الأربعاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحمن الوادي

يوم رقصت الحافلة

إهداء: إلى مبارك ربيع

خمس دقائق فقط وتنطلق الحافلة
خرجت العبارة والتذكرة من كوة الشِّبّاك الزجاجي، فدسست التذكرة بإحكام في جيبي، فيما تركت الريح تفعل بالعبارة ما يحلو لها في مهبها الأخرق يومها؛ فهي الأولى بمثيلاتها المخادعات؛ التي كم حظي وما زال يحظى معظمها بالخاتم الرسمي.

انزويت في ركن غير بعيد، يقضمني الوقت في صمت وعلى مهل، وسط مرج المحطة وهرجها، إلى أن حضرت الحافلة المنتظرة. فتهافت القوم في سيلين عارمين نحوها، متدافعِين بالمناكب والشتائم. لا فرق بين ذكر وأنثى، ولا أبيض ولا أسود، ولا أكبر ولا أصغر إلا بثقل الإقدام، وخفة الأقدام. في حين، ظللت أنا متنسكاً في زاويتي؛ ليقيني أن أحد المقاعد الأمامية سيكون من نصيبي مقابل دريهمات معدودات.

تم رفع قطعة الجريدة الحاجزة للمكان الشاغر بجانبي؛ لتجلس شابة خالصة البياض، رشيقة القوام، خفيفة الحركة، موزعة ابتسامتها الآسرة على كل العيون المتطلعة، تزيد من سحرها حبتا الجمال المحفورتان بلطف شديد في ربوتي خديها، وشفتا كرزها ترددان بصوت جد خافت أغنية طروبة داخل سماعتها.

بعد أن دخن السائق ذو الشارب التركيِّ سيجارته، واحتسى قهوته، وتناوب على الممر الفاصل بين الكراسي البائعون بمختلَف البضائع، والشحاذون بمختلَف العاهات، دارت العجلات.

علق بصرك هناك بأقصى نقطة في الأفق حتى لا يصيبَك الدوار.

هكذا كان يحثني المرحوم أبي ومنعرجات الأطلس تميد ببرعمي ميدا. لقد صارت عادتي في المستوي من الطرقات أيضا، مع التحافي بالصمت طوال السفر. أجل – قبل أن تسألوني – حتى وهذه الظبية الشاردة بمحاذاتي. اسخروا مني كما تشاؤون. لن أحفل بكم. ما قيمة سخرياتكم البلهاءِ أمام ثقتي الكبيرة بنفسي؟ بمقدوري الآن أن أجعل السائق يرفع حالا مكبر الصوت بإحدى الأغاني الشعبية المحببة إليه دون غالبية الركاب؛ لكي تخلع سماعتها، وتبدأ هي الحديث، مادة لي يدها المادلين بقولها المربّى:

ريم

لا تنزعجوا كفي حينئذ أسرع من فمي. تطلق ضحكة أخالها شدو الهزار أتى مبشرا بحلول الربيع قبل أوانه، حين أخبرها بأني كنت متيقنا أن ذاك هو اسمها. وتزيد دهشتها أكثر حين أطلعها على اسمي وطبيعة عملي. فتأخذَها إلى أن تحكيَ لي دون أن تعيَ حكايتها التي حركت بركة حياتها قبل بضعة أيام لا غير.

أولَ ما رنّ جرس الدخول، حتى خففت مسرعة إلى الطاولة الأولى؛ التي أحرص منذ مدة على الجلوس عليها في مادة الرياضيات خاصة. نعم هو مثلك في الاسم، لكن غيرك في مادة التدريس. ليته كان شبيهك حتى في هذه.

حين لمحته مخترقا آخر الزملاء الملتحقين، ارتعشت يداي من جراء رجّات قلبي، واشتعلت وجنتاي، رغم برودة الطقس ذلك الصباح الشتوي. وما كاد يستقر به الحال خلف مكتبه، حتى جحظت عيناه، وصرخ في رعبنا الجاثم على أنفاسنا:
هيا تخلصوا من كل ما يخصكم هنا أسفل السبورة.

لم تستطع الهمهمات ولا الغمغمات التي ندت هنا وهناك أن ترد هذا القدر المستطير؛ فما فتئت أن همدت واستكانت. لا أحد كان يعلم غيري موعديَ الآنيَ مع امتحان ثان أكثر مباغتة من هذا، وأكثر تمنعا عن كل القواعد الجبرية والهندسية. لا أريد منه شيئا، أريده فحسب أن يمنح يدي لحظة لتطلع يده على ما يختلج بسويداء فؤادي، ويعقد لساني العاجز عن البوح به. هي كفيلة منه بذلك ولو لمرة واحدة فقط. أجل أعلم أنه رب عائلة، ولكن فيم سيفرِق هذا معي ولا خيار آخر أمامي؟ زادت نبضاتي، إلى أن سرى تيارها الحاد في كل جوارحي، مما جعل طاولتي تصطك بقوة، فخرجت هاربة، وبدأت أرقص في الساحة، على إيقاع موسيقى رائعةٍ تعزفها أنامل المطر..

تقوم. تخترق الصفين راقصة. يلحق بها جميع الركاب حتى المسنون والمرضى منهم. تعتري العدوى شارب السائق الكثيفَ أولا، ومنكبيه العريضين ثانيا، فبطنَه نصف الدائرية، ثم رجليه المكتنزتين اللتين تزجان به في جذبة لا متناهية. هنا، تجد الحافلة الفرصة مواتية لتهتز وتتلوى مثل أفعى حُزت رأسها، إلى أن تلفظنا جميعا خارج جوفها. كل في جانب يترنح. وحدها ريم تُحكم قبضتها على كفي بشدة.

أرأيتم كيف باستطاعتي أن أحدث كل هذا، ولكن بالله عليكم دعوني في حالي، فهو حسبي. أعرف أنكم ستهزأون بي ثانية؛ لكوني تركتها بمحض إرادتي تختفي بين الناس فور وصولنا، وقد لا أراها أبدا مرة أخرى.

نعم أقر الآن، وأنا في كامل قواي العقلية والنفسية، أنكم على صواب، وأني مجانب له، تبّا لي. ولكن إذا شئتم، يمكن لي أن أعيد عليكم الحكاية تماما كما تحبون وترضون هذه المرة.

ها.. ما قولكم؟

إهداء: إلى مبارك ربيع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى