الخميس ٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٢

قبل التركية: ؤأوّلا،..يا سيادة الوزير!

صالح القاسمي

تناهى إلى علمي أنّ السيّد وزير التّربية بتونس قد قرّر من منطلق تدعيم تدريس اللّغات وتعميمها لدى النّاشئة في تونس الشّروع في تدريس اللّغة التّركيّة اختياريّا بالمؤسسات التربويّة التّونسيّة بداية من مفتتح السّنة الدّراسيّة القادمة 2012-2013.

و هذا الخبر إن صحّ، وهو عندي صحيح باعتبار انتشاره بين عموم النّاس سواء على شبكات التّواصل الاجتماعي أو في المجالس الخاصّة ولدى المربّين منهم أو المواطنين العاديين، يبعث فينا كثيرا من الأسئلة التّي تحاول أن تبحث عن أجوبة مقنعة تزيل بعضا ممّا علق بالنّفس من ريبة لها ما يبرّرها بحكم المعرفة البسيطة بخلفيّة هذا القرار ودواعيه، ذلك أنّه لابدّ من التأمّل في ملابسات هذا القرار من حيث المبرّرات والدّواعي وطرق التّنفيذ والآليات والنّتائج المرجوّة وخلفيّته السّياسيّة وتأثير كلّ ذلك على القطاع التّربوي بالبلاد بصفة عامّة.

فالقائمون على الشّأن التّربوي بوزارة التّربية التّونسيّة – وهم قليلون اعتبارا لضيق دائرة القرار بعد قيام الثورة – قد استقرّ لديهم الرّأي على ضرورة تدريس هذه اللّغة التّركيّة وتلقين قواعدها نطقا وكتابة لدى أبنائنا التّلاميذ بالمؤسّسات التّربويّة قياسا على ما تقرّر سابقا لدى بعض اللّغات الأجنبيّة الأخرى مثل الفرنسيّة والأنقليزيّة والألمانيّة والإيطاليّة والرّوسيّة والصينيّة وغيرها..، وهو عزم راسخ في ضرورة أن يطّلع أبناؤنا التّلاميذ على لغات غيرنا من الأمم الأخرى في سياق ذلك البرنامج العالمي الذي ترعاه المنظمات التّربويّة والثّقافيّة بالخصوص من أجل فرض انتشار ثقافة الآخر إلى جانب ثقافة الذّات في إطار ما بات يعرف بـ”حوار الثّقافات” زمن سلطة القمع والضلال والفساد التّي كانت مفروضة فرضا على شؤون هذه البلاد في العهد السّابق.

ولمّا كان القطاع التّربوي أو الثّقافي لا يؤسّس ذاته إلاّ عبر اللّغة باعتبارها أداة تواصل بين المجموعات البشريّة ، فإنّ الآخر، أيّا كان هذا الآخر، يسعى إلى فرض انتشار لغته القوميّة عبر الوسائل المتعدّدة (إعلام، ملتقيات ومنتديات، كتب،…إلخ)، وهذا الأمر لم يكن شأنا حديثا وإنّما كان أمرا قديما استطاع الاستعمار الفرنسي أن يزرعه في التّربية والثّقافة التّونسيّتين إلى حدّ ما خلال تاريخ استعماره هذه البلاد، فنشأت زمن الاستعمار الفرنسي وبعده إدارة فرنسيّة تعتمد اللّغة الفرنسيّة في تواصلها ومراسلاتها الإداريّة وتسعى إلى فرض هذه اللّغة في المجال التّربوي إلى حدود العشريتين الأخيرتين من الألفيّة الماضية، ولكن استطاع أن ينشأ في صلب الإدارة التّونسيّة خلال تلك الفترة تيّاران -سواء في الإدارة أو القطاع التربوي- متنازعان: أحدهما فرنكوفوني غربي ينتصر إلى الثّقافة الغربيّة مجسّدة في الفرنسيّة واللّغات الأجنبيّة الأخرى وثانيهما تقليدي يبحث عن السّبل المجدية للحفاظ على الهويّة التربويّة والثقافيّة الأصيلة التّي حاول المستعمر الفرنسي أن يمحوها وينتزع الكثير من ملامحها، ولقد تجلّى هذا الأمر في الدّعوات المنادية بالتمسّك بالتّعليم الزّيتوني ومحاولة إيجاد الآليات القادرة على بقائه وديمومته، ونحن اليوم في معرض حديثنا لن ندخل في مماحكات حول هذا الموضوع وإن كان يحتاج إلى دراسة خاصّة بشأنه مستفيضة، بل إنّ ما أصبح يدور اليوم من جدل حول هذين المنحيين قد احتدّ وبدأ يأخذ مسارا آخر لا يبتعد كثيرا عمّا أنجزته الطّبقة الحاكمة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 التي استطاعت أن تنحرف بالثّورة النّاشئة عن مسارها الطّبيعي.

لذلك فإنّ القراءة المتأنية لخلفيات هذا القرار لا يمكن أن تتجاوز فلك تلك الزّيارة التّي أدّاها السيّد طيب رجب أردوغان رئيس الوزراء التركي إلى تونس والتّي استطاع من خلالها أن يبرم الكثير من الاتفاقيات ضمن اللّجنة المشتركة التّركيّة التّونسيّة وأن يتمّ التّسويق لحزبه السّياسي (حزب العدالة والتنمية) في تونس على أساس أنّه الحزب المتوازن والقادر على أن يكون أنموذجا يطبّق في تونس.. ولقد كانت من ضمن الاتفاقيات المبرمة حينها أن تتولّى وزارة التّربية بتونس اتّخاذ قرار يقضي بتدريس اللّغة التّركيّة في المؤسسات التّربويّة التّونسيّة بما يمكّن من انتشار الثّقافة التّركيّة على اعتبار أنّها ثقافة إسلاميّة تدعو إلى التّسامح والاعتدال.
في هذا السّياق كان حريّا بسلطة الإشراف أن تدرس مليّا تبعات هذا القرار… ولكنّ الأمر كان قد حسم إذا كان مشروطا بالكثير من المشاريع التّربويّة أو الاقتصاديّة أو غيرها التّي سيتقرّر بعثها في بلادنا..لذلك فإنّ هذا القرار لم يكن قرارا حرّا بالأساس بل كان قرارا تحت طائلة المصلحة والمنفعة للجانبين التّونسي والتّركي وهذا الأمر لا يستجيب لأحد أهداف الثّورة المتعلّقة بحريّة القرار الوطني وتحييده عن التدخّلات الخارجيّة.

أمّا كيف سيتمّ تفعيل هذا القرار ، فإنّ سلطة الإشراف قد تخيّرت الحيّز الزّمني الذي يمكّنها من تمريره في صمت ودون أن يثير ضجيجا في السّاحة التّربويّة ذلك أنّ التّلاميذ منشغلون في هذه الفترة الزّمنيّة بالامتحانات الوطنيّة وامتحانات الثّلاثي الثالث من السّنة الدّراسيّة والأولياء كذلك والمربّون ممّا قد يجعل من هذا القرار قرارا متسرّعا بعض الشّيء فما ضرّ لو تمّ التّشاور بشأنه مع الإدارات المركزيّة المعنيّة (برامج، تدريس، امتحانات…إلخ) وكذلك مع الفاعلين الرّئيسيين في المنظومة التّربويّة (أساتذة وإداريين ومتفقّدين…)؟؟

إنّه قد يشفع للسيّد الوزير انشغاله بالمجال اللّغوي (أستاذ لسانيات بالجامعة التّونسيّة) وسعيه إلى الاطّلاع على ثقافة الآخر ونشرها لدى النّاشئة التّونسيّة ، ولكن ماضرّ لو تمّت دعوة أساتذة اللّغة العربيّة ،باعتبارها أنّ اللّغة العربيّة هي اللّغة الأصل لهذه البلاد واللّغة المتضرّرة من هيمنة اللّغات الأجنبيّة الأخرى ضمن البرامج التّربويّة الرّسميّة، وتمّ الاستماع إليهم في تشخيص مواطن الخلل في تدريس هذه اللّغة والحلول الممكنة للارتقاء بها؟؟، ثمّ ماضرّ لو تمّ النّظر في تداعيات تدريس هذه اللّغة التّركيّة على تدريس اللّغة العربيّة الأمّ “لغة الضّاد …لغة الآباء والأجداد” فكيف سيتمّ تطبيق ذلك ضمن توزيع ساعات التّدريس على الفصول .. هل سيلجؤون كعادتهم إلى التّقليص من عدد ساعات تدريس هذه اللّغة؟؟

إنّني أسأل السيّد الوزير وحاشيته الموقّرين من أصحاب الرّأي في اتّخاذ القرار هم أيضا حول ملابسات اتّخاذ هذا القرار وغيره من القرارات الأخرى… لأنّ القطاع التّربوي على أهميّته وجدواه في هذه البلاد وكلّ البلاد الأخرى هو ملك للأجيال المتعاقبة التّي يجب أن نفكّر فيها مليّا وفي مستقبلها…أقصد طبعا مستقبلها في التربية والتّعليم والثّقافة والتّشغيل …إلخ، إن كنّا طبعا نبحث عن كيان تربوي متجذّر في هويّته العربيّة الإسلاميّة…

مهلا سيادة الوزير وعذرا زملائي مدرّسي بقيّة اللّغات الأخرى بالمؤسسات التّربويّة، فإنّ لغتنا العربيّة في مؤسساتنا التربويّة تحتاج إلى عمل كبير وجهد جدّي أرحب أفقا وأكبر من أن نخصّص لها يوما وطنيّا أو نفاخر بتوطين لغات أجنبيّة أخرى داخل عقول ناشئتنا ونترك لغتنا العربيّة حبيسة الفصول المدرسيّة فحسب…

لذلك فإنّني أدعو من موقعي البسيط والمتواضع باعتباري مربّيا أوّلا وموظّفا إداريّا ثانيا وعضوا في هيكل نقابي ثالثا إلى حوار شامل و مفتوح لجميع المساهمين في الشّأن التّربوي ودون استثناء قصد إرساء أرضيّة صحيحة تكون منطلقا لمسار تربوي ثوري تقدّمي يقطع مع أساليب الماضي في منظومتنا التّربويّة وينتصر دون مواربة لأهداف هذه الثورة…

صالح القاسمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى