السبت ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم ناهض زقوت

ثيمات السرد في مجموعة «الشكل المستطاع»

يقول الأديب والعالم الفيزيائي الدكتور أحمد زكي "ليس ألذ في أحاديث الناس من قصة، وليس أمتع فيما يقرأ الناس من قصة، والعقول قد تخمد من تعب، ويكاد يغلبها النعاس، حتى إذا قلت قصة ذهب النوم، واستيقظت العقول، وأرهفت الآذان ...". هذا واقع الإنسان مع القصة/ الحكاية منذ وجد أن الإنسان على ظهر الكون، فمفتتح الكون كان من خلال قصة، وهي قصة سيدنا آدم مع حواء، وقصة هابيل وقابيل، وقصة الهبوط إلى الأرض، وتكوين البشرية.

وإذا كانت بدايات القص تلبست بالأسطورة والخرافة فذلك يعود إلى طبيعة المجتمعات آنذاك، وحين تطورت إلى قصص دينية ووعظية وإرشادية وتعليمية، كانت أداة في أيدي رجال الدين آنذاك لزيادة عدد المؤمنين وإخضاع الشعب لسلطة الملوك. وحين اندلعت الثورة البروجوازية في القرن التاسع عشر ضد سلطة رجال الدين، تغير مفهوم القص شكلا ومضمونا، وأصبح أكثر اقترابا من هموم الناس وواقعهم. ومازالت القصة تسير في ركب الناس تبحث واقعهم وترسم خطوات معيشتهم وتعبر عن آلامهم وأحلامهم وتطلعاتهم لمستقبل أفضل.

لهذا فالقصة تمثل موقفا من الحياة/ الواقع، لذا يستمد الكاتب بناء قصته من أحداث الواقع، أو واقع الحياة التي يمثلها الحدث، ولا اعتقد أن أحدا من كتاب القصة ينكر انه واقعي، فان كيان الكاتب القصصي إنما يقوم على هذه الواقعية، أي على محاكاته للواقع وقدرته على إقناع القارئ بان قصته تمثل هذا الواقع. ويتميز الكاتب الواقعي بأنه يلتقط أحداث قصته من تجاربه الذاتية، أو ملاحظاته اليومية، أو من تجارب الآخرين، وهي كلها تجارب المجتمع الذي يعيش فيه، وتحمل انعكاسا لهذا المجتمع، بثقافته التي تعكس وجودها في ذات الكاتب وقناعاته الشعورية واللاشعورية سلبا وإيجابا.

في مجموعة "الشكل المستطاع" للقاصة سماح الشيخ، الصادرة عن مركز اوغاريت الثقافي ـ رام الله 2007، والتي تحوى (49) قصة، تتباين في الحيز الفضائي اختصارا وتطويلا، تنويعا وتجنيسا، بمعنى آخر أن قصص المجموعة تتأرجح بين جنسين أدبيين متلاحمين ومتجاورين وهما: القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.

تعكس هذه المجموعة قضايا الواقع وهموم الذات، والاهتمام بالأنا وتجسيد خصوصيات المرأة وعلاقتها بالمجتمع، كما تمتاز بالاهتمام بالعالم الرقمي والانسياق وراء ثورة الانترنت، والتحولات التي رافقت امتساخ الإنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى وتحوله إلى كائن رقمي، وترصد الكاتبة تحولات الكائن البشري إلى ممتسخ بأسلوب فنتازي، هذا الأسلوب الذي وظفته الكاتبة بشكل مباشر أحيانا وبشكل غير مباشر أحيانا أخرى، عبر الترميز والتلميح والتلويح، وذلك برصد التحولات الامتساخية التي تحيل على قوة الشر وعدوانيته.

وتختار الكاتبة في عملها القصصي التنويع ما بين القصة والقصة القصيرة جدا، كما ذكرنا، فنجدها في القصة القصيرة تسترسل في كتابتها سرديا لتستغرق صفحتين أو ثلاثة. ويتسم أسلوبها بهيمنة السرد بشكل أوسع على حساب الحوار والمنولوج، إلا أنها أحيانا تنتقل من الخطاب السردي إلى الخطاب الحواري.

أما في موضوعة القصة القصيرة جدا، تختار الكاتبة في مجموعتها حيزا فضائيا محدودا من الكلمات والأسطر قد لا تتعدى نصف صفحة، ونجد لديها الاهتمام بالفكرة أو الموضوع دون الاهتمام بالشخوص، لهذا وظفت الكاتبة صورا سردية استعارية مجازية، وصورا كنائية في غاية الغموض والتعقيد والترميز إلى درجة التجريد والتلغيز، وهذا يعطي دلالة على أن الكاتبة على دراية بفن القصة القصيرة جدا، ولديها القدرة على التلاعب بالغة، حيث استطاعت أن تتجاوز الأسلوب التقريري المباشر والمعاني السطحية الظاهرية، واستبدال كل ذلك بأساليب أكثر ذهنية ورمزية وانزياحية تربك أفق القارئ وتؤسس لذوق معرفي / قصصي جديد.
وهذا ما نجده في قصص: "لأني أحبها" و"فيديو أرت" و"وحشان" و"كانوا يحبونه" و"سورة السفينة" و"الحواف" و"موقف" و"خلاصي".

ثيمات السرد القصصي:

تنطلق الكاتبة في مجموعتها من العديد من الثيمات التي لم تخرج عن واقعها وذاتها، ونحصر هذه الثيمات في:

تعرية الواقع وتصوير مثالبه:

تتميز قصص المجموعة بالتركيز على قضايا الواقع ومعاناة الإنسان، بأسلوب انتقادي تحاول من خلاله تعرية هذا الواقع وكشف تناقضاته الاجتماعية والثقافية دون أن تطرح حلولا لمشاكل هذا الواقع, وهذا ما نجده في قصة "عقاب شتوي" حيث تطرح عمالة الأطفال، وتبرز قسوة المجتمع/ الواقع وحالات الفقر والجوع والحرمان التي يمثلها الأطفال/ العمال في ساحة الجندي المجهول، وتطرح الكاتبة سؤالا: "ما الظروف السادية التي تدفع طفلا في هذا العمر لكي يخرج في هذا الجو الشتائي لكي يبيع الشاي إلى الناس؟"، لم تقل لنا ما هي الظروف واكتفت بإجابة زوجها "بأنه لم يخرج بل هو هنا طوال النهار"، نلمس في الرد الموقف السلبي من الزوج، وعدم اهتمام الزوجة بأكثر مما قال. ومن دلالات الوصف التي تقدمها الراوية بصوت الأنا المتكلم تبرز تلك الحالات جلية واضحة بعيدا عن الغموض أو التلاعب باللغة، فالواقع أقسى من محاكاته بالرمز، فكانت اللغة بسيطة وتعبر عن دلالات المضمون. ورغم أن الكاتبة اكتفت بالوصف، إلا أنها أدخلت عنصر المقارنة، حيث قارنت طفولة زوجها مع هؤلاء الأطفال إذ نفسه عاش طفولة قريبة من طفولتهم، أما هي حين قارنت طفولتها بهم كانت أكثر ترفيها. فهل الزوج الذي عاني من طفولة مشردة وتحمل المعاناة كان نصيبه زوجة عاشت حياة مرفهة؟ إذن لا ضير في حياة التشرد مادام سيحصل المشرد على زوجة مرفهة تغنيه عن حياة الماضي.
لقد تركزت رؤية الكاتبة هنا على وصف الواقع دون محاولة إيجاد حل لواقع هؤلاء الأطفال المشردين، وقدمت رؤية تخالف الواقع، فهي رؤية فردية وليست رؤية جماعية.

أما في قصة "قبل أن تبدأ" فثمة رؤية أخرى تحمل بين أبعادها رؤية سياسية، إذ تناقش معاناة الفلسطيني في المطارات العربية وخصوصا مطار القاهرة، من خلال أسرة فلسطينية تغادر السعودية متوجهة إلى غزة عبر مطار القاهرة، وتأتي الرؤية من خلال عيني طفلة تعي ما يدور حولها من نظرات رجال المطار السعودي المريبة، إلى الرشاوي والقرارات والاهانات ومعاناة الأسرة في مطار القاهرة، ثم تأخذ في المقارنة أيضا بين المطار السعودي ومطار القاهرة من حيث جمالية المكان، والرحلة عبر الطيران السعودي، والمكان المليء بالقاذورات في معبر رفح، واهانة الإسرائيلي.

وقائع نمطية قاتمة لواقع الفلسطيني سواء عند العربي أو الإسرائيلي، تلك الوقائع التي تناولها العديد من الكتاب الفلسطينيين، دون البحث في جذورها والاكتفاء بوصف الواقع.

الاهتمام بالأنا والعودة إلى الطفولة:

تهيمن الأنا بشكل واضح على خطاب الكاتبة القصصي، ما يعطي دلالة على أن الكاتبة تعيد اكتشاف ذاتها، وهذه الذات ارتبطت بعالم الطفولة، هذا العالم المكبوت واللاشعوري، الذي يتخلق بعد سنوات ليشكل حالة مفارقة ما بين زمن السرد وزمن الحدث.

وتفتتح الكاتبة عالم الطفولة من قصتها الأولى "استنساخ" التي تعيد فيها تكوينها الأول في الأسرة ووجود فتاة بين الذكور، وعلاقتها مع هؤلاء الذكور، والتركيز على الأبعاد الاجتماعية والنفسية والفروقات الوراثية بين شخوص تلك المرحلة من الطفولة. وفي قصة "الشكل المستطاع" هذه القصة اللغز التي تحكي علاقة عالم الطفولة مع الآخرين (أصدقاء المرحلة)، الكل يبحث عن ذاته ويصورها كما يشاء.

خصوصية المرأة وعلاقتها بالمجتمع:

تمثل المرأة في المفهوم العام كائنا مضطهدا، في هذه المجموعة نجد المرأة مضطهدة على مستويين، المستوى الذاتي (المرأة مقابل المجتمع) وهذا ما نقرأه في قصة "هدية حالكة" حيث نجد المجتمع الذي يرفض كتابات المرأة ويعتبرها أوراق محرمة، فما كان منها إلا إلقاء الأوراق في مياه المجاري السابحة مع مياه الأمطار، "انجرفت المياه حاملة نور الكلام وجسدها"، المرأة الكاتبة حددت مصيرها (الموت)، ومصير مجتمعها أن يحيا في ظل الظلام بعد أن حرمته من كتابات كان يمكن أن تهديه إلى النور.

والمستوى الأخر، اضطهاد ضمن سياق المجتمع (الكل مقابل المجتمع) وهذا ما نقرأه في قصة "أسنان" التي تعبر بأسلوب فنتازي مباشر عن الواقع الاجتماعي الذي نحياه، الواقع الذي يسير ضمن أيديولوجيا محددة يغرق فيها الرجل والمرأة بكل استسلام، إلا أن هذا الواقع يكشف عن فقر وجوع وحرمان، وعن كذب وخداع، وعن امتهان لآدمية الإنسان، الكل ممتهن الزوجة/ المرأة، الزوج/ الرجل، الكل يسير وفق ما هو مرسوم من قبل السلطة الحاكمة، إلا أننا نجد أن المرأة هي الأكثر استسلاما لهذا الواقع، بحكم أدوات الخداع التي تمارس أو تسلط عليها من الآخرين، ومن ضمنهم الزوج.

الرؤية الرقمية وعبثية الحياة:

يلعب الواقع بتجلياته الحداثية وتطوراته التكنولوجية دورا في اهتمامات الكاتبة القصصية، حيث نجد تركيزها بشكل كبير على العالم الرقمي والانسياق وراء عالم الحاسوب والانترنت الشرائح المدمجة، وهذا واضحا في قصص: "معادلة"، و"دفاع الكتروني"، و"بذاكرة مزيفة أكتب قصة"، و"رسالة الكترونية"، و"تهجين".

تثير قصة "بذاكرة مزيفة أكتب قصة" أسئلة الواقع الكبرى في العالم الرقمي والشرائح الالكترونية والمدمجة، هل أصبحت ذاكرة الإنسان مزيفة أم أن عبثية الحياة هي المزيفة، أم أن الواقع الذي نحيا فيه هو المزيف؟.

الغرائبية وفنتازيا الواقع:

تجسد الكاتبة المتخيل الغرائبي وفنتازيا الواقع كمنتوج للمخيلة والخيال من خلال رغبة دفينة في الانفلات من اكراهات الواقع وترميم انكساراته وسد ثقوبه اللامتناهية. وهي بذلك تؤسس لواقعها الخاص القائم على انتهاك الوقائع المتكررة والأحداث المعتادة. فالمتخيل له قدرة هائلة على استدعاء المكبوت والمعطل وتعرية رصانة الواقع المزعومة. وهذا ما نقرأه في قصص: "ثعثرت بقدمها وسقطت في النور"، و"سترة"، و"عض"، و"في مستشفى"، و"فليفلة"، و"خلاف وحل". جميعها ترسم عالما من الغرائبية والفنتازيا، تميل فيه إلى ما يسمّيه تودوروف بـ"الخارق العجيب" حيث لا تفسّر الحدث تفسيراً عقلانياً كونه يفوق الطبيعي. وعالم الفنتازيا لا يشبه عالم الواقع بل يجاوره من غير اصطدام ولا صراع, على رغم اختلاف القوانين التي تحكم العالمين.

في قصة "سترة" تلك القصة التي تعود بنا إلى عالم التراث حيث الجماد يتحدث والحيوان يتكلم، نجد أن تلك السترة تعي واقعها وتدرك مكانتها فيه، فتسعى إلى التمرد كنوع من إثبات وجود الذات أمام محاولات الآخرين لإلغاء وجودها، فترفض أن تكون سترة وتسعى لكي تكون شيء آخر "أي شيء عدا أن أكون سترة". وهذا التمرد لم يعجب القوى العليا المحددة لقانون الأشياء فأمرت بإلغاء وجودها تماما "بأن تلتهمها وحدها الرطوبة، بالتعاون مع كائنات لم تحدد بعد". هذا العالم الفنتازي يستمد مفرداته من الواقع فالسترة هي دلالة رمزية، وفيها تورية قريبة (السترة هي الجاكيت) وتورية بعيدة (السترة هي المرأة والرجل في آن) فكلاهما قد يقمع من القوى المهيمنة إذا حاول التمرد والخروج عن قانون الأشياء أو قانون القوى الحاكمة.

لقد استطاعت المبدعة سماح الشيخ في مجموعتها الوصول بنا إلى متاهة على طريقتها، متاهة البحث في عالم قصصي غاية في التعقيد والتشابك الدلالي، تأخذنا من الزمن الحاضر إلى الماضي، وتعود بنا إلى الزمن الحاضر بأدواته الجديدة المتلبسة في الغرائبية والفنتازيا، وعالم من الأرقام والمعادلات ورسائل الكترونية، عالم مهجن كأننا نعيش على هامشه وليس جزءا منه.

لقد استطاعت سماح أن تجعلنا نركض إليها أو خلفها لنبحث في دلالات نصها، تقول في قصة "متاهة على طريقتي": "أن أحلم بنص، ليس هذا إلا عاديا، أما أن أدرك أني فعلت فهذا أدين به إلى بورخيس. كنت أعدو كذئبة ضالة، ويركض حولي/ معي .. لا اذكر، ولكن كل يجري إلي .. لا أظنني اعلم. سأخترع غاية يركضون إليها، ونستمر في دوائر ومنحنيات أو خيوط ضعيفة .. تتقاطع .. تتشربك ثم تنحل ولا نكاد نصل".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى