السبت ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم مــصــطــفــى بــوعــزة

هَــــلةٌ لِـــطـــلَّة

صدر للشاعر المغربي الكبير أحمد بنميمون، ديوان شعر جديد بعنوان " تأتي بقبض الجمر" عن مطبعة «إمبريما مدري» بتطوان ، بعد «مباهج ممكنة» (2008) ، و« أصوات الولد الضال» (2011) .والديوان في (116) صفحة من الحجم المتوسط . وتزين الغلاف لوحة تجريدية للفنان المغربي بلال الشريف، تأخذ من الصفحة ثلثيها، ويغلب عليها اللون الغامق المظلم، تخترقه خطوط متقاطعة حمراء وسوداء . هذه القتامة التي يفيض عنها الحزن والغضب، وتوحي بالظلم والثورة، بالجدب والتضحية، تنبجس من باطنها لمعة زرقاء تستقر في عمق اللوحة، وتبدو مثل منبع دافق بالأمل الدائم الصاحي، الطالع من قلب اليأس الضاحي المدلهم . هو الماء الأزرق أصل الحياة والخلود. هو السماء الصافية الزرقاء حيث يتراقص الحلم وتسبح الرؤى. حتى إذا أسرتك اللوحة وألهمتك ما ألهمتك، أسلمتك إلى اسم الشاعر بلــون رمــادي عــلى خلفية بيضاء، يتلوه العنوان بخط أكبر، « تأتي بقبض الجمر» بلون أحمريلتهب كما تلتهب الألفظ بدلالاتها. وهو مكــون من جـملة فــعليــة فـعلها مضارع (تأتي) ،وبعده جار ومجرور (بقبض)، يتلوه مضاف (الجمر). أما الفعل فقد سكت الشاعر عن فاعله وترك الأمر مفتوحا تتداعى منه التأويلات، ويأخذك في سيل من الدلالات : هو ضمير الغائبة المؤنثة (هي) أو هو ضمير المخاطب المذكر(أنت). وما هي الإحالة في (هي)؟ أهي المعاني السامية التي يتوق الإنسان الأصيل إليها؟ من حرية وكرامة وعدالة وتضحية ... وغيرها مما يجعل منه أن يكون حريا بأن يسمى إنسانا حامل الأمانة. وهي قيم لا تدرك إلا بالمكابدة، والمغالبة، والتدافع، وخوض ضروب الألم كقبض الجمر. وما هي الإحالة في (أنت)؟ أهو الشاعر نفسه يخاطب ذاته التواقة المكابدة. كما خاطب أبو فراس نفسه في (أراك عصي الدمع).وهذا وجه يتأتى أكثر، إذا أنت قرأت اسم الشاعر ووصلته بالعنوان بلا وقــــف. وعلى هذا ينفتح تأويل أوسع يزكيه شــبه الجــــمــلة ( بقبض الجمر) في علاقته بالفعل (تأتي) ودلالته المعجمية ثم الوظيفية التركيبية. فلو اعتبرناه بمعنى (يجيء) كان شبه الجملة ذا وظيفة إلصاقية، كما تقول :(أخذت بطرف الثوب) أو وظيفة استعانية كما تقول (كتبت بالقلم) فالمجيء لا يحدث إلا بالاستعانة بهذا الواسط المؤذي المحرق الذي هو (قبض الجمر). ولو اعتبرنا الفعل بمعنى (يفعل) أي يسلك سلوكا كما تقول (يأتي الكذبَ) كان شبه الجملة ذا وظيفة حالية أي تأتي وأنت قابض على الجمر، أوتأتي قابضا على الجمر. كما تقول: (أتيت هذا العمل بشق الأنفس) أي فعلته على هذه الحالة مجهدا متعبا مكدودا. وهذا العنوان نجده في باطن الكتاب عنوانا للقسم الثاني حيث إن الشاعر قسم ديوانه هذا إلى قسمين وجعل لكل قسم عنوانا.

القســــــــــــــــــم الأول :

جعل لهذا القسم عنوانا هو « حدائق السراب» ويضم أربعة وثلاثين قصيدة .وهي قصائد تفعيلية أغلبها من المتدارك والرمل والكامل والوافر والمتقارب.أو مما سمته نازك الملائكة بالبحور الصافية. إلا ما كان من قصيدة «حيث تطير الأقدام»، والتي صرح الشاعر في نهايتها، بأنه زاوج فيها بين الوزن والنثر. ولا عجب فشاعرنا من رواد قصيدة النثر منذ ديوانه الأول(تخطيطات حديثة في هندسة الفقر) (1974 ). لكنه لا يعتبرها منتهى الإبداع الشعري العربي، كما استقر عند كثير من أنصارها. وقد عبر عن ذلك في هذا الديوان حيث قال في الصفحة (108 ) « أنا من أنصار الإبداع بكل الأشكال ولست خصما لقصيدة النثر .... فقط يضايقني من يقول بأنها الشكل الشعري الوحيد الممكن للكتابة الشعرية منذ لحظتنا الأدبية الراهنة فصاعدا». وتمتد قصائد هذا القسم على فترة زمنية تبدأ من (1982 ) إلى (2011 ). وذلك من قصيدة «بيسان» وهي القصيدة السابعة والعشرون في ترتيب الديوان . و«بيسان» اسم ابنة للشاعر، والقصيدة على قصرها تؤرخ لميلادها، كما تؤرخ للحظة تأمل فاصلة في حياته، حين أحس بالثبات والاستقرار حيث اطمأن إلى الأرض، فاستقر حاضره ولاح له مستقبله، وحدد اتجاهه. من تلك القصيدة إلى قصيدة « نوبة استهلال من مقام عشاق الربيع» وهي القصيدة التاسعة والعشرون في ترتيب الديوان. وعنوانها يومئ إلى الموسيقى الأندلسية ونوباتها وطبوعها. وقد كان الشاعر ألقاها في المهرجان الشعري الذي نظمته جامعة تطوان يوم ( 26 -10 -2011 ) تحت شعار « القدس في القلب» ثم نشرها في "القدس العربي" في (17-11-2011 ) تحت عنوان مختلف في ترتيب الكلمات « استهلال نوبة عشاق الربيع». وليس بين قصيدة « بيسان » الأولى في الزمن، وهذه الخاتمة للزمن، إلا قصيدة واحدة في ترتيب الديوان. وكأن الشاعر قد أقام ديوانه وقصائده فيه على تقنية الاسترجاع في الكتابة القصصية. فطاف في أزمنة شتى ثم عاد مسترجعا حيث الميلاد والمنبع ليحل بالحاضر القريب حيث القضية؛القدس في القلب،مدخلها وإلهامها من الأندلس،هما الفردوسان أحدهما ضاع والآخرقاب قوسين.

وأنت إذا تأملت عناوين القصائد، انبرت لك كلمات صارخة تعيدك إلى اللوحة في الغلاف، والتي ألهمتك منذ النظرة الأولى بما طلعت عليك، وبما وسمتك به من مشاعر غامضة قاتمة ذات غبار وقترة، فإذا أنت تتوالى عليك قوية جارفة كلمات : ضائعة – سيف – غسق – انطفاء – جثة – كف حمراء – حرب – البوار – قانا – الخائف – العقم – لا تضيء – نارين – موت – الحجارة – الموت الجديد – دم – دمع – دمار – السراب. وتبحث عن الزرقة عن الماء، عن السماء، عن الأمل، فتلقاك مهللة باسمة طلقة مشرقة، كلمات : أغنية – الملاذ – شعاع – صباح الزهرة – عرس – البهاء – أنجم – الأحفاد – عشاق - الربيع – حدائق. وهكذا تقوم هذه الثنائيات في تضاد غير متكافئ كاشفة عن رؤيا تفجر النور من قلب الظلام وتسلخ النهار أو كما قال في قصيدة «الأحفاد»:

إذا ربيع أوهم الدنيا بحلم
طاف كالإشراق
في الأعماق
وكما قال الشابي من قبل
الفجر يولد باسما متهللا
في الكون بين دجنة وضباب

القســـــــم الثــــــــــــــاني:

وهذا القسم الذي اختار الشاعر أن يكون عنوانه «تأتي بقبض الجمر»، هو عنوان الديوان كله. ويضم ثمان قصائد تمتد في الزمن من عام (1991) إلى (1995) . وأنت إذا بدأت القراءة تكشف لك ما غمض ، وانفتح ما كان أغلق عليك حين الصلة الأولى بالعنوان على الغلاف. وتخليت عن تلك التأويلات المفتوحة القائمة على الدهشة الأولى، والانطباع المفتون بالرؤيا، فإذا الشاعر نفسه يكشف لك عن الدلالة الخفية والإحالة المضمرة في الفعل (تأتي): إنها (الأسئلة) يقول في مطلع أول قصيدة "سؤال الجمر" ( تأتي بقبض الجمر أسئلتي إلي) . إنها الأسئلة الباحثة المحظورة، المثيرة للغضب، المستفزة لنزوة القمع والإذلال والتعالي والصلف. ولذلك يكون الرد قاسيا، والزجر عنيفا شرسا، يصب جام الحمم صبا، ويلقي بجذوات الجمر لهيبا محتدا. والسؤال مفتاح المعرفة، والمعرفة سلطة وقوة، وقوتها مخيفة؛ ترعب الظالم وتردعه. لذلك يسد السبل إليها، ويتوعد من يقترب منها ويحوم ليكشف سرها. وتمتد الأسئلة على مدى قصائد ست : سؤال الجمر ، سؤال الرماد، سؤال الغضب، سؤال السراب، سؤال الخراب، سؤال الانتماء. وإذا كانت قصائد القسم الأول قائمة على السطر الشعري، يقصر فيه النفس حينا ويطول أحيانا، في تدوير وتضمين، أو بالأحرى في وقفات عروضية أو دلالية، فإن قصائد هذا القسم قامت على الجملة الشعرية الطويلة الممتدة، لتخضع متساوقة مع هذه الدفقة الشعورية المسترسلة المتواصلة، التي لاتتعب ولا تكل، بل تنطلق ملحة، مُلحفة، ملحاحة إلحاح السؤال الوجودي. كالطرق على الباب يتصل ممتدا لا يتوقف، في صبر وأناة وثقة وإلحاح لا ينتكس حتى يفتح الباب

أخْلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومُدمن الطرق للأبواب أن يلجا

وأنت إذا وقع بصرك على القصيدة في هذا القسم، بدت لك قطعة نثرية. فتبني من ذلك حكما للتلقى يهيئ لك ما استقر في حدسك، وسابق معرفتك لتُـقبل مطمئنا لذلك. حتى إذا خضت غمارها، تكشفت لك عن غير وجهها، وسبق إلى نبض وجدانك ، وفطرة الزمن فيك، مُهتزا كأفنان الربيع، إيقاع تفعيلي رنان، ينساب في ثناياها، انسياب الرواء في أعطاف الزهر (متفاعلن ، متفاعلن، متفاعلن ...) ، وإذا الصورة مختلفة عما افترضت. وإذا المكتوب قصيدة. هذه الدهشة في البناء لا تقل عن الدهشة في السؤال ؛ القصيدة دهشة، والسؤال دهشة. القصيدة مستمرة في المدى والسؤال ممتد في الزمان. وكما ارتبطت الألفاظ في القسم الأول باللوحة في سوادها وزرقتها، يرتبط هذا القسم بها. فالجمر والرماد والغضب والسراب والخراب، توحي بالقتامة والظلم واليأس. ويطل الانتماء من بينها، متهللا، في قوة الثبات والاستقرار، والحياة الأولى، والأصالة، والعزة والكبرياء. هي الزرقة الآملة بين الظلمة والضباب.

لقد أبدع الشاعر فيما قدم وأدهش القارئ معه، واستثاره واستنفر مخيلته بجماع الكتاب من غلافه ولوحته وعنوانه وقصائده...وإذا كان قد ختم ديوانه بما سماه نداء استغاثة، في لحظة قال إنها تكاد تشرف به على الانهيار، فإنه على العكس من ذلك قد طاول المدى، وسامق الفضا معنى ومبنى، إيقاعا وصورا، إدهاشا واستثارة وإمتاعا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى