الجمعة ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم فخر الدين فياض

شام أنت المجد.. و.. طفولة

قصتان قصيرتان

شام أنت المجد

عبر ليالي قاسيون العابق بسحره الخاص.. إطلالة نادرة في غفلة عن عيون العصر، على ثنايا مدينة حزينة.. يمتد الليل بنا ونشرب مع الوطن كأسه المعتقة بتراب أمية ومياه القصيدة الأندلسية.. والمطر. تلوح أضواء فجر آخر، لتستيقظ دمشق على أصوات مآذنها وحمامها الذي يعانق أشجار ياسمينها بحب أزلي..

نقطع أنفاسنا أمام جمال تلك السيدة الخجولة وهي تغض طرفها بحياء وفتنة على صوت آت من الغيب.. (يا حبيبي أنا عصفورة الساحات.. أهلي نذروني للشمس)

طالما تدحرجت أحلامنا وركض القلب وراءها بلهفة عشق لا تنتهي..

طالما خبأنا أمانينا بين طيات الروح عن أعين العسس..

طالما لففنا القطن حول أصابعنا حتى لا يحرمونا متعة التقاط القلم.. وخط المفردة..

طالما عشقنا ومررنا رسائلنا الزرقاء عبر عروق دمنا.. خوفاً من فضيحة (الحرية)..

السيدة الخجولة كانت تلملم أشياءنا المبعثرة.. وضفاف جراحنا ومفردات الحب وتخبئها بين طيات أنوثتها وقصائدها وأنهرها السبعة، لتخلق الحلم من جديد وترفرف الروح ثانية بعبق الصالحية والجامع الأموي..

هل رأيتم دموع السيدة الخجولة مرةً.. لم يعرف التاريخ دمعاً يتحدث بكبرياء مثل دموعها..

هل رأيتم عشق السيدة الخجولة مرةً.. لم يعرف التاريخ عشقاً طفولياً مثل عشقها..

كل غرباء العالم يصبحون في باحة منزلها الدمشقي، من أهل البيت.. تتحول تلك السيدة إلى صديقة بحجم الوطن..

دمشق لم تغيرها (القرية الكونية الجديدة).. ولم يغيرها العسكر والعسس..

ظل الياسمين وحب الهال يعطر دروبها..

وظلت إشراقة العينين العسليتين تستيقظان كل صباح على صوت فيروز الآتي مع رائحة (الأكاديينا):

(شام أنت المجد.. أنت المجد لم يغب)..

+ + +

طفولة..

"تعالي نتسلّق الربوة"!!

قالها بقلبه الذي كان يتدحرج بين قدميها..

كان الغروب شاعرياً.. تضوع من جنباته رائحة سماء مزينة بفرح عتيق.. وغيوم حالمة..

وكان الهواء يداعب شعرها المنساب على كتفيها، عابثاً وطليقاً.. مثل أمواج ربيعية، لبحار متمردة.. ومثيرة.

"ما زالت فاتنة"!!

نظرت إليه وهي تضع يديها فوق يديه الراكعتين بخشوع.. تصليان للأفق الأخضر داخل عينيها الصاحيتين..

شعر أن طعم اكتشاف الحب، ما زال يقطن تلك الأنامل البيضاء..

"وتلك الربوة.. عرسٌ أبديٌ في دمي"!!

كان يتأمل شعرها.. جداول شقراء متماوجة، دائماً كان شعرها طويلاً.. وحرا، تخيّله حين كان يمتلئ بالغبار وحبات التراب.. متدلياً فوق وجهها بعبث..

سكب على ذاك الشعر زجاجة عطر كاملة، سرقها من بين أغراض أمه.. قالت له:
"لا أستطيع أخذها معي!!"

فتح الزجاجة بيديه الصغيرتين وغسل بها شعرها، وثيابها، وأقدامها..

كانت رائحة ذاك العطر تملأ هذا الغروب بعصافير طفولية، وأحلام ملوّنة..

"لطالما أحببت شعرك" همس وكأنه يحدث نفسه..

ضحكت بعينيها!!

"حين تضحكين يلمع البرق، وينهمر مطر دافئ.. يمسح غبار الكون.. وأحزانه"

ضحكت بعينيها.. وسارت أناملها ببطء ومتعة على مسامات يده..

"ما زلت تحمل طعم عبثك القديم، وترى العالم بعين إحساسك الأول.. "

ارتفع صوته ضاحكاً بفرح الأولاد..

"تقصدين أنني ما زلت أرى الأشياء كما أرغب أن تكون.. كل الأشياء التي أحبها تتحول في داخلي إلى برتقالات ساحرة.. "

ثم أردف وهو يداعب بسبابته باطن كفها الناعمة:

"دون كيشوت.. أعظم شعراء العالم.. وأنبلهم!!"

مازال شعرها يتطاير مع الهواء.. وغصون الصفصاف تتمايل بلا مبالاة حولهما.. فينبعث حفيفها ممتزجاً بموسيقى آتية من مكان ما..

قالت له:

"بل أكثر نبلاً، وجنوناً من دون كيشوت.. امرأة ستصبح جدّة بعد قليل.. وما زلت تقترح عليها صعود منحدرات التلة سيراً على الأقدام؟!".

نظر إليها.. عينان شقيتان.. أيدٍ صغيرة تخلط التراب بالماء.. وتزرع قمراً، تلتقط النجوم وتنثرها بعبث " جسد يغطي تلك الربوة بعبق العشق، ويغسل صخورها بذاكرتي..

ملعونة تلك الربوة.. بكل عفاريت الشعر!!"

طالما تسلقاها معاً..

طالما سقطا معاً.. ومسحا جروح جسديهما معاً، كانت تبصق على يديها لتزيل له الدم المتيبس عن ركبته.. وهو يتألم ويصرخ ويشتم.. مزّق سرواله الداخلي بعد أن خلعه بعيداً عنها، ليلف به مرفقها النازف.. وحين اكتشفت حقيقة تلك الخرقة، نزعتها عن مرفقها وراحت تجري وراءه وتقذفه بالحجارة والشتائم..

قال لها وهي تعض كتفه وتركله بقدميها:

"لم أستطع تمزيق شيء سواه.. أيتها الكلبة!!"

ما زالت روحه تتوسل إلى المرأة الممتلئة:

أن تسابقه في صعود التلّة!!

"كانوا سيزيلون هذه الربوة، الأرض تتصحر.. كما الناس، غزو همجي!!"

نظر إليها.. وكأنه يتنبه من حلم ملّون..

"في الربوة تقبع ذاكرتي.. "

وامتدت عيناه تعانقان تلك التلة الخضراء.. شعر أن تاريخه يقطن هناك..

"كل أشيائي الجميلة مزروعة بين تلك الصخور.. تعبق رائحتها مع عشبها وأشواكها وزواحفها وحشراتها.. روحي هناك!!" هكذا فكّر.. وهذه المرأة المدهشة.. كيف عثرت عليها بعد هذا الترحال.. "

شعر أن العالم ما زال يخبئ بعض الطيبة، وبعض الخير والبساطة.. والفرح.

"أتعرفين.. أستطيع أن أدلك على كل ما في هذه التلة؟! صخرةً.. صخرة، ما زلت أذكر شقوق كل منها.. الكهوف الصغيرة.. مخابئنا.. مخابئ الحب ورائحة السر الممتعة؟"

ضحكت.. وضحكت!!

"أجراس كنائس في ليلة العيد..

أصوات الفرح تتدحرج في روحي.. مع عينيها الصافيتين.. "

عيناها لم يزحف إليها العمر.. وزمن القهر والتصحّر.

"ما زالت فاتنة.. وشقية"

تحوّلت في لحظة إلى طفلة في التاسعة يسابق جسدها عمرها.. ويتفتح عن هدايا مدهشة للكون.. أرانب بيضاء وحمام زاجل.. زجاجات عطر آتية من الغيب..

طالما بحثا معاً عن أعشاش الطيور الملوّنة.. حين يناجي الجسد ضوء القمر..

هو الذي أحبّها كما (العشاق) آنذاك، كانت تكبره بسنةٍ واحدة.. إلا أن شعورها بجسدها كان يكبره بسنوات.. ذاك الأنين الغامض المنبعث من الخلايا الحائرة داخل جسد يضج بشتى المشاعر والطقوس الأنثوية الحالمة..

وهو الشاعر، منذ صرخة الحياة الأولى، حين ابتسم لأمه مع أول قبلة يلتقط بها رائحة المرأة..

كانت تبدو بجسدها المتفتح، أمام جسده الذي ينازع الوصول، مثيرة.. وناضجة!! جسده جدول.. أمام شلالاتها الفضيّة الغزيرة..

أحاسيسه نضجت.. قبل جسده!!

أغنيات الحب في تلك المخابئ روائح الفتنة والثنايا التي تغمز للقلب.. كانت ماءً سحرياً لتلتّف العضلات وتبرز.. وتشمخ القامة مع صفصافةٍ تعرّش نحو السماء..

كان جسده يكبر بعبقها!!

وكان يختلس النظر إلى كنوزها بعينين فضوليتين نحو الجحيم.. نيران المتعة، توتر اللهفة، الوصول إلى شيء ما، لم يكن يعرفه.. إلا أن غموضه ومجاهله كانا يزيدانه توثباً نحو الشعر.. والعذاب الطفولي المقدس. وكانت هي ترسم بجسدها عوالم مجنونة، ذات ألوان نارية.. مؤلمة ولذيذة!!

طهارة المعابد.. وكهوف الشيطان!!

كل حكايا (الجن) وسحر الأميرات، كانت تسكن ذاك الجسد، بلونه الحليبي، وصهيل ثناياه المطوية بأنامل ساحرة.. كل طية كانت تحمل دهشةً ولهفةً.. وفرحاً لا ينتهي، رغم وجع الجسد.. ووجع الروح، ونظرة الكون العاتبة باحتشامٍ أقرب إلى الخوف.. والتصوّف!!
طالما تساءل في ترحاله و تشرّد روحه عن تلك النغمة الطفولية المدهشة :

"كيف يمكن لأميرة الفرح أن يبقى جسدها الملكي بمنأى عن سر أسرار البراءة الأولى؟!

وكيف يمكن لشاعر ألا يضيع بين تلك المتاهات الصارخة؟!"

كانا يكتشفان أغوار الحياة البعيدة..

مغامرة الوصول.. ومغامرة العودة!!

رحّالة منذ البدء.. خبأ أعشاش الطيور داخل جيوبه.. ورحل، حمل صوتها، عبر عالم لا يهدأ ضجيجه.. إيقاعات حمقاء تملأ الكون نشازاً.. وضجراً، وأقدام ثقيلة تطأ الحلم.. وتكسره.

ذات يوم، حقد على العالم وانكسرت براءته الأولى..

شعر أنهم سرقوا منه (بلورة الأحلام) سرقوا أغنياته.. ولوحاته التي كان يرسمها بفرح.
حين رأى كدمة سوداء تحت عينها.. كانت في العاشرة آنذاك، أشارت إليه ألاّ يقترب، ورمت إليه ورقةً كتبت عليها:

"بابا سيقتلك إن رآك.. لا تصعد إلى التلة مرة أخرى"!!

أشار إليها، يسألها عن الكدمة، لوّحت بيدها، أن ابتعد، رأى دموعها مطراً رمادياً يهطل من سماء مجروحة.. أقسم أنه رأى تلك الدموع كما الجداول على عنقها.. وأقسم آنذاك أن ينتقم لها!!

ضحك.. حين تذكر أنه رمى والدها بحجر طيب وشاطر، حين حاول الإمساك به، حجر صلب طار من يده الصغيرة، بعزم وثبات، وكأنه يعرف أين يستقر، نظر إلى أبيها لحظة.. كان خيط دماء ينبعث من جبينه، ثم أطلق ساقيه للريح!!

وأطلق لنفسه عنان الترحال، إلا أنه حمل ذاك القسم في أعماقه.. وظل يكبر معه..

قال لها:

"لا يوجد امرأة في العالم أكثر إثارة منك.. إلا أنني أحب جميع النساء"!!

أشعلت سيجارة.. وتأملت قسماته التي تعبق برائحة الماضي.. وهذا المساء الفاتن.. قالت دون عتاب:

"ثلاثون سنة.. لم أسمع صوتك، خلتك ميتاً"!!

"اللعنة!! أنا لا أموت.. ما زال لي ثأر عند العالم"!!

وبعد برهة صمت.. قال:

"كنت أسمع صوتك كل غروب.. كل روابي العالم تحمل مخابئ للحب.. والطفولة!!

وكل نساء الأرض يحملن كنوزاً وهدايا.. لا كنز فيها يشبه الآخر.. ولكل هدية طعمها الخاص"!!

نظرت إليه.. كان يتحدث نفس النبرة.. ونفس البهجة التي تنبعث من روحه، حين كان يلتقط نبتة برّية أو يرى فراشة غريبة.. أو يفتح طيّة بيضاء تفوح منها رائحة السحر.. بين يديه!!

كان يجري نحوها، كما المُهر، ليريها حشرة سوداء اللون لا تدري كيف التقطها.. وكأنه كان يخلق كل هذه الأشياء.. كان يرسم العالم ويلونه بالرغبات والأماني.

(كم كنت عاشقاً)!!

قالتها مع دخان سجائرها المتطاير من بين شفتين ناضجتين.. لامرأة اكتملت فتنتها. مد يده نحوها.. التقط أنامل ما زالت تنبعث منها رائحة رفقة الجسد.. وتوّحد الحلم الذي ينساب جداول من العسل، وأسراباً من النحل والطيور المهاجرة.. في أسفل التلة نزعت حذاءها ذا الكعب العالي، عن أقدام طفلة تُجاري شقاوة طفل.. لا يكبر!!

كان جسد المرأة الممتلئ، يتحوّل إلى فراشة تحلق عبر صخور التلة.. ومنحدراتها القاسية..

وكانت أقدامه تتقافز مجنونةً وراء الجسد الأربعيني المتعرّق بأنوثة مراهقة شقية، ما زالت تكشف عن بريق الكون ودهشته.. حين يداعب الريح فستانها القصير.. تنساب عيناه اللتان، منذ الولادة الأولى، تختلسان النظر إلى تلك الأسرار البيضاء الحالمة..

كان رأسه يمتلئ بضجيج السحر الغامض، وهو يصعد بفرح القديسين وإيمانهم، خلف فراشته الملوّنة..

قصتان قصيرتان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى