الثلاثاء ٣١ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم جميل حمداوي

من القصة القصيرة إلى القصة القصيرة جداً

حوار مع القاص الأردني جعفر العقيلي

يجد القاص الأردني جعفر العقيلي في الحرف غايته وغوايته، متحدثاً عن تجربته في كتابة القصة التي أصدر فيها مجموعتين، هما: "ضيوف ثقال الظل" (2002)، و"ربيع في عمّان" (2011)، والتي أعاد من خلالها الصلةَ بين الأدب والواقع، دون أن يغفل المتطلبات الفنية للسرد.

ويوضح العقيلي، أمين الشؤون الخارجية برابطة الكتاب الأردنيين، أن تناول اليومي والواقعي قد يقود إلى مزالق على الصعيد الفني، وهو ما حاول تجنبه، وهو يكتب عن أحداث ووقائع ما تزال إرهاصاتها وتداعياتها ماثلة من حوله.

ويرى صاحب "لعبة السرد الخادعة"، و"في الطريق إليهم" و"أفق التجربة"، وهي كتب في الحوارات الثقافية، أن الحدث في القصة لا يكون دائماً ميكانيكياً أو خارجياً، بل ثمة حدث نفسي أو باطني يتعلق بهواجس الشخصية ومخيالها، وهو على ما يرى: "أبلغ أثراً وأكثر مدعاة للقراءة متعددة التأويلات".

ويصف العقيلي، المنسق العام لملتقى عمان للقصة، أن القصة فن الاختزال والتكثيف. مؤكداً: "كلما تعمّقتَ في معرفة كيف وماذا تحذف نجحتَ أكثر".

ويشير العقيلي الذي شارك في العديد من المهرجانات والملتقيات الثقافية العربية، إلى أن القصة تحتاج إلى "المواربة". ولهذا، فإن على القارئ/المتلقي أن يبذل جهداً من طرفه، ليملأ الفراغات التي يتركها (الكاتب/الراوي/البطل)، وليكون أيضا شريكاً تفاعلياً مبادراً وإيجابياً، لا مجرد قارئ وفق المستوى الأول بهذا التعبير. أي: يكتفي بما يمنحه له الكاتب فقط.
ويرى العقيلي الذي درس الكيمياء في الجامعة، وحاز جوائز مختلفة في مجالَي الشعر والقصة، أن القصة القصيرة، شأنها شأن فنون التعبير المختلفة، تلتقي مع الكائن الحي في خاصّة النموّ، وتختلف معه في مسألة "النهاية" أو "الخاتمة"، فالكائن إلى زوال، وهذا مصيره، أما الفن فيواصل مسيرته.

نلتقي في هذا الحوار الشيق مع جعفر العقيلي، الذي بدأ شاعراً عبر مجموعته "للنار طقوس وللرماد طقوس أخرى" (1996)، ليضيء لنا بعضاً من جوانب تجربته الإبداعية وهواجسه ورؤاه وأفكاره وتجربته في الكتابة:

* من هو جعفر العقيلي؟

 كائنٌ أنا، أحاول أن أُبقي أثراً بعد أن أقتفيه، أجدُ في الحرف غايتي وغوايتي، أركن إليه وأرتمي في حضنه لأحتمي به. به كنت وبه أكون، ففي البدء كان الكلمة.

* أتيتَ إلى القصة القصيرة من عالم الكيمياء، فما العلاقة بينهما؟

 هي وثيقةٌ وإن لم تكن منظورة، ففي الكيمياء أستدلّ إلى النتائج والخلاصات عبر معادلة تخضع لصيرورة منطقية، وهو ما يتكرر في القصة. في الكيمياء ثمة تفاعل يمثل الذروة، وثمة خمود أيضاً، وهو ما أجده في القصة. في الكيمياء لا مجال للالتباس، فأي خطأ هناك قد يقود إلى كارثة بمعنى أو آخر أو إلى نتيجة غير تلك التي نتوخاها، وفي القصة أيضاً ثمة بناء مدماكي إن اضطرب تهاوت القصة على عروشها وبدت مفككة.

* تنبني رؤيتك إلى العالم في مجموعتك القصصية الثانية "ربيع في عمّان" على التصور الواقعي الاجتماعي. لماذا اخترت هذه الرؤية التي بالكاد تكون رؤية مشتركة بين كتّاب هذا الفن الأدبي السردي في وطننا العربي؟

 هي تجربة رغبتُ في أن أخوضها بعد اشتغالي على الفانتازيا في مجموعتي "ضيوف ثقال الظل". ففي "ربيع في عمّان" أردت أن أعيد وشائج الصلة بين الأدب والواقع، على ألاّ أغفل عن المتطلبات الفنية للسرد، وهو اختبار حقيقي؛ أن أحوّل الشخصية الواقعية إلى فنية، والحدثَ الواقعي إلى فني. الواقع منجم ثَرّ بالتفاصيل، وبه وعليه تتغذّى الكتابة، والكتابة بوصفها فناً لا بدّ أن تضطلع برسالة، فما بالك إن كانت هذه الرسالة نبيلة؛ أعني الانحياز لحراك الشارع الذي يطالب بالإصلاح من المحيط إلى الخليج.

* تمتاز قصصك بخاصية التحليل والاستكشاف والتنقيب في اللاشعور الاجتماعي والسياسي والإنساني فهماً وتفسيراً، فلماذا هذه القراءة النفسية للإنسان والمجتمع على حد سواء، على المستويَين الشعوري واللاشعوري؟

 لنتفق أن القصة لا تكون كذلك -أي قصة- إلا إن تضمّنت حدثاً. لكن هل ينبغي أن يكون الحدث ظاهراً أو ميكانيكياً أو تعبيراً عن سلوك يجري على أرض الواقع؟! قطعاً أن لا، فثمة حدث موازٍ داخلي يمكن تسميته حدثاً نفسياً أو باطنياً يتعلق بهواجس الذات/الشخصية ومخيالها، وهو على ما أرى أبلغ أثراً وأكثر مدعاة للقراءة متعددة التأويلات. لهذا أشتغل في قصصي على مستويين من الحدث لا يكتمل أحدهما إلا بحضور الآخر، إنهما يتكاملان ويستمد كل منهما قوته من نسغ الآخر.

* تسقط كثير من قصصك في التقريرية والمباشرة، حتى إن عنوان مجموعتك الثانية يومي بذلك، لماذا اخترت هذه الطريقة في الكتابة؟

 كأنني بك تشير إلى مثلبة! كنت أتمنى أن يبدأ سؤالك لي بـ"تتسم" أو "تصطبغ" أو ما شابه، بدلاً من "تسقط" بدلالتها السلبية. على أي حال أدرك أن تناول اليومي والواقعي قد يقود إلى مزالق على الصعيد الفني، وهو ما سعيتُ إلى تجنبه ما أمكنني ذلك وأنا أتناول أحداثاً ووقائع ما تزال إرهاصاتها وتداعياتها ماثلة من حولي، وقد تمعنت في ما كتبت طويلاً وأنا أشتغل في إطار "الورشة"؛ بمعنى أن أكتب ثم أحكّك ما كتبت وأعاينه بعين ثالثة (موضوعية ولا أقول "محايدة").

قديماً قالوا: "المعاصرة حجاب"، فهل تعتقد أن بإمكاني اختراقه -الحجاب- بسهولة؟! الأمر كما أعتقد يتطلب بعض التضحيات، وهنا لا بد أن أستعين بالمثل السائر "لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم"!

*يبدو أن القالب الذي اخترته للكتابة هو القالب الكلاسيكي الذي ينبني على تسلسل الأحداث زمانياً ومنطقياً وسببياً، لماذا لا تفكر في تجريب آليات القصة الحديثة تحبيكاً وتخطّيياً؟

 أتمنى ألا تكونَ استعملت كلمة "كلاسيكية"، كما درج كثيرون يعتنقون موقفاً من المصطلح بغيرِ ما تمهل أو تريث أحياناً. الكلاسيكية كما أراها نافذة على الأصل الذي يُحتذى، أو الأنموذج. على الرغم من ذلك، ففي مجموعَتَيّ الأولى والثانية قصص تتنصل من السياق التراتبي للزمن والمنطقي للأحداث. هناك قصص بدأتُها من حيث انتهى الحدث، وهناك أخرى بدأتْ من نقطة وسطى وعدتُ في نهايتها إلى بداية الأحداث. وفي قصصي أيضاً نماذج كتابية لم آبه بها للتسلسل الزمني القارّ والمتعارف عليه (ماض، حاضر، مستقبل)، بمعنى أن لكل قصة موجباتها ومتطلباتها وتقنياتها التي لا تتفق بالضرورة مع "الكلاسيكية" بمفهومها الذي أشرتَ إليه.

* ما يميزك جيداً في مجموعتك القصصية الثانية، هو لغتك السردية الواقعية البولوفينية والمهجّنة بالتناص والسلاسة والعامية والفصحى والاختزال المكثف، والحبلى كذلك بالدلالات والإيحاءات النفسية والاجتماعية والواقعية والإنسانية. لماذا اخترتَ هذه اللغة المكثفة والمقتصدة؟

 القصة كما أرى إليها، فنُّ اختزال (لا اختصار).. هي فن التكثيف. كلما تعمّقتَ في معرفة كيف تحذف وماذا، نجحتَ أكثر. هذا ما أعتقده وأنا أمارس مشروعي الكتابي. في التفاصيل شرْحٌ، وربما ثرثرة، فإذا كان العربيُّ القديم يرى أن "لسانك حصانك"، فلا أكثر دلالةً من هذا على أهمية أن أكتفي بالتلميح والإشارة والتخلص من الفوائض والزوائد التي قد تثقل كاهل النص وتربك بناءه. وأستعيد أيضاً مقولة النفري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".

* تطرح قصصك مجموعة من القضايا والمشاكل الاجتماعية والإنسانية والنفسية، مثل: الإحباط، والعقم، والاهتمام بالمظاهر الخارجية، والتسلط السياسي، والنفاق البشري، وتدهور البيئة، وعلاقات الأسرة المختلّة.. وهي جلُّها مشاكل ملتقَطة من الواقع الاجتماعي والإنساني، ولكن هل المقاربة الانعكساية ما زالت صالحة لقراءة الواقع المتشظي والمغترب وغير المعقلن؟

 لستُ أدّعي الحكمة والمعرفة لأجيبك عن سؤالك هذا. لكنني أرى أن في الواقع ما يكفي من ثيمات تصلح لتوظيفها في الكتابة. لقد سئمتُ مما يشيع في المشهد الكتابي العربي من ربط الحرية مثلاً بـ"طائرٍ وقفص". كنت أحمل معولي لأكسر هذه الصورة النمطية والرتيبة والممجوجة، لأكتب عن الحرية بوصفها مطمحاً يتوق إليه الإنسان ويبذل لأجله حياته، وأبعد من ذلك، لقد أنْسَنْتُها ومنحتُها أنفاساً لتبدو حية. أوَليست الأفكار حية؟

* نلاحظ أن وصفك مقلّ جداً، إذ أعطيتَ اهتماماً كبيراً للأحداث والشخصيات واللغة على حساب الوصف، لماذا؟

 كل ما في الأمر أنني وضعت مسافة كافية بين الكاتب والراوي من جهة، وبين الراوي والبطل أيضاً من جهة أخرى. لا أريد للراوي -حتى لو كان كليّ العلم- أن يتدخل في شؤون الشخصيات ومصائرها، أو أن ينهمك في وصفٍ ليس من واجبه، أو أن أحمّله أكثر مما يحتمل وأضيّق عليه رؤيته وأفقه. ليس كل ما يُشاهد يُقال، وليس كل ما يُعرف يُفصح عنه، هناك ما أدعوه "المواربة"، لهذا فإن على القارئ/المتلقي أن يبذل جهداً من طرفه ليملأ الفراغات التي تركتُها (كاتباً/ راوياً/ بطلاً)، وبذا يكون شريكاً تفاعلياً مبادراً وإيجابياً، لا مجرد قارئ وفق المستوى الأول بهذا التعبير، أي يكتفي بما يمنحه له الكاتب ولا يغادر العبارة قيد أنملة باتجاه إعمال العقل أو استنباط الدلالة أو القبض على التأويل.

* ألك تجربة في كتابة القصة القصيرة جداً؟

 منذ نعومة قلمي وأنا أكتبها، أُقْبِل عليها وأدْبر عنها، وهي تقلقني لكوني لا أبدي وفاء لها بما تستحقه. أن ينشر المرء قصصه القصيرة جداً يعني مغامرة في أحد وجوهه، بخاصة في ظل الحضور الطاغي للقصة القصيرة، وفي ظل حضور أكثر طغياناً لنصوص تدّعي أنها تقع في باب القصة القصيرة جداً، لكنها لا تغادر كونها نصوصاً تقوم على النكتة أو الإضحاك أو المفارقة، وهو ما ينبئ بعدم نضوجها أو تشوش المعنى لدى أصحابها. أعِدُكَ أنْ سيأتي يوم أدفع فيه بقصصي القصيرة جداً إلى المطبعة بين دفتي كتاب، ولكن حين أكون متأكداً أنها تعبّر عني. أحب أن تصيب رصاصتي، لا أن تكون طائشة!

* كيف ترى إلى واقع القصة القصيرة ومستقبلها؟

 القصة القصيرة، شأنها شأن فنون التعبير المختلفة، تلتقي مع الكائن الحي في خاصّة النموّ، وتختلف معه في مسألة "النهاية" أو "الخاتمة"، فالكائن إلى زوال، وهذا مصيره، أما الفن فيواصل مسيرته.

لقد قطعت القصة شوطاً لا بأس به من التطور، لكن لا يمكن القول إنها بلغت الخمسين عاماً من العمر، أو ربط مولدها بحلول النكبة 1948 مثلاً. ذلك أنها تلازم الإنسان منذ الأزل، ولم يعد خافياً حضور فنون السرد بعامة، ومن بينها القَص، في تراثنا العربي.

وبمرور الزمن، كان من الطبيعي أن تتطور تقنيات السرد وأن تتعدد، أو يتخلّص الزمان في النصّ المسرود، من تسلسله المنطقي، أو يضطلع المكان بالبطولة بدلاً من البطل التقليدي، أو تجري أنسنة الجمادات وإسناد هذا الدور لها.. كل هذا حدث ويواصل حدوثه، بمعنى أن القصة تواصل مسيرتها.

* لكن، ألا تعتقد أن ثمة خللاً في مقدار حضور القصة القصيرة وفي مدى تأثيرها أيضاً؟

 نعم، وهذا مردّه إلى أسباب وعوامل خارجية أكثر منها داخلية تخص القصة نفسها. فعدد القرّاء إلى تراجع، والموضوعات المفضّلة في القراءة لم يعد أيٌّ من الفنون الأدبية من بينها، ويتزايد الميلُ إلى التلقّي عبر شاشة التلفاز أو شبكة الإنترنت، كما أن المجددين في هذا الفن انصرف بعضُهم عنه، وذهب نحو الرواية، أو المقالة الأدبية..

* إذاً، هل ثمة خشية من "احتضار" القصة القصيرة، بخاصة في ظل سطوع نجم الرواية؟

 بالتأكيد أن لا، فقلّةُ الإقبال على قراءة القصة لا تعني الإعداد لجنازة نؤبّن فيها هذا الفن عميق الجذور في تراثنا.

سطوع نجم الرواية في مرحلة، وسطوع نجم القصة القصيرة جداً في مرحلة أخرى، وسطوع نجم القصة القصيرة في مرحلة ثالثة أمر طبيعي، له علاقة بالسياق الثقافي العام، والمزاج الذي يحكم كلاًّ من الكاتب والمتلقي/القارئ، وطبيعة الموضوعات المتناوَلة أو الثيمات المتضمَّنَة في العمل الأدبي، إلى جانب التطور الذي يصيب الفنيات والتقنيات.

ومن المسلَّم به أن فنون التعبير تمر الواحدة منها بمراحل "كُمون"، كالكائن الحي، وهو ما أصاب الشعر مثلاً، لكن الشعر مضى إلى أبعد من ذلك حين وقع في "الغيبوبة". أما القصة، فما يزال لديها مريدوها وقرّاؤها، وما تزال تتفاعل مع السياق الاجتماعي الثقافي حولها، ومع فنون التعبير الأخرى، وإن كان ثمة اعتقاد بأن المستقبل –المستقبل كله- للقصة، فهذا ليس المراد منه نعي أيٍّ من الفنون الأخرى. الفنون كلها ستعيش، ولكن لكلٍّ منها وضعه الصحي الخاص به!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى