الاثنين ١١ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم مصطفى عبا

نصُّ الهيَام

هذا النص يوجد ضمن مجموعتي القصصية "أصواتٌ في الجسد" التي صدرت لي سنة 2000، ويحلو لي هنا إعادة نشره بغية مشاطرته مع الإخوة قراء وكتاب "ديوان العرب"... ومرحبا بالنقد والتعليق.

وأخبَرَني الذي ثقتي فيه لا تُحَد، ورجائي في حضْرتِه لا يُصدّ، وهو خازِنُ سرِّي وسابِرُ غوْري، الكَاوينِي الشَّاويني، العارِفُ أمري وضَرِّي، قال رحمه الله: لا يصلُ الحبيبُ إلى الحبيبِ إلا شهيداً أو شَريداً، ألا أرِق كأس الكَرى، واسْعَ كاليعْبوب في الأراضينِ يقظاناً حذِرا، لا يغُرّنَّكَ الْيَلمَعُ السّرَاب، ولا يبكيَنَّكَ الطلَلُ الخَراب، سِر في شعاب الأرض وئيدا، خُض البيد والوِهاد وحيدا، ولمّا تَبْلغ من السّعيِ أشُدَّه، وتنتابُك النّوائبُ والشِّدة، عرِّس ليلةً بدرُها تعمَّمَ هالة، وأقِم صلاتَك في محراب بنتِ الكُروم، حتى إذا لاح قرنُ الغزالة، لمْلِم صِلاتِك لليوم المعلوم، واعلَم أنَّه لا بُدّ آت، وأنَّ كل ما فاتَ مات.

كذلك يمّمتُ شطرَ من رامَ عني، أنا اللِّي نبا بي الدّهرُ وجفاني الخليل، أوغِلُ في التّيه بيْنما الحبيبُ يوغل في الرحيل، أُكدِّس الخطوات في الترحال، ولسانُ حالي سؤال: ألَمْ نتَواصَ بالوصالِ لا بالفِصال؟ ألمْ نُوصَ بالعِناق لا بالشِّقاق، وبالوفاق لا بالفراق؟

حدَّثني شيخي أبو البَركات قال: اعلَم أنّ عرسَ ليلةٍ تدبيره عام، قلتُ: ما طينُ ليْلايَ كهذا الأنام، هي التي إن لمستُها تبدَّدتْ، وإن اقتربتُ منها ابتعدَتْ، هي العيدُ تعاودُني في صحوتي وغفوتي، بِيگمَاليونُها أنا، وأنا أبو عُذْرها، واللهِ إمّا بي أو بِها. قال: إنّ سوقهُنّ كاسدة، ومعاشرتُهنَّ وربِّكَ فاسدة، إني لله ناصِحُك، عساكَ تتعَقّل، يا من تجهَل. قلتُ: قد تكون امرأتي لغةً حارَّة حرَّى، تَقْبلُ الاشتعال بالشِّعْر والبُشرى، تشيلُني إن شاءتْ حتى كوكبِ الشِّعْرى، في ذروة اللهاث كرّا وفَرّا، نسافر الواحدَ في الأُخرى، حتى لا يبقى إلاَّنا، ولا شيء سِوانا.
وأتاني المُنذِر، على غِرّة يهْدِر، أرعَدَ صوتُه في سمعي، إلى أن سال دمْعي، حينذاك عرفْتُه ووعَيْت: إنه غير مَن ادّعيْت، كلاّ إنه تقَمَّص وانتَحَل، ولكن إلى غايته ما وَصَل. كذا رمَقْتُه بنيران عيْنَيّ، فرأيته يلتوي متقهقرا، لا يلوي على شيّ، هازئاً مُزمجِرا: ويلٌ لمَن رام أَمَةً لا تُوجَد، لا هٌيولى لها ولا جَسَد، إيمَ والله إنكَ في هواك هائِم، وفي خضَم الضلالة عائم، اشهد اللهمّ كم هو لنفسه ظالِم.

وما كدتُ أهُمّ بالانقضاض عليه، حتى أسْلَم للريح قدميه، وأبصَرتُه يجرجر جسمه المُقَوس، مُنضْنِضاً كالفَنَن المُسوَّس. ثم جاءني صوتُه مع الصَّدى، كأنه آتٍ من المَدى، يجلجل كالرعد، قال: خُذ لكَ الشَّهْد من النّهد، أَكرِمْ به من سلسبيل، يشفي الغليل، ويداوي العليل، هما نَهدان يهتزان في خِفَّة الغِزلانِ، وَديعان لهما طعمُ التُّفاح، ومفعول الرّاح، وطيبُ الريحانِ، على جيدٍ دافئٍ ذا يربِضُ منتفخا بالحياة، وذاك قائمُ الحلْمة حالِمٌ يرنو كرضيعٍ وديعٍ مُتورِّد الوِجنات، وتيَمّمْ برِدفينِ كدلاّحَتيْنِ مِن رَبْع دُكّالة، ذا بضٌّ خالصٌ، وذاك أَسْمر ُأو موْشومٌ بخالَة، جاز بهما التَّيمُّم، وحُقَّ بهما التَّرنُّم والتَّنغُّم، صارِمان تارة ًوأُخرى لاهيانِ باسِمانِ، واحِدُهما لُؤلؤٌ، والآخَرُ تلٌّ من مَرجانِ، وجودُهما شيءٌ خارق، ألا سبحان الخالق، فمهْلاً مهلاً أيها المارق.
قالها واندثر، وإلى الآن لم أعثُر له على أَثر.

وطفقتُ أضرِب في الأرض غورا ونجْدا، كالهيم أهيمُ قَصْدا وعمْدا، نَعْلي الريح، وزادي شحِّيح، جُلتُ أقاصي العجم، وصقيع بلاد القزم، حتى إذا نال مني السَّقَم، وأعْيتْني السياحة والجَوَلان، قفلتُ آيِباً إلى أرض عَريبَّان، دون أن أصيب حاجتي، أو أنال بُغْيتي، فآوتْني أمصارُ وأقطارُ، وبراري وقفارُ، ما عَبَرها رحَّالةُ طنجة، فيها أقوامٌ عَجَزة، عقولهم في فروجهم، تقتُلُهم جَرَّةُ الكمنجة، قُعَدةٌ جُثَمة، ضُجعَةٌ نُوَمَة، لا وقتَ لديهم للوقتِ ولا هم يحزنون. فلما أصابني من عوائدهم كَمَد، وقد كان لي بينَهُم أمَد، عنَّ لي أن أقصد رأس الجبل، فاصطليْتُ محنة سيزيف قبل أن أصل، تجلَّدْتُ بصبر أيوب، والتّطَلُّع إلى لقاء المَحبوب، وفجأةً لاح نورٌ لا كالنُّور، ورأيتُ خيوطه إلى ما وراء السُّور، تجذبني فطاوعت، وبسملْت وحوقلْت، حتى أن انجلى الشّعاع من عيْنَيّ، فرأيتُني في حضرة مَن كَوَتني الكَيّ، كانت هيّ هيّ، منتفخة الوسط، متوسطة العُمر، عامِرة الصّدر، دونها البَدْر، غزالة ميّادة، بحُسْنها جوَّادة، قالتْ: وصَلْتَني فواصِلْني، سألتُها: كيف؟ قالتْ: دعْنا مِن كيفَ وهَلْ، وعسى ولَعلْ، عجِّلْ عجِّل فالأيامُ دُوَل. لبّيكَ يا صاحِ لبَّيك، فأمري الآن بين يديك.
وتجرَّدَتْ نُصبَ عينَيَّ وردَّدتْ: هيتَ لك! فرأيتُ من بين ما رأيتُ الذي الحُسْنُ هُو، نبع الكوثر، الناضح بطيب العنبر، عيْنُ الحياة الغَدقى، العذب ماؤها، الطيب أريجُها، فقلتُ وبي مسٌّ من ولَعٍ وهيَام: ألا كيْفَ حالُه؟ قالتْ: مَن؟ قُلتُ: ذاك الجميلُ الوَقور، الراقِد المُتهالك، الرابض بين ساريتي الرّخام، عليه مني السلام، العاكف في نجمه الكثّ الحالك، الذي إن رواني انقضى الكلام، والذي إليه المأوى والمرجع، حَنانَيْه هو النبع المُمتِع!

وجاءني صوتُها في الصدى، يُوغل في المدَى: ألاَ ليتَ لكَ عيناً، وليت لي ما ليس لك!
ودَنَتْ مني ودنوْتُ منها، ثمّ أغمدْتُ فيها سيفي حتى تأوَّهَت وقالت: قتلتَني قاتلَكَ الله! وطوَّقني متَاعُها النورانيُّ الدّامي، وطوّقْتُه حتى كدتُ أكونها وكادتْ تكونُني، فتصلّب السيف في الغمد، وانشرح الباقي من صدري الهشِّ، فلكأنني بها تشدني لأدخل ثم أدخل بجملتي وتفصيلي في عُمقها الذي ما له من قرار. وظللتُ على الحال نفسهِ، وظلتْ على الحال نفسِها، حتى لكأنّ أحوالاً مرّتْ، وأعمارا كرّتْ وفرّتْ، وبين الكر والفر كان الموت والحيوان، وكان طيبُ النَّدى والنِّد يتصبَّب مني ومنها عرقاً كأنه الطوفان، وهَدْياً وقَلائدَ وأشياء أخرى لا يسعها ذِكر البيان.

وبينما نحن على ما نحن فيه إذ هاتفٌ يدعوني إلى القيام والرحيل، ويدعوها إلى المُساكنة والمُهادَنه والقُعود. ولما ألحَّ سلَلْتُ مُجَدَّدا ًسيفي من نصله النوراني الدامي، فتأوَّهتْ هيّ، وتخشَّعتُ أنا، ثم أصغتُ السمع فما لفيتُ غير ما رأيتُ، وها ما رأيت: رأيتُ الشمس والقمر، رأيتُ القَذى والحجر، والريحَ والرعد والبرْقَ والقمر... تصدَّعتْ لِما عاينْتُ أطرافي، وسَحَّ الجبين، ودخلَتْني قُشعريرةٌ دخول الموت، فناديتُ وقد نضَبَ في داخلي الصوت: يا هذا الهاتف دعْني! دَعْنا وافصِحْ أجِنيٌّ أم إنسٌ أنت؟َ قال: يا هذا المُتلذِّذ بالأطْيَبِ مما ملَكتْ يمين! إنني اليومَ مُحذِّرُك، وعساني غداً مُنذِرُك، فتماسَكْ وأمسِكْ كما أمسك من قبلُ بودا، وأعرِضْ كما من قبل يوسف الصِّدّيقُ أعرضَ عن هذا. قلتُ: سيِّدي يا صاحب الصوت! لقد دخل السيف نصله إلى حدِّ الموت، وانصهرَ الجسدُ في نصفِه آنَ اللُّقيا، فكيف وهل يَحِلُّ الإعراضُ بعد ذاك يا سيد البقاء؟ قال: أتْفوووووو... إنك منذورٌ للَّذاتِ ومنذورٌ للشقاء، فاشهَدْ أنكَ غداً مُلاقِني ولن تعرفني.

وما كفَّ الصوتُ عن صِواتِه حتى عدتُ إلى جسدي، فما وجدْتُ غير الصدى والسراب، وتلك علامة الهجر والبَيْنِ والغياب. صُلتُ وجُلتُ شمالاً وجنوبا، يميناً ويسارا، فما رأيتُ لمن أسعى خلفها أثرا...

وأقسمْتُ بالذي يولج النهار في الليل، والليلَ في النهار، أن أسلُك خلْف الحبيب شِعابَ الأرض والقفار.

وتذكّرْتُ صوتها الذي أتاني مع الصدى، موغلاً في المَدى: "ألا ليت لك عينا،ً وليتَ لي ما ليس لك!". وبينما أنا أجتهد في فكّ معنى القول، دار الحَول، وهِمتُ في الأرض بغير خليل ولا مَطِية، ولا أنيس غير طيف المعشوق، سمعتُ صوت الهاتف الملحاح ينادي ويقول لي: مَن عشقَ فعفَّ فماتَ فهو شهيد. قلتُ: لك الاستشهاد وحدك يا سيدي، ولي وحدي الوحْد والوحدة. قال: تلك غاية اللذة! قلت: اللذة هي التوحُّد في الجسد الآخَر والكينونة فيه، وذلك فصل من فصول الموت الجميل. قال: متعة الروح والعفةُ العفة غاية المؤمن وسبيله إلى الجنة! قلتُ: هاتِ ما سلبتَني ولك مني ما تبَقَّى. قال: عنيدٌ أنت ومنذورٌ لجحيم الدنيا، فاشهَدْ أنك غداً مُلاقِني ولن تعرفني، وإن عرفْتَني لن تلاقيني. قلت: مَنْ أنت؟ قال: أنا أنت.

قالها واندثر، وإلى الآن لم أعثر له على أثر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى