الخميس ٥ تموز (يوليو) ٢٠١٢
«دلالات الألفاظ عند الأصوليين»

موضوعُ محاضرة بدار الأم بالناظور

فريد أمعضـشو

في إطار سلسلة المحاضرات العلمية التي دأب «مركز الريف للتراث والدراسات والأبحاث» (وحدة اللغات والأدب)، بتنسيق مع «جمعية تيسير»، على تنظيمها، منذ انطلاق السنة الجارية، ألقى فضيلة الأستاذ الدكتور عبد المغيث محمد جيلاني (أستاذ بجامعة محمد الأول – وجدة)، مؤخّراً، محاضرة غنيّة في موضوع «دلالات الألفاظ عند الأصُوليّين»، بقاعة الندوات والمحاضرات بـ«دار الأم للتربية والتكوين» بالناظور، حضرَها عددٌ من الأساتذة وطلاب العلم والمهتمين. وقد تطرق الأستاذ المُحاضِر، في مداخَلَته، إلى جملة من المحاور والنُّقط بادئاً بتوْطِئة عامة عَمَد فيها إلى ضَبْط المفاهيم الأساسية في محاضرته، وإلى إيضاح أهمية البيان اللغوي في الشرع، ومدى إسْهام علماء أصول الفقه في بَحْث دلالات الألفاظ والعبارات. كما تناول مصدر اللغات، ونحْو ذلك من القضايا ذات الصلة بالموضوع، وإنْ كان قد أفاض في الحديث عن مفهوم الدلالة وأقسامها. فالدلالة (بفتح الدال المُهْمَلة وكسْرها وضمّها جميعاً، وإنْ كان الفتح فيها هو الأفصح) – اصطلاحاً – كونُ الشيء يلزم من العلم به العلمُ بشيءٍ آخر، وبموجب ذلك يقود فهْم الدالّ إلى فهْم المدلول مباشرةً. وهي تُقسَّم – أصولياً – إلى أقسام عدة بتعدُّد المعايير المُعتمَدَة في التقسيم. فالدلالة، عموماً، نوعان كبيران: دلالة لفظية، ودلالة غيرُ لفظية. وكلُّ نوعٍ منهما يتفرّع إلى ثلاثة أنواع: دلالة عقلية، ودلالة طبيعية، ودلالة وَضْعية. وقد خَصَّ د. جيلاني، من بين هذه الأنواع، الدلالة اللفظية الوضعية بكلام مفصَّل، مُصَدِّراً إياه بمِهادٍ نظري حدّد فيه مفهوم الوضع لغة واصطلاحاً، وأبرز عناصره وأركانه، قبل أن يأتيَ على التعريف، بإفاضة، بأقسام اللفظ المعروفة في هذا المِضْمار.

إن اللفظ، باعتبار الإفراد والتركيب، قسمان؛ أولهما اللفظ المُفرَد وهو الذي لا يدل جُزؤه على جزء معناه، وثانيهما اللفظ المركّب وهو نقيض الأول. ويُقسَّم اللفظ المفرد الموضوع لمعنى إلى أقسام عديدة بحسب الأسُس والاعتبارات المَرْعيّة في هذا التقسيم. فباعتبار طبيعة دلالة هذا اللفظ على مدلوله، يقسِّم الأصوليون الدلالة إلى دلالة المطابَقة، ودلالة التضمُّن، ودلالة الالتزام. إذ يراد بالأولى دلالة اللفظ على تمام معناه؛ نحْو دلالة لفظ "الإنسان" على الحيوان الناطق، وبالثانية دلالة اللفظ على جزءٍ من مسمّاه؛ نحْو دلالة لفظ "الإنسان" على الحيوان فقط، وبالثالثة دلالة اللفظ على خارجٍ من مسمّاه لازمٍ له لزوماً ذهنياً؛ نحْو دلالة لفظ "الإنسان" على الضحك.

وباعتبار دلالة اللفظ المفرد الموضوع لمعنى على حُكْمه وُضوحاً وإبهاماً، يتحدث علماء الأصول عن واضِح الدلالة على معناه بنفسه، وعن مُبْهَم الدلالة على مسمّاه. فالمقصودُ باللفظ الأول ما دلّ على المُراد منه بصيغته نفسِها من غير توقفٍ على أمْر خارجي عنه لتتحقق دلالته، وباللفظ الثاني ما يحتاج فهْمُ المراد منه أو تطبيقه على الوقائع إلى أمْر خارجي عنه لإيضاحه. ويُقسَّم كلٌّ منهما إلى أربعة أنواع متدرِّجة في الظهور والخفاء (بحسب تصنيف الأحناف الأشهر في هذا الصدد)، وقف عندها الأستاذ المحاضر بكثير من التفصيل، مركزاً على تحديد كلٍّ منها على حدة في اللغة والاصطلاح الشرعي، وبيان حكمه ومراتبه، وضرْب الأمثلة الموضِّحة له. إن اللفظ المفرد واضحَ الدلالةِ إما أن يكون ظاهراً أو نصّاً أو مفسّراً أو مُحْكماً. وبالمقابل، يكون غيرُ واضح الدلالة – على الترتيب – خفيّاً أو مُشكِلاً أو مجْمَلاً أو متشابِهاً. فالظاهرُ هو ما احتمل معنييْن فأكثر هو في أحدهما (أو في أحدها) أرْجَحُ، والنصُّ هو ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً ولا يقبل التأويل، والمفسّر هو ما دلّ بنفسه على معناه المفصّل تفصيلاً ليس معه احتمالٌ للتأويل، وقيل: هو ما ازداد وضوحاً على النص على وجهٍ لا يقبل التأويل. ويُطلق على اللفظ المفرد ذي الدلالة الواضحة وضوحاً لا يحتمل أي نسْخ مصطلح "المُحْكَم". ويُحدَّد الخفيّ بأنه اللفظ الذي يدل على معناه دلالةً ظاهرة، ولكنْ عَرَضَ له من خارج صيغته ما جعل في انطباقه على بعض أفراد محْدوده نوعَ غموض وخفاءٍ يحتاج كشفه إلى نظر وتأمل. على حين يعرَّف المشكل بأنه اللفظ الذي لا يدل بصيغته على مراده بسببٍ في نفس اللفظ، وإنما يتوقف إدراكُ المراد منه على قرينة خارجية، ومن أمثلته البارزة اللفظ المشترَك الدال على معنييْن أو أكثر. ويُقصد باللفظ المُجْمَل ما احتمل أكثر من معنىً من غير ترجُّح أحدها على باقي معانيه، وباللفظ المتشابه ما استأثر الله جلّ عُلاه بعِلْمه، ومَنْشؤه اللفظ أو المعنى أو هما معاً، ومثالُه آياتُ الصِّفات. ويُلحَق بواضح الدلالة اللفظ المؤوّل، ولاسيما بالظاهر منه، ويراد به ما احتمل معنييْن؛ بحيث يكون راجحاً في أحدهما بدليل منفصل. على حين يُلحَق بمُبْهَم الدلالة اللفظ المبيِّن، ولاسيما بالمجمل منه، ويُقصَد به اللفظ الموضِّح أو الكاشف عن المراد من الخطاب، ويقع البيانُ بالقول أو بالفعل أو بهما معاً أو بترْك الفعل للدلالة على عدم الوُجوب، وهو مراتبُ أعْلاها ما كان بالخطاب. وإذا كان حُكْم واضح الدلالة وجوب العمل به بما هو واضح الدلالة عليه، فإنّ غيرَ واضِحِها لا يُعْمَل به إلا بعد إزالة خفائه وإشكاله وإبْهامه وغموضه، وذلك بالاجتهاد والنظَر والتأمُّل فيه.

وباعتبار العموم والخُصوص، ينقسم اللفظ المفرد الموضوع لمعنى، لدى الأصوليين، إلى عام وخاص. فأما العامُّ فهو اللفظ الذي يدل بالوضْع على شُموله جميعَ أفراد مُتعلَّقه، ويتحقق بصيغ وألفاظ عدة؛ منها: "كُلّ"، و"جميع"، والجمع المعرّف بالألف واللام لغير العهْد، والمثنى المعرف بـ"ألـ"، و"ما" الموضوعة لغير العاقل سواء أكانت موصولةً أم شرطية، والنّكِرَة التي ترد في سياق النفي وتكون نصّاً في العُموم ظاهرة فيه. وأما الخاصُّ فهو اللفظ الذي لا يدل على الشمول؛ شُمولِه جميعَ أفراد متعلقه، أو هو اللفظ الدالّ على مسمّى واحدٍ محدَّد. ويتحقق التخصيصُ، سواء أريد به قصْر العام أو قصْر المتعدد، بمخصِّصاتٍ متصلة أو منفصلة. فالمتصلة تتجلى في الاستثناء والشرط والصفة والغاية وبدل البعض، على حين تكون المُنفصلة بنصّ من الكتاب أو السنة، وبالإجماع، وبالقياس، وبالحسّ، وبالعقل. ويُقسّم اللفظ المفرد تقسيماً آخرَ قريباً من التقسيم السابق، وذلك بالنظر إلى إطلاقه أو تقييده. فالمُطْلَقُ هو اللفظ الدالّ على فرْد غير معيّن أو على أفراد غير معينين، والمقيّد هو اللفظ الدال على فرد غير معين أو على أفراد غير معيّنين، مع اقترانه بصفة تٌُقيِّدُه وتحدد المراد به.

وسنكتفي فيما تبقى من هذا التقرير بالإشارة إلى عناصر المحاضرة ومحاورها الأخرى دُونَما تبيان جزئياتها وتفريعاتها على نحْو ما فعَلْنا مع المباحث المتقدمة. فقد توقفت المحاضرة، علاوة على الاعتبارات المذكورة، عند ثلاثة اعتبارات أخرى تقسَّم دلالة الألفاظ انطلاقاً منها. فباعتبار علاقة اللفظ المفرد الموضوع لمعنى بمدلوله استقلالاً وعدَمَ استقلالٍ، ينقسم هذا اللفظ إلى غير مستقل، ويكون بالحرْف تحديداً، وإلى مستقلّ بمعناه سواء أكان فعلاً، بصرْف النظر عن زمنه، أم اسماً كلياً أو جزئياً. ويفرّع الكليّ إلى متواطئ ومشكك من وجهة، وإلى اسم جنس ومشتق من وجهة أخرى، على حين يتفرّع الجزئيُّ إلى مستقلّ، وهو اسمُ العَلَم، وغير مستقلّ، وهو الاسم المُضْمَر. وبحسب الوحدة والتعدد، ينقسم اللفظ المفرد، أصولياً، إلى أربعة أقسام (أن يتّحد اللفظ والمعنى المنفرد – أن يتحد اللفظ ويكثر المعنى – أن يكثر اللفظ ويتحد المعنى – أن يتعدد اللفظ ويتعدد المعنى كذلك). وباعتبار حال مدلول اللفظ المفرد، يتفرّع هذا الأخير إلى لفظٍ مدلولُه معنى، ولفظ مدلوله لفظ مفرد مُسْتَعْمَل، ولفظ مدلوله لفظ مفرد غير مستعمل، ولفظ مدلوله لفظ مركّب مستعمل، ولفظ مدلوله لفظ مركب مُهْمَل.
وبخلاف اللفظ المفرد ذي التفريعات الكثيرة المتشعبة، يقسّم أهل الأصول اللفظ المركب إلى قسمين كبيريْن؛ قسمٍ أولٍ يكون فيه اللفظُ مُفيداً بالذات طلباً، وقسمٍ ثانٍ يكون فيه اللفظ المركب غيرَ مفيدٍ بالذات طلباً. ويتوزّع الأولُ إلى نوعين اثنين: أنْ يكونَ الطلبُ لماهيّةٍ في الذهن (الاستفهام) – أنْ يكون الطلبُ لتحصيل الشيء في الخارج (الأمر – النهي – الالتماس – الدعاء). والأمرُ نفسُه بالنسبة إلى القسم الثاني، الذي يتفرّع إلى الخبر والإنشاء (النداء – التمني – الترجّي – القَسَم).

تلكم، إذاً، مُجْمَلُ النُّقَط التي وقف عندها الأستاذ المُحاضرُ في كلمته القيّمة المُسْتَوْعِبَة لشتى دلالات الألفاظ في عُرْف علماء أصول الفقه، وقد أعانه – على بيانها وإبلاغها – استعانته بالتكنولوجيا الحديثة. وبعد الفراغ من إلقاء المحاضرة، فُتح بابُ النقاش، وأعطيتِ الكلمة للحاضرين للاستفسار والتعقيب والإغناء وغيرها من أشكال التدخل.

فريد أمعضـشو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى