الجمعة ٤ أيار (مايو) ٢٠١٢

شريـــعة أم شرائـــع؟

الناصر خشيني

تشّكل مقولة «تطبيق الشّريعة» في الآونة الأخيرة، مشغلا مجتمعيا بالغ الأهمية لدى الشّعوب العربيّة عموما ولدى التونسيّين على وجه الخصوص، ولقد اكتسبت هذه المقولة أهميّتها جرّاء ما مثّلته من جدل واسع أدّى إلى انفصام المجتمع التّونسي بين متمسّك بها كبديل وحيد عن الدولة المدنية وبين رافض رفضا قطعيا لتمثلها دستوريّا، على اعتبار أن التونسيّين يرفضون كل أنموذج لأسلمة الدولة،

وعلى اعتبار كذلك أن تونس كانت ولا زالت دولة مسلمة تستمّد دستورها في جزء غالب له من روح الشريعة.

فماهو مرّد هذا الاختلاف؟ وما مرجعيّة هذا التخوّف لدى شقّ النّخبة الحداثيّة بالخصوص من «تطبيق الشّريعة»؟

إنّنا إزاء انفصام فكريّ وثقافيّ وازدواجية صارخة في تمثّل هذا المفهوم. لذلك أعتقد أنّ تجلية هذا الخلاف تستدعي أساسا النّظر في تأصيل دلالة الشريعة نفسها، بما يحدّد ما ترمز إليه من مفاهيم انطلقت منها وآلت إليها، ثم النّظر بعد ذلك في عيّنات من المقولات في شأنها للبحث في مفاصل الخلاف الذي أدّى إلى ازدواجية الموقف والانفصام الفكري والثقافي حولها لدى مجتمع يدين بالإسلام.

أ-الإطار المرجعي ومؤثراته:

يرتد لفظ "الشريعة" إلى معنى إجماليّ عام يفيد أنّ شريعة الإسلام هي سبيله أو منهاجه، وقد قيل إنّ الشّريعة هي المنهاجُ أو الطرّيق([1]) فلفظ الشريعة يعني في اللغة مورُد الماء أو مدخله، فهي منهاج الشيء أو الطّريق إليه، وهذا هو المعنى الّذي قصد إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

 ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ﴾ (سورة الجاثية 45/18) بمعنى ثمّ جعلناك على منهاج من الدّين أو على طريقٍ له.

 ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والّذي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ (سورة الشورى 42/13) بمعنى: ومنهج لكم من الدّين، وضع لكم طريقا من الدّين وهو ما وصّي به نُوحًا وما أوحى إليك...، أو هي – على ما يرى البعض- سنّ لكم من الدّين.

 ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ (سورة المائدة 5/48)، بمعنى: لكلّ جعلنا منكم طريقا ومنهاجًا، أو لكلّ جعلنا منكم مدخلاً (موردًا) ومنهاجًا، أي شريعةً تتّبعونها وطريقا واضحا تسلُكونه([2]).

فلفظُ "الشّريعة"، لا يعني في اللّغة ولا في الإستعمال القرآنيّ" معنى التشريع أو القانون، بل إنّه ورد بنصّه:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ﴾ (سورة الجاثية 18/45)، وبفعله: ﴿شَرَّعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والّذي أَوْحَيْنا إليْكَ﴾ (سورة الشورى 13/42) في آيتين مكيّتين، أيْ آيتيْن نزلتا في مكّة قبل نزول التّشريع الّذي لم يبدأ إلاّ بعد اِنتقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة* (3)

ثم نُقل بعد ذلك استعمال هذا اللّفظ إلى كلّ أحكام الدّين ونُظم العبادات وتشريعات الجزاءات والمعاملات، ثمّ أصبح أخيرًا يعني كلّ أحكام الدّين ونُظم العبادات وتشريعات الجزاءات والمعاملات، وما جاء في السنّة النبويّة وما تتضمّنه آراء الفُقهاء وتفاسيرُ المفسّرين ونظرات الشّراح وتعاليم رجال الدّين، فمصادر الأحكام الشرعيّة الّتي يُطلق عليها تجاوزًا لفظ الشّريعة، هي في نظر المسلمين أربعة: القرآن والسنّة والإجماعُ والقياسُ(4)

وفي نفس هذا السّياق، يرى محمّد عمارة أنّ مصطلح الشّريعة الإسلاميّة أصبح يُستعمل اليوم بمعنى الترّاث الّذي أنتجته مذاهب أمّتنا الإسلاميّة وصاغه فُقهاؤها في أمور الحياة الدُنيويّة ومُعاملات النّاس وقضايا الأمّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة استنباطًا من النصّوص الشرعيّة(1).

فلم يعد لفظ الشّريعة بذلك يدلّ على معناه الأصليّ في اللّغة وهو المورد أو الطّريق، ولا على معناه الأوّل في القرآن، وهو ذات المعنى اللّغويّ، لكنّه أصبح يعني كلّ أحكام النّظام الإسلاميّ ما تعلّق منها بالدّين وما اختص بالتّشريع، سواء وردت في القرآن أم في السنّة، أم على الإجماع، أم من التّفاسير.

ب-حتميّة التمييز بين الدّين والفكر الديني:

هذه الدّلالة الأخيرة التي استقر عليها هذا اللّفظ بما مثّلته من خلط بين حقيقة الدّين والفكر الدينيّ عند العشماويّ، أوالشريعة القرآنيّة والشّريعة الإسلاميّة عند غيره كالصادق بلعيد، هي وجه تجلّى الأزمة في فهم منظومة الشريعة ، فالعشماوي يرى أنّ الأصل في الدّين هو ما جاء به النبيّ من القرآن، ومن أفعاله وأقواله فيما يتّصل بالدّين أو تطبيقه فذلك هو النّص، غير أنّ النصّ - في غير حياة النبيّ- لا يتكلم بنفسه ولا يشرح ذاته ولا يفُضُّ معناه ولا يقطع بما في داخِله، ومن ثمّ فقد فُسّر القرآن بالسنّة، ثمّ فُسِّرا معًا، ومن تفسير المفسّرين بما يُداخله من اختلاف كلّ مذهب واختلاف ثقافته ورؤاه وآراء الفقهاء والأئمة في المسائل الّتي أبدَوْا فيها الرّأي، من كلّ ذلك تكوّن فِكر دينيّ، ليس هو الدّين وإنّما هو فِكر يدُور على مدارِ الدّين ويلفّ على مِحوَرِه ويجري على منواله، ولا يمكن لهذا الفكر – بداهةً- أن يكون نقيّا نقاء الدّين ما دام المحيط الّذي يصبّ فيه هو اختلاف البيئات واضطراب المذاهب واجتهادات التّفسير ومعتقدات العّامة وأساطير الشّعوب. لذلك يرى العشماوي أنّه من المستحيل أن يكون هذا الفكرُ صائبا أبدًا، فهو يحتمل الصّواب والخطأ كما يحتمل الاختلاط بالغرض، شأن أيّ رأي بشريّ(2).

فالدّين هو مجموعة المبادئ التّي يُبشّرّ بها النبيّ أو الرّسول والفكر الدينيّ هو الأسلوب التاريخيّ لفهم هذه المبادئ وتطبيقها، فكلّ فهم للنصّ الدّينيّ وكلّ تفسير له – بعد حياة النبيّ- هو من قبيل الفكر الدينيّ، لذلك فإنّ هذا الفهم أو التّفسير قد يوافق صميم الدّين وقد يُخالفه(3).

وعليه، يُصبح المعنى من تطبيق الشريعة، تطبيق النّظام الفكريّ الإسلاميّ التاريخيّ، لذلك يعتقدُ العديد من المشتغلين بالفكر الإسلامي عموما في نفس ما ذهب إليه العشماويّ من ضرورة تحديد أصول عامّة للشريعة،هذه أهم مفاصلها

أولاّ: تنزيلُ الشريعة تعلّق على قيام مجتمع دينيّ، وتطبيقُها منوط بوجود هذا المُجتمع، فليست الشّريعة قواعد وجزاءات وإنّما هي أوّلا وقبل القواعد والجزاءات، جوّ عامّ يُسيطر على المُجتمع وروحُ واحدٌ ينفُذُ

1- عمارة محمد:الاسلام و قضايا العصر،دار الوحدة،ط 1، 1980 ، ص:94

2- أنظر حول ذلك:العشماوي، أصول الشريعة،م س ، ص-ص:72 -73

3- أنظر:العشماوي محمد سعيد:حصاد العقل، سينا للنشر، ط 2، 1992 ، ص: 79،و ما بعدها.

في الصّميم من كلّ شيء، ومجال قويّ ينتظم كلّ شخص وأيّ فِعل، وما لم يحدُث ذلك، ما لم يسبق الرّوح النصّ ويعلُُو الضمير على اللّفظ وتكون التّقوى هي الأساس في الحكم والتّطبيق، ما لم يحدُث

ذلك، فإنّ إعمال الشّريعة يعني استخدام الأحكام الشّرعيّة لأهداف غير شرعيّة، وتوجيه الدّين لأغراض ليست من الدّين في شيء(1).

ثانيا: الشّريعةُ كانت تتنزلّ لأسباب تقتضيها، وأسباب التّنزيل ليست مُناسبات لها، فأسباب التّنزيل تعني الظّروف الواقعيّة الّتي كانت سببا للنصّ أو كانت سببا لتعديله، وهي أمر لازم لتفسير النّص وشرح أحكامه، لكنّها لا يمكن أن تكون مُناسبة للنصّ وليست سببا له، لأنّ السّبب هو الظّروف الواقعية التّي تفاعلت مع النصّ ليظهر على النّحو الّذي أصبح حُكْمًا، أمّا المناسبة فتعني أنّ النصّ كان مُعَدًّا سَلَفًا، وأنّه كان يتحيّن مُناسبة ليظهر، ويتربّص فرصَة ليكُون، فإذا حانت المُناسبة أو ظهرت الفُرصة كان النصّ أو تنزلّت الآية.

والخلطُ بين كلا المفهومين خطيرٌ جدّا، فهناك فرق بين أن تكون الظّروف الواقعيّة للنصّ أسبابا للتزيل أو أن تكون مناسبات له، ولقد انزلق الفكرُ الدينيّ إلى المفهوم من المناسبات دُون الأسباب، بمعنى أنّ الفكر الإسلاميّ يبحث عن أسباب التّنزيلِ لبيانها ثمّ يقْصُر فهمه على المعنى المقصود من مُناسبات التّنزيل وعلى أحكام هذه المناسبات ونتائجها، فهو بذلك يبدّل الأسباب مُناسبات([3])، وهذه الفكرة، فكرة مُناسبات التّنزيل قد أدّت إلى عزل النصّ عن واقعه، وفصل الآية عن الظّروف الّتي تنزّلت فيها، وتفسيرُ القرآن على عموم ألفاظه، بما يصلُ إلى نتائج وخيمةٍ: منها ألاّ يكون التّفسيرُ سليمًا، بلْ وقد يكون خاطئًا، ومنها اِبتسار الآيات على جُزءٍ منها دُون استكمال لها جميعًا، وابتناء الأحكام على شقّ من الآية دون شقّ آخر، واستعمال النّصوص في غير ما تنزلّت لأجله.

ثالثا: الشّريعة كانت تستهدفُ الصّوالح العامّة للمجتمع، فينسُخ بعضها بعضا ليحقّق هذه الصّوالح، وسدادُ الشّريعة وصلاحها مُرتبط بالتقدّم على الوقائع المُتغيّرة والأحداث المُتجدّدة، وشريعة الإسلام أو منهاجه أو أسلوبه، تتوضّح لمن يتتبّع أحكامه إذ هي التقدّم لتحقيق صوالح المجتمع والأفراد، وعدم التّوقّف عند نصّ محدّد أو التشبّث بحكم خاصّ أو الالتفاف حول قاعدة ثابتة.

رابعًا: بعض أحكام الشّريعة خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعضُها مخصّص بحادثة بعينِها.

خامسًا: الشّريعة لم تكنْ مُنقطعة الصلّة بالماضي مُنبتّة الجذور عن المجتمع الّذي تنزّلت فيه، بل إنّها أخذت من قواعد المجتمع وأعرافه وعوائده ما أصبح أحكاما فيها (كحدّ السّرقة).
سادسًا: كمال الدّين، واكتمال الشّريعة هو سَعيُها الدّائم إلى مُلاحقة أحوال المجتمع والتّقدّم بالإنسان إلى صميم الإنسانيّة وروح الكونيّة.(1)

والناظر في هذه الأصول يتبين له مدى ارتباطها في جانبه العملي بمجتمع قائم على الفضل والتّقوى، فتطبيق أحكامها مرتبط بوجود هذه الرّوح في المجتمع، أوّلا من ناحية حُكّامه وثانيا من ناحية أفراده كما في مجتمع التّنزيل وفي خلافتيْ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

كما أنّ ما يُميّز هذه الشّريعة أنّها لم تتنزّل كُلاًّ ولم تأت بغير أسباب، وإنّما كانت تتوالى على الوقائع وتتغيّر بتقدّمها (أسباب النّزول والنّسخ)، فكانت بذلك كائنا حيّا يتفاعل مع الحياة ويتناسجُ مع الواقع، فهي من ثمّ ذات أسلوب عمليّ واقعيّ، وهي دائما في حراك دؤوب أصيلة، جديدة، مُواكبة، لذلك لم تكن أحكامها جامدة بل تتميّز بالمُرونة والتّخصيص، فما كان منها مطلقا كان حُكمًا شرعيّا، وما كان مُخصّصا جاز أن يوصي بقواعد سلوكيّة ومناهج أخلاقيّة ومسالك اجتماعية تتغيّر بتغيير الأعراف أو تبدّل العادات: "وهي بذلك منهج حيّ، اِكتمالهُ في السّعي الدّائب إلى مُلاحقة أحوال المجتمع والتقدّم بالإنسان إلى صميم الإنسانيّة وروح الكونيّة"(2).

ومسألة الدّين والفكر الدينيّ عند العشماوي والّتي بها بدّد المفاهيم المغلوطة حول دلالة "التّشريع"، يتصدّى لها الصّادق بلعيد متجاوبًا مصادقًا من خلال تناوله لدلالة هذا اللّفظ في إطار المسار الّذي انتهجه في تمييزه بين "الشّريعة القرآنيّة" و"الشّريعة الإسلاميّة"، فهو يعتقد بقوّة في ضرورة التّفريق بين "الشّريعة القرآنيّة" وما يسمّى –على حدّ تعبيره- "الشّريعة الإسلاميّة"، لأنّ الأولى تُعيّن ما يُوجد من أحكام في القرآن الكريم، أمّا الثّانية فهي تتجاوز بكثير ما نصّ عليه القرآن الكريم لتشمل حصيلة اِجتهادات الفُقهاء والمفسّرين وتصوّراتهم المُختلفة والمُتضاربة حسب الزمان والمكان(3).

ممّا أدّى في رأي بلعيد إلى حدوث خلط بين ما وسمه بالحكم القرآنيّ، وما وسمه بالحكم الإنسانيّ، وبعبارة أخرى له، بين "الحكم الوحييّ" و"الحكم الاجتهادي"، وعضدّ رأيه هذا برأي العشماوي ليستخلص أنّه قد تكوّن مع الوقت ونتيجة لهذا المزج بين المفهومين، هيكل ضخم من القواعد القانونيّة الّتى اختلط فيها المقدّس بالبشريّ وتداخل ما جاء من الله وما صدر عن النّاس. وامتزج الحكم مع

1- راجع حول هذه الاصول: ن م ،ص-ص:87 و ما بعدها

2- راجع:ن م ،ص-ص: 121-114

3- أنظر بلعيد،الصادق:القران و التشريع،م س،ص:37

تطبيقاته وتفسيراته، فانتهى الأمر إلى أن يصبح معنى "الشّريعة" هو "الفقه"، أي الآراء البشرية، أكثر ممّا يُفيد الأحكام الإلهيّة..."(1)

لذلك يدعو بلعيد إلى ضرورة التّمييز بين منطوق القرآن الكريم وبين التّأويلات المُتراكمة حول أحكامه وإزاحة القناع الّذي أسدله الفقهاء القدامى- في رأيه- على الخطاب الأصليّ: "إلى حدّ أنّهم كادُوا أن ينسونا ما جاء به"(2)

والنّاظر في التّشريع القرآنيّ عند بلعيد، سوف يقف على إستنتاجين هاميّن:

الأوّل: أنّ القرآن الكريم لم يُشرّع بالأساس للمعاملات بين النّاس.

الثّاني: أنّ القرآن الكريم إن لم يُشرّع أساسا للمعاملات، فإنّ السّبب في ذلك هو أنّه لم يجعل من مثل ذلك التّشريع مقصدًا من مقاصدِه(3)

فالتّشريعات القرآنية عنده محصورة في الجزئيّات الّتي اهتمّت بها ولا تسمح بالمرور إلى الكليّات، ويضرب كمثال على ذلك، ما يخصّ "الحدود"، فلقد شرع القرآن الكريم في السرقة وفي الحَرابة وفي الزنا وفي القذف، وجعل منها "حدودا" ووضع لها عقابا، إلاّ أن هذا التشريع مقيّد بنوعيّته وبمصدره في آن واحد، فإنّه لا يُمكن الزّيادة في هذه القائمة ولا يمكن تمديدها، ومن جهة أخرى فإنّ النّظر في كلّ من "الحدود" الأربعة على حِدة أو بصفة إجماليّة، لا يسمح بالتأليف النظرّي بينها بما يُمكّن من المرور من الجزئيات إلى الكليّات([4]). ويضيف بلعيد أن هذه التشريعات لم تكن تهدف إلى التّجديد المُطلق، ولم تأت بما يؤسّس أو يدفع إلى وضع الأسس لتشريعات جديدة أو رسم الاتّجاه الواضح والدّقيق أمام ابتكارات لاحقة([5]). وهذا يعود-في نظره- إلى أنّ ما يُعدّ أحكام* في القرآن، نزلت حسب حاجيات مجتمع بدويّ قليل التمدّن وأُميّ، يكتفي بالقليل من التّشريع ولا يحتاج إلى الكثير من الدّقة أو الكثير من التعمّق أو الكثير من التّجريد في أحكامه وقواعده ولا هو يرتاحُ لها، "فجاء القرآن الكريم بما يحتاجوه إليه في ذلك الظّرف وفي ذلك المستوى من التّطور الاجتماعيّ والاقتصادي والثقافيّ وشرع على أساس ما كان معرُوفا عندهم سواء بالإقرار أو بالتّعديل والإلغاء، وكل ذلك في حدود معطيات مختلفة"(6)، لذلك يعتقد بلعيد في أنّ لكلّ مجتمع تشريعه، كما يعتقد في أنّ النسبيّة هي من خصائص التشريع الإسلاميّ بالنّظر إلى كونه-

دون اعتبار الاستثناءات- قد نُزِّلَ على أسباب، فَفَهْمُ الأحكام القرآنية مُرتبط بمعرفة الظّروف التي نزلت في شأنها، "وبذلك فإنّ تحديد مدى تلك الأحكام مُقيّد بمقتضيات تلك الحوادث، فلا يجوز أن تُؤخذ تلك الأحكام بمعزل عن الحادثة التي جاءت فيها"(1) لذلك نجده ينتهي إلى مدى الانعكاس المباشر لهذه المسألة على محتوى المنهج التقليدي في تفسير القرآن الكريم وعلى صحته، وذلك من جهتين : الأولى، لا يجوز أن تُحمل الأحكام القرآنية بصفة آلية على الإطلاق وعلى التعميم، لأن الارتباط الوثيق بين الحكم وسببه يحمل على نسبية ذلك الحكم، كما أنه لا يجوز اعتماد مقولة الفقهاء للقُدامى في أن "العبرة في التفسير هي في عموم اللفظ لا في خصوص السّبب". ومن جهة ثانية، فإن كانت لأسباب النزول الأهمية الفائقة التي اتفق عليها منذ عهد الصحابة فإنّه من الضروري أن تؤخذ مأخذ الجدّ في عملية تفسير الأحكام القرآنية وأن لا تُفرغ في معناها الحقيقي، كأن تبدل الأسباب إلى مناسبات للتنزيل فقط(2). وهو من هذه الجهة يتّفق مرّة أخرى مع العشماوي من ناحية الخلط الذي أحدثه الفقهاء بين مفهوم أسباب النزول ومناسابته.

هذا إلى جانب اعتقاده في أنّ الكثير من الأحكام القرآنية جاء على وجه التّخصيص بناء على وضعيات مختلفة،"ولقد قُلنا إنّ التّخصيص قد يكون بسبب الأشخاص أو الحوادث أو الزّمان أو المكان، لهذا فإنه لا مجال لتوسيع مدى الحكم وحمله على الإطلاق بصفة آلية"(3).

فالتّخصيص في نظر بلعيد، يحدّد مدى الحكم ومفعوله وفي كثير من الحالات يُفقد ذلك الحكم كلّ مفعول من جرّاء غياب الشخص المعيّن أو انقراض الظرف المذكور في ذلك الحُكم.
كلّ هذه الأسباب حملت بلعيد على القول بعدم اكتمال التّشريع الإسلاميّ في أحكامه، يقول :"والحقيقة السّليمة هي أنّ الكتاب العزيز أتى ببعض الأحكام عندما شاء الله تكوين الأسباب لذلك، وفي هذه الحال، لم يكن هذا التّشريع إلاّ خاصّا بتلك المادّة وجُزئيّا، ولا عجب في ذلك لأنّ القرآن الكريم لم يعُلن عن إرادة الله في وضع مدوّنة تشريعيّة في ما هو إلاّ العرضيّات بالنسبة إلى الإرادة الإلهية. وبما أن العرضيّات تتغيّر وتتجدّد وتتطوّر، فإن التشريع فيها لا محالة، يتطوّر بتطوّرها، فشؤون النّاس وقوانين المعاملات بينهم ليست من الثّوابت الكونيّة، وليست من الأمور الأزلية فلا مفرّ من الاعتراف بضرورة تغيّر التّشريع فيها وتجدُّده (...) فإنّ تطوّرات المجتمع فرضت بصفة مباشرة أو غير مباشرة وبطريقة تدريجيّة أو انقلابيّة، المرور من التّشريع الدينيّ إلى التّشريع الوضعيّ والمرتبط بالمرور من المجتمع الدينيّ إلى المجتمع السّياسي"(4).فالمجتمع يتخلق في رحم الأحداث و في رحم الواقع.

1 –بلعيد،الصادق:القران و التشريع،م س ،ص:294

2 – ن م ،ص:292

3-ن م،ن ص

4-ن م ،ص 299

ووفق هذه الآراء للعشماوي ولبلعيد في الدّين والفكر الديني بالنّسبة للأوّل، وفي الشّريعة القرآنية والشّريعة الإسلامية بالنّسبة للثّاني، تتجلّى الأزمة، التي خلّفتها دلالات وأبعاد هذا المصطلح في الفكر الاسلامي الحديث و المعاصر، ووفق نفس هذه الآراء، يمكن أن نعي أكثر سبب الاختلافات المنهجيّة والدلاليّة في مقاربة منظومة الشريعة.

فالآيات التي اعتُبرت حُكمية، أصبحت بفعل هذه المفاهيم للشّريعة والتّشريع القرآني-الذي بيّن بلعيد نسبيّته وعدم اكتماله- غير حُكمية. وإن كانت كذلك فيجب اعتبار حُكميّتها في مداها المكاني والزمانيّ على الأقلّ، فالقرآن الكريم ليس كتاب تشريع، بل لم يؤسّس له أصلا، وفَضَّلَ ترك شؤون البشريّة للبشر، يضعون فيها التّشريعات الملاءمة لظروفهم وواقعهم.

الأزمة إذن، هي أزمة فهم لدلالة الشّريعة ولدلالة التّشريع ولدور كلّ منهما، فالشّريعة مطلقة كليّة، والتّشريع نسبيّ جزئيّ. لذلك علّق الأخزوري على قول عليّ كرم الله وجهه :"إنّ القرآن حمّالٌ ذو وُجوه"، بأنّ النّص احتمالي ولا أدلّ على ذلك من اختلاف المذاهب الفقهيّة، رغم أن كلّ أصحابها انطلقوا منه وجعلوه الأصل الأوّل من أصول فقههم، فالأفهام متفاوتة وبالتالي تتفاوت الاستفادة من النّص باستنباط المعاني والأحكام، ومن العوامل الفاعلة في التّفاوت ،البيئة الفكرية والاجتماعية وما إلى ذلك مما يمليه الزمنيّ (...) ثم إنّ تطبيق الأحكام على الواقع يحتاج إلى فهم ذلك الواقع وإلى المقصد وما يقتضيه. فعُمَر مثلاً، لم يتجاوز النّص ولم يُعطّله، إنما هو أعطى النّص تطبيقاته وما يُمليه الواقع، إنّه بُعد السّياسة وتدبير الشؤون وفهم الرَّاهنة، لذلك يرى الأخزوري أنّ كل التّطبيقات والاجتهادات تَثْبُت بالنّص نفسه، فهي ليست خارجة عنه، وإنّما هي من مُقتضياته، وبهذا المعنى فالنص ثابت صالح لكل الأزمنة والأمكنة وتطبيقاته اجتهاديّة متحرّكة؛ ويدعو على أساس ذلك، إلى عدم القعود عن البحث من النّص عن تطبيقات لواقعنا الجديد حتّى تقع الملاءمة بين النّص والواقع وما فيه من مستجدّات(1).
وهذا الذي ذهب إليه الأخزوري، مُتعلّق بواضح الدّلالة فما بالك بظنّيها؟ إذن لا مجال لتعطيل أيّ احتمال من احتمالات النّص، وبالتّالي تفويت فرصة على إيجاد الملاءمة مع ما يقتضيه الزمنّي، فدور العقل كبير في الوقوف على الاحتمال المُناسب للزمان المعيّن (2).

1 –أنظر:الاخزوري،أبو بكر :"الفاصل بين المطلق و النسبي في الأحكام"،مجلة التنوير،المعهد الاعلى لأصول الدين بجامعة الزيتونة،العدد:5 ، 2002-2003، ص ص:9-10-11.

2 – أنظر ن م ، ص:11

لذلك يرفض الحداثيون بشدة تطبيق الشريعة لإدراكهم أن مؤسسة التأويل الرسمية مافتئت تعمل على تثبيت النص القطعي و على رفض كل البدائل و الاحتمالات خارج القراءة الحرفية و على تكرار المواقف المألوفــــــــــــــــة

و المتداولة، فتطبيق الشريعة بهذا المعنى هو تهديد لمكتسبات الحداثة و للمسار الانتقالي نحو الديموقراطية، فمعركة الحداثّيون ليست مع الإسلام و إنما هي مع الشريعة المنتهية تلك التي " يتيحها إسلام النفط بإمكاناته الهائلة للكتابات المحافظة عموما و للتفاسير الاكثر سلفية و نكوصية، دون إهمال الإشارة إلى الدروس الدينية في مجال التفسير و الفقه (....) و المشبعة بالتأويلات التي تنتج باستمرار و تضمن في كل موقف فقهي أو تأصيلي يوهم المتقبل بوفائه للنص التأسيسي"(1). و عليه فان الدعوة تتجه اليوم نحو المطالبة بقراءة جديدة في الأحكام المعاملاتية و في الحدود بما يحافظ على جوهر الحكم في إطار المنظومة الدينية الإسلامية المتكاملة، وهذه الدعوة تتنزّل في الواقع ضمن مشروع ضخم، يعتقد المعاصرون المنفتحون في مسيس الحاجة إلى إنجازه، متمثّلا في إعادة تأسيس المنظومة الأصوليّة الفقهية على اعتبار عدم صلوحيّة المنظومة الحاليّة كمنهج وكدلالات منتهية في نظرهم، لمواكبة حاجيات المجتمع الإسلاميّ اليوم.

هذه إذا خلاصة التدّاعيات الإشكالية التي أنتجتها مختلف المفاهيم التى حاوطت مصطلح"الشّريعة"،وهي تداعيات تشي بأهمية هذا المبحث في الفكر العربي الإسلامي المعاصر،كما تشي كذلك بضرورة سعي هذا الفكر نحو التوافق المفهومي حول هذا المصطلح المفتاحي في تحديد مجال العقل المسلم في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة بالتركيز أساسا على جانبه القطعي وهو الجانب التربوي الأخلاقي، في انسانيته و كونيته و مراعاة جانبه المتحرك باستمرار وهو جانب الأحكام التى تدور مع مقتضيات مصالح الأفراد و المجتمعات،فهي التى تصنع الدّلالات و الرّموز و المفاهيم.

1 – حمزة محمد:أفق التأويل في الفكر الإسلامي،الانتشار العربي-العربية-دار محمد علي الحامي،ط 1، 2011 ، ص255.

1- ابن منظور،جمال الدين، لسان العرب،دار صادر،بيروت،ط،1997 ج:3، ص: 421./ إبراهيم مصطفى ومجموعة من المؤلّفين، المعجم الوسيط،دار الدعوة اسطنبول،1989م ص: 479.

[2] - الرّاغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحُسين بن محمّد (502هـ): المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمّد سيّد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص: 258 وكذلك: الجرجاني،علي ابن محمد، التّعريفات،دار الكتاب المصري-دار الكتاب اللبناني،ط1،1411م/1411ه،1991م، ص: 127.وأنظر كذلك: ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام،دار الكتب العربية بيروت،1985م، ج : 1، ص: 46.

*يرى ابن عاشور في هذا الصدد أن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات و الآداب هي الجديرة بأن تخص باسم الشريعة،اما أحكام العبادات فجديرة بأن تخص باسم الديانة.ابن عاشور:محمد الطاهر،مقاصد الشريعة الإسلامية،الشركة التونسية للتوزيع، تونس-المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر ،1985،ص:9

3- أمين أحمد:فجر الاسلام،مكتبة النهضة المصرية،ط 6، 1950، ص: 228

4- العشماوي،محمد سعيد : أصول الشريعة،الانتشار العربي،ط 5 ، 2004، ص:49

1- العشماوي: أصول الشّريعة، م. س، ص: 88.

1 –العشماوي،سعيد:معالم الاسلام،سينا للنشر،ط1 ،1989 ،ص 102

2 – بلعيد،الصادق:القران و التشريع ،مركز النشر الجامعي،ط 2، 2000م ،ص 37

3-ن م ،ص:289

4-ن م، ص: 290

5-ن م ص:289

6-ن م ،ص:292

الناصر خشيني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى