الأحد ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
رُؤى ثقافيّة
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

العربيّة في عصر الفضاء المفتوح!

روى (ابن جنّيّ)(1) قال: "حدَّثني المتنبي، شاعرنا- وما علمتُه إلّا صادقًا- قال:

ــ كنتُ عند منصرَفي من مِصْر في جماعةٍ من العرب، وأحدهم يتحدَّث. فذَكَرَ في كلامة فلاةً واسعةً، فقال:

ــ يَحِيْرُ فيها الطَّرْف...

قال: وآخَر منهم يلقِّنه سِرًّا من الجماعة، بينه وبينه، فيقول له:

ــ يحار.. يحار...

أفلا ترى هداية بعضهم لبعض، وتنبيهه إيّاه إلى الصواب؟!"

كما أورد المؤلِّف نفسه: "سألتُ [أعرابيًّا] يومًا:

ــ كيف تجع (دُكّانًا)؟

ــ فقال: دكاكين.

ــ قلتُ: فسِرحانًا؟

ــ قال: سراحين.

ــ قلتُ: فقُرطانًا؟

ــ قال: قَراطين.

ــ قلتُ: فعثمان؟

ــ قال: عثمانون!

ــ قلتُ: هلّا قلتَ أيضًا: عثامين؟

ــ قال: "أَيْش عثامين؟! أرأيت إنسانًا يتكلَّم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبدًا"."(2)

وكذا روى، في ما يتعلّق بالإعراب، فقال:

"سألتُ [الأعرابيَّ المشار إليه آنفًا]، يومًا، فقلتُ:

ــ "يا أبا عبدالله، كيف تقول ضربت أخاك"؟

ــ فقال: "كذاك".

ــ فقلتُ: "أفتقول ضربت أخوك؟"

ــ فقال: "لا أقول أخوك أبدًا".

ــ قلتُ: "فكيف تقول: ضربني أخوك؟"

ــ فقال: "كذاك".

ــ قلتُ: "ألستَ زعمتَ أنك لا تقول أخوك أبدًا؟"

ــ فقال: "إيش ذا؟! اختلفتْ جهتا الكلام!"

فهل هذا في معناه إلّا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلًا، وإنْ لم يكن بهذا اللفظ البتَّة، فإنّه هو لا محالة."(3)

وفي هذه الروايات شواهد على أن اللغة العربيّة كانت سليقةً لدى العرب، إلى قرون إسلاميّة متأخِّرة، وكانوا لا يُطيقون ما نَبَا عن نظامها. وما كان استثقالهم لصنعة النحاة إلّا لسببين، فيما يبدو، لقسرهم اللهجات العربيّة الفصيحة على ما قَعَّدوه من قواعد، ولمصطلحاتهم التي لا يفقهها الناس. من نحو ما رُوي عن (عمرو الكلبي) أنه أنشد:

بانت نعيمةُ والدنيا مفرِّقةٌ
وحالَ مِن دونها غَيْرانُ مَزعوجُ

فقيل له: لا يقال "مزعوج"، إنما يقال "مُزْعَج"! فامتعض، وقال يهجو النحويين:

ماذا لقينا من المستعربين ومِن
قياسِ نحوهمُ هذا الذي ابتدعوا
إنْ قلتُ قافيةً بِكْرًا يكونُ بها
بيتٌ خلافَ الذي قاسُوه أو ذَرعوا
قالوا لحَنْتَ وهذا ليس منتصِبًا
وذاك خَفْضٌ، وهذا ليس يَرتفِعُ
وحَرَّضوا بين عبدِ اللهِ مِن حُمُقٍ
وبين زَيْدٍ فطالَ الضربُ والوَجعُ
كم بين قومٍ قد احتالوا لمَنْطِقِهم
وبين قومٍ على إعرابِهم طُبِعوا
ما كلُّ قوليَ مشروحًا لكمْ، فخُذوا
ما تَعرِفونَ، وما لم تعرفوا فَدَعُوا
لأنّ أرضيَ أرضٌ لا تُشَبُّ بها
نارُ المَجُوْسِ ولا تُبْنَي بها البِيَعُ(4)

غير أنها بدأت الحكاية مع انتشار العامّيّة منذ القرن السابع الهجريّ، وخلال تلك الفترة من حياة الثقافة العربيّة التي سُمّيت بعصور الانحطاط. وهو انحطاطُ حُكْمٍ، ومجتمعٍ، وثقافةٍ، ولغةٍ، ووعيٍ، وحضارة. ولقد بدأت الحكاية مع العامّيّة (شِعريّة)، ثم أصبحت (شِعريّة إعلاميّة). ولا ننسى أن الشعراء ظلّوا يتبعون غواية الارتزاق والشهرة والجماهيريّة والشعبيّة، أينما وجدتْ، وبأي ثمن جاءت، ولاسيما حينما لا يعصمهم وعيُهم الثقافيّ أو ضميرُهم المعرفيّ عن التردِّي في أتون الهاوية الابتذاليّة. على أن خطورة الأدب العامِّي تزداد اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، لأدوات نشره التي لم يسبق لها مثيل؛ لأنه يُكتب على نطاق واسع، ويَحتفي به الإعلام المسموع والمرئيّ والمقروء أيّما احتفاء. ثم أخذت تحتفي به في السنوات الأخيرة المدارسُ والجامعاتُ أيضًا، وجعل ينافس العربيّة الفصحى على شتَّى المنابر. وما من أدبٍ تحوّل إلى لغةٍ مكتوبة إلاّ كان ذلك إرهاصًا بتحوّل لهجته إلى لغةٍ منفصلةٍ قائمة بذاتها. وهل وُلدت اللغات الأوربيّة، مثلاً، إلاّ من رحِم عامّياتٍ، كوَّنتْ لها آداباً مكتوبة، ومن ثَمَّ أضحتْ لغاتٍ انفصاليّة رسميّة، ذاتَ تراثاتٍ مستقلّة؟! ولذا، فإن خطورة نشر اللهجات العامّيّة ودعمها الإعلاميّ تتجاوز القضية اللغويّة البحتة إلى قضايا الوحدة الوطنيّة، واللُّحمة القوميّة، والرابطة العالميّة للناطقين بالعربيّة. والتيار العاميّ لدينا الآن ممعنٌ في السير بلا هوادة ضدّ تلك المبادئ، جملةً وتفصيلاً؛ فهناك المجلاّت، والصحف، والكتب، والدواوين، التي يغرق السوق اليوم في طوفانها، ولها حظوةٌ عالية جدًّا في الطباعة والنشر والتوزيع، لما تُدرّه على منتجيها من مردود، هو حاصل جمع ما يتمتّع به المجتمع العربيّ من مستوى تعليميّ، وحنينٍ أبديّ إلى البداوة، والماضي، ونفورٍ من المديني، والعلميّ، والجادّ والحضاريّ، والحديث. وبالإضافة إلى ذلك كلّه تُقام الأمسيات الفارهة، والندوات الحاشدة، والمهرجانات الصاخبة في كلّ مكان، ومَن فاته شيءٌ من ذاك أدركه عبر القنوات الفضائيّة المتكاثرة كـ"الفَقْع"، ومن خلال منتديات الإنترنت، التي أصبحت مضارب البادية الحديثة ومجالس أسمارها، على مدار الساعة. حتى لقد أصبحت اللغة التداوليّة المكتوبة في تلك القنوات، وعلى تلك المواقع، وما يُسجَّل على لوحات المتابعة للبرامج، أو أشرطة العرض والأخبار، لا تُستعمل فيها العربيّة، غالبًا، بل اللهجة العاميّة، أو بالأصح العاميّات المختلفة، بخليطها العربيّ وغير العربيّ. ولم يعد الإعلام وحيدًا في هذا الميدان، بل إلى جانبه ظهرت دعوات حثيثة- ومنذ وقت مبكّر- لدراسة العامّيّات وتدريسها في الجامعات، باسم أهميّة الموروث الشعبيّ، واستلهام إبداعاته، ولزوم عدم التفريط فيه لما يحمله من قِيَمٍ تاريخيّة وأنثروبولوجيّة وثقافيّة. وكانت تواجه ذلك الممانعاتُ والتوجُّساتُ، وكان ما يحظى بالقبول من ذلك إنما يدور في نطاقٍ محدودٍ من البحث الأكاديميّ التخصّصي. وهذا كان لا غُبار عليه، بل فيه النافع، والمثري، والضروري، بل فيه ما يُعدّ إهماله تفريطًا في ثروة إنسانيّة مهمّة، وتفويتًا لدراسة موادّ وعناصر لها قيمتها الثقافيّة، ولها قيمتها في الوعي باللغة العربية الفصحى نفسها وبالأدب العربي. بيد أن هذا شيء، وما تداعت إليه الأمور في السنين المتأخّرة شيء آخر؛ ذلك أنه قد اتسع الخرق على الراقع، واستجابت المؤسَّساتُ للجماهير للتوسُّع الفوضويّ في هذا الميدان، أو هي آخذة في الاستجابة- كبعض الجامعات العربيّة!- وصار الأدب العامّيّ مهوى الأفئدة؛ للأسباب المجتمعيّة نفسها التي جعلت له مكانته الإعلاميّة الطاغية، حين غابت المعايير المبدئيّة الاستراتيجيّة للثقافة والمعرفة، وغلبتْ معاييرُ العرض والطلب حسب السوق التجاريّة.

(1) (1952)، الخصائص، تح. محمّد علي النجّار (القاهرة: دار الكتب المصرية)، 1: 239.

(2) م.ن، 1: 242.

(3) م.ن، 1: 250.

(4) م.ن، 1: 239- 240. وانظر: الحموي، ياقوت، (1993)، معجم الأدباء: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تح. إحسان عبّاس (بيروت: دار الغرب الإسلامي)، 1595.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى