهام الضحايا... نحن من كان الضحايا: لويزة.. وأنا.
من بعيدٍ لاحَ في السماء طير نورس كما أرتنيه عينايّ المريضتان...كان طائرة مروحية فصارتْ تتضخّم وتتضخم. قرأتُ على بطنِها بعض َ الأحرف. ركّبتُها بصعوبة: إرْ. تي. أوْ. في...

في جوف الطائرة خيالُ امرأة ذات شعر أسود غزير.كانتْ تمسك بشيء وكانتْ توجّه ذلك الشيء إلى مركبنا.

اقتربتِ المروحيةُ أكثر فأكثر حتى أحدثت زوبعة ً من رذاذ ماء البحر. ودار مركبُنا في مكانه... المرأة ُ كانتْ تُصوّرنا بكاميرا.

هَوتْ حتى اعتقدتُ أنها وحش ٌ يريد أن يلتهِمَنا، ثم تصاعدتْ في السماء ودارتْ حولَ مركبِنا دورة أخرى ثم انصرفتْ جهة الأفق؛ وتصاغرتْ حتى لم أعُدْ أرَ منها شيئا.

رفضتُ أن أفكِّرَ في أمر هذه الطائرة القناصة.

ثم أفاق َ رذاذ ُ الماء المالح آلامَ جلدي وأشعل في َ الرغبة َ في شرب الماء.

كنتُ أعرف أنني قريبٌ من اليابسة. لم أرَ أية تضاريس من تضاريسها؛ ومركبي يسير ببطء؛ وأنا منهَك، لذا علمتُ أن بلوغها لن يتمّ َ قبل يوم الغد مساءً على الأرجح.

عندما حلّـَتِ المروحية، بدّدت طيور النورس. وحش طائر يبدّدُ وحوشا طائرة لأجل نهشِ جثة...

في الليل شعرتُ بأن سرعة انزلاق مركبنا زادت، وتناهى إلى سمعي هدير الموج...
 قريباً سنخلد إلى الراحة. قلتُ لروح لويزة. فرأيتُها تستفيق وتقفز إليّ َ وتلحس وجهي.

لبضع ثوانٍ فعلتْ هذا، ثم عادتْ لنومتها الأبدية.

كنتُ على مشارف اليابسة. وعلى مشارف الجنون. ولم أكن خائفاً لا من الأولى ولا من الثاني.

قلت:«ما الجنون سوى حياة بشكل آخر».

يومي الحادي عشر من التيه. عند حدود الساعة التي تبدأ فيها الشمسُ بتحريض أشعّتِها على الضعاف من الناس (الجثث)، عادت لي الرغبات، فتخيلتُ نفسي معافى في فراش أثيرٍ وبجانبي صورة ُ امرأة.

لم تكن أية صورة من النساء اللواتي عرفتهن. كانت امرأة من دون وجه. في تنورة وردية. وكانت تناولني كوباً كبيراً مليئاً بشرابٍ ذهبي. شراب وجدته بارداً ولذيذاً في فمي. وناولتني فاكهة من فمها، فامتلأتْ عينايّ بصور الأزهار الزاهية، ورأيتُ لويزة بينها خفيفة كالفراشة.

نظرتُ إلى لويزة أمامي، فألفيتُها ميّتة ً بالفعل. وقلتُ لها:
 هذه الرغباتُ من مخلّفات ثمان وعشرين سنة من التمنّي. إنها بقيّة عهدٍ غير ِ مرغوبٍ فيه... إنه الجسد الأخرق مرّة أخرى.

20

اليوم الرابع من أيام تيهي في المحيط هو أجمل أيّامي. فكّرت. لم أكن أرغب في أن أحيا مثل هذا اليوم، وإنما سرّني أن أظلّ َ بين أيّام تيهي وأعلن عن أجملِها: القرشان الأبيضان المتقافزان من نفس المكان المائي وكأنهما نهْدا كاعبٍ يظهران ويختفيان عبر فتحة تنّورتها.
كنتُ سعيداً رغماً عن العذابات. وحتى موتُ صديقتي لويزة قد أسعدني في النهاية. ماتتْ لتحيى في قلبي... لتكلِّمَني إلى الأبد.
و أخيراً ظهرتْ تضاريسُ اليابسة و لاحَ مركبُ صيْدٍ صغير...

كنتُ أسيرُ إليه وهو الآخر يسيرُ إليّ. اقتربَ أكثر. وقفتُ بصعوبة. كنتُ أترنّح وعلى وشـَكِ السقوط... مغميّ عليّ...

مزقتُ قطعة ممّا تبقى من قميصي ولوَّحتُ به بحركات واهنة. فاقتربَ الصياد من مركبي.

كان رجلا عجوزا نحاسي َ الجلد، غير معتمر. اقتربَ أكثر وصاح:
 يا هذا! ... أنا أعرفُ هذه السحنة لأنني خبرتها... إنك مِمّن ضلّواْ في المحيط... انتظر! سوف أسعفك...

نظرتُ إلى الرجل العجوز نظرة نافذة إلى وجهه وعينيْه... خدوش كثيرة مزّقت وجهه، وجفنان متدليّان أعطيا لعينيْه شكل عيون الأسماك.

أنا الآخر صار لي مثلُ هاتين العينين. أنا الآخر لي وجهٌ مزّقتـْهُ مخالبُُ الشمس... قلتُ للعجوز:
ــ أحدَ عشرة يوماً... تِهنا في المحيط... أنا وكلبتي هذه.

ربطَ العجوز مركبي إلى مركبِه بحبل وناولني جرعة ماء وقال:
 لا تتكلّم بعدَ الآن حتى يسترجِعَ الجسدُ قوّتَه.
 أين نحن؟
 أنتَ في مياه فْضالة...
 أتسمعين يا عزيزتي؟... مدينة فضالة! يا لها من مرفأ جميل! ... قد نجوْنا من خداعات البحر... من وعودِه... من شرورِه... ها هي ذي أرضٌ طيِّبة تلوحُ لنا بالأفق، وفيها سنحيى حياة الكرامة... أليستِ هي أرضاً كريمة؟ أ ليس كذلك يا لويزتي؟ أ ليس كذلك؟...

تلك كانتْ أسئلتي قبل خروجي من المحيط...

إهداء

إلى
كلّ من دفعه
القهر أو القلق الوجودي إلى التفكير في الهجرة
واقترافها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى