السبت ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
مصافحة..
بقلم بلقاسم بن عبد الله

أم سهام رابعة العشق الأدبي

.. وإلى أي حد تستطيع المرأة المثقفة أن تواجه المرآة العاكسة وتبوح بتداعياتها وبجواهرها المكنونة، تتحدى سلطة الآخر الآمر الناهي وسط كوكبة العائلة والقبيلة، وتتخلص من ذراع الرقيب اللبيب الذي يتربص بشجر الكلام وهمس الجفون؟.. تساؤل شرعي مثير للجدل، واجهني هذه الأيام وأنا منهمك بشغف في مصافحة وتصفح مؤلفات صديقتنا الأديبة المتميزة: أم سهام، رابعة العشق الأدبي فهي ظاهرة أدبية حقا، مغرمة بحرقة الكتابة وتجليات الحرف الإبداعي.

بعيدا عن أبجديات التواريخ المهملة والأرقام المهمشة، يمكن أن نتحدث عنها بالمختصر المفيد، فهي من عائلة بلال العريقة بمدينة ندرومة الأصيلة، إحدى أهم الحواضر التابعة لولاية تلمسان، عبرت في دراستها وتكوينها عدة مدن، من وجدة المغربية إلى بشار بالجنوب الجزائري، قبل أن يستقر بها المقام بوهران الباهية، حيث أتمت دراستها الجامعية، واشتغلت أستاذة في التعليم الثانوي، قبل أن تحال حاليا على التقاعد، وتتفرغ لعشق الكتابة وممارسة النشاط الأدبي والثقافي.

هي كاتبة جزائرية كما تقول في سيرتها الذاتية المتوفرة لدي، مسكونة بالجرح والورد وهاجس الإبداع حتى النخاع، كاتبة تحمل بذور حلم التمرد على ترسبات الماضي الراكد، فترى الأدب نزيفا داخليا لا ينقطع، تهفو إلى حياة معشوشبة متحركة متجددة، تبني من اليأس والحزن والتمزق قبابا من الأمل والحب وطاقات خارقة من المقاومة..

ويقول عنها عميد الأدباء والمؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القسم سعد الله:تكتب أم سهام القصيدة النثرية بأسلوب التداعي والرمز والتحليق والتوهج. حتى لتجعلك تحس انك في أرجوحة معلقة بين السماء والأرض، ثم تهبط بك الى عالم الاوجاع والذكريات الحالكة والحصار الوحشي الذي لا يرحم..

في خزانتها العامرة كما في مكتبتي الخاصة مجموعة من مؤلفاتها الأدبية الموقعة، حسب تنوع الأجناس، من القصة والمقالة إلى النقد والشعر. ومن أبرز هذه الكتب المطبوعة: جولة مع القصيدة (دراسات ومقالات)- شظايا النقد والأدب (دراسات ومقالات)- الرصيف البيروتي (قصص). من يوميات أم علي (قصص)- زمن الحصار وزمن الولادة الجديدة (شعر)- أميرة الحب(شعر)- حكاية الدم (شعر)- فتح الزهور (شعر)- أبجدية نوفمبر (شعر). إلى جانب مخطوطات تنتظر الطبع.

و لها إسهاماتها العديدة في مجال الترجمة الأدبية، حيث ترجمت مجموعة الشاعرة إنصاف عماري عثمان، بعنوان سمراء النيل من العربية إلى الفرنسية، وكذلك مساهمتها إلى جانب الأستاذ حسين ديب في ترجمة كتاب: مفدي زكريا شاعر مجد ثورة. لمؤلفه: بلقاسم بن عبد الله. ومن المنتظر أن يصدر قريبا في إطار تخليد خمسينية الإستقلال.

تربطني بالأديبة أم سهام علاقة صداقة ومحبة وتقدير منذ أزيد من ثلاثين سنة، كانت نقطة البداية أثناء زيارة الشاعر الكبير نزار قباني لمدينة وهران يوم 10 أفريل 1979 عندما كتبت كلمة إفتتاحية يومئذ بالنادي الأدبي تحت عنوان: شاعر الحب بين أحضان الباهية. لتفاجئي يومها بمقالة مطولة دفاعا عن الشاعر المحبوب، نشرتها بنفس الملحق تحت عنوان بارز: دواليب الهواء ونزار قباني. وأثير وقتئذ نقاش مطول على مدى شهرين حول شاعرية نزار وعلاقته بالقضايا العربية المصيرية.

ومنذ ذلك الحين، إندمجت أم سهام وتفاعلت بشوق ومحبة مع الكتابة والإبداع، وتوالت إسهاماتها العديدة في مجالات القصة والمقالة والحوار الأدبي ومتابعة جديد المجلات الثقافية. وظلت وفية مخلصة لينابيع وأنهار عشقها الإبداعي من خلال ملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية، والبرنامج الإذاعي المعروف: دنيا الأدب. حيث بقيت إلى جانبي تسع سنوات، تقاسمني بكل شوق سعادة المتاعب الممتعة.

و تركت هذه التجربة المتميزة بصماتها الملموسة على مسارها الأدبي المتواصل، و يتجلى ذلك بوضوح في إجابتها عن سؤال مطروح، في آخر حوار أجرته معها الأديبة الإعلامية جميلة طلباوي، ونشر بتاريخ 26نوفمبر2011 بموقع أصوات الشمال، حيث تقول: الصحافة الأدبية هي المنطلق والحافز بالنسبة لي، المحاولات الأولى كانت في جريدة الشعب.أما البداية الفعلية فكانت على صفحات النادي الأدبي. فقد كان هذا الملحق الأسبوعي الذي دام عشر سنوات تجربة رائدة في الصحافة الأدبية، وكان العمل فيه ممتعا متحركا ينبض بالجديد والمفاجآت، ويبعث في النفس أنواعا من الدهشة والانبهار، مما دفعني إلى التزام ركن خاص بي وهو ركن مع المجلات. من 11فبراير 1986 إلى 10 مارس 1987 بدون انقطاع. كانت حقا رحلة من رحلات البحث و التنقيب لا أنساها أبدا، وأتمنى أن اجمع مادتها يوما في كتاب.

و سبق لي أن كتبت مقالة مختصرة عن تجربتها الأدبية،نشرتها ضمن مصافحتي الأسبوعية بجريدة صوت الأحرار، قبل أن تظهر في كتابي: بصمات وتوقيعات. الصادر سنة 2007 عن منشورات وزارة الثقافة. وأشرت في هذه المقالة إلى أن الأديبة: أم سهام معروفة بالمشهد الثقافي الجزائري منذ بداية الثمانينات، وخاصة من خلال ملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية، وبرنامج دنيا الأدب بالإذاعة الوطنية. تنوع العزف على وتر الأدب والنقد، كلماتها تفوح بعطر الطفولة والبراءة، والشعر عندها وداعة الوداعة، وأكبر مدرسة للحب والتسامح والعطاء والوفاء.

تولي أديبتنا أهمية بالغة لمسألة اللغة في بناء معمارها الأدبي، مستفيدة من عشقها المتزايد لقراءة النصوص الأدبية، و من تجربتها الطويلة كأستاذة الأدب العربي في التعليم الثانوي، تنتقي كلماتها العذبة السلسة الشفافة من قاموسها الخاص، كما توضح في إجابتها عن سؤال جوهري طرحته على عدد من الأدباء، حول كيفية تعاملهم مع لغة الإبداع، وقد ورد رأيها المنشور بالنادي الأدبي، في العدد 444 بتاريخ 14 ديسمبر 1986 حيث تقول بالحرف الواحد:

أقوم بمحاولات شتى لأتجاوز القوالب اللغوية الجاهزة، وأسعى وراء تفجير قاموس لغوي يتلون بلون مشاعري وأفكاري، لأني أعتقد أن الكلمة لا لون لها إلا عندما يستخدمها الأديب بمهارة ومحبة، ساعتها تتخذ طابعها الخاص والمميز، فتنعكس عليها ظلال نفسية الكاتب، وتجعل القارئ يستشف من خلفها هذه الظلال..

وتحرص أم سهام على الكتابة العفوية الصادقة في مناخ يعبق بأكسجين الحرية، كما أشارت في حوار قصير أجريته معها منتصف مارس 1989 حيث قالت يومئذ: الحرية تعني تحرير النفس من الداخل، فهي تصرف وممارسة فعلية تتم وفق قناعة داخلية، إنطلاقا من الإرادة الحرة التي لا تقبل المساومة والإحتواء، ولا تخضع لأي ضغط أو تدجين مهما كان نوعه وشكله. فحرية التعبير هي سلوك إنساني مسؤول ومنظم ينبثق من الأعماق، ويساعد على إقامة حوار مثمر وبناء مع الغير.

ورغم جهودها المكثفة و إنتاجاتها المتواصلة عبر أكثر من ثلاثين سنة، يبدو أن أديبتنا عمارية بلال المشهورة باسم أم سهام لم تنل نصيبها الوافر من إهتمام الصحافة ووسائل الإعلام، ومن الدراسات الجامعية، وقليلة هي الكتابات التي تناولت تجربتها الأدبية. ولعل هذا ما جعلها تصرح بمرارة في آخر حوار أجري معها ونشر بموقع أصوات الشمال، حيث تقول : الكتابات و المقالات التي حظيت بها من الدول العربية كانت أكثر كمية وتنوعا وغزارة وعمقا، و لاحظت بكل مرارة أن اسمي لم يذكر مطلقا في بعض المعاجم. وهذا لا يقلقني أبدا إن أهمل النقاد تجربتي الإبداعية، لأن النص الأدبي هو الباقي والدائم. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فانا شخصيا اجهلها، و اترك الإشكالية للتاريخ والذاكرة. و لن أنسى التكريمات التي حظيت بها. كما أنني أسعد لإقبال الجمهور على قراءاتي الشعرية و القصصية فهي المعيار الحقيقي للإبداع و التألق.

وطوال صداقة متينة لأزيد من ثلاثين سنة،ما انفكت تجمعنا الملتقيات الأدبية ضمن فعاليات اتحاد الكتاب الجزائريين و مؤسسة مفدي زكريا و جمعية الجاحظية،وكثيرا ما تقف و تجلس إلى جانبي، نتبادل الرأي والأحاديث والذكريات.وقد سألتها منذ أيام قليلة عن جديدها الأدبي، فقالت:مازلت أواصل الكتابة، وفي اتصال مستمر مع مديرية الكتاب بوزارة الثقافة، بغية الإفراج عن كتابي المنتظر بعنوان ترنيمات على بوابة ندرومة. فهل سيطول بنا الانتظار و نحن على أبواب العيد الخمسين للإستقلال؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى