الثلاثاء ٣١ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم فؤاد وجاني

رحلة البوهالي الثانية: العِلم

لا يُدرك العالم زبيل العليم، ولا يبلغ الظالع شأو الظليع، وما الرأس إلا وعاء لزاد ينفع ولا ينفد من لدن صانع محيط، فمن أحبه المعبود جعل مؤونته العلم، وبالصبر زود قلبه لسلوك سبله الفجة، والإرادةَ منح نفسَه لاجتياز شعابه الوعرة، فالسهر نديمُه بالليل، والسعي خليلُه في النهار، يكْرع من ثجّاته الصافية، ويغرف من حياضه السلسبيل، لا يحبطه فشل ولا تثنيه عثرة، وما يزال يمخر عباب يمّ حتى يظهر له آخر، فلا يصل شاطئ الراحة إلا وقد ونت الناظرة ووهن العظم ودنت منه خطوةً المنية. آنذاك يغدو بعد طول أمد في الكد والجهد والتحصيل عالما جليلا، عارفا بميادينه، لمدخراته ناقلا. ومتى وجد قوما يولون للعلم منصبَه الجليل، ويدركون خيره الجزيل، أقام بين ظهرانيهم لينهل منه اللاحقون بركبه، فيكفيهم عناء المسير في دربه، وليشرعوا إلى بحار غير هذِي البحار، ويغنموا من معاركه السلمية. ألا إن للعلم نِعماً عدد ما في الجهل من نقم.

دعك يا مُريدا في محرابه ممن لم يجاوز العلم جراجِرَهم، ممن يطفون فوق السطح عوض الغوص في الاعماق. أما ترى أن السمك الخبيث طعمُه يطفو فوق الماء، والسنابل الفارغة بين قريناتها الممتلئة تهز الرؤوس الخاوية تكبرا، وأن جاذبية الأرض تهزأ بالفقاعات فجَوّاً ترفعها، والريح تذرو هشيم النبات لتبقى الحبوب التي تنفع البشر والدواب، والنارَ لا يوقدها إلا الحطب فأما العُثان فمتبدِّدٌ في الهواء، وأنّ ما وَمَنْ ينفع الناس فينزل كالمطر ليحييَ عقولا مَوات.
هناك هنا الرب القريب البعيد، الله الحكيم الذي علمك مالم تعلم، علمك سحرالبيان وكل العلوم والاسماء، ورفع شأنك فوق الملائكة، فلا تقولن هذا من تحصيلي وعقلك هذا من خلق الله، ولا تزعمن أن لسانك مِن صَقل آبائك ففصحاك هداية من جاعِلك، أما ترى أن بلاغتها تفوق كل صورة، وأنها لغة العلم والكون والإنسان، وكان ربك عليما بصيرا.

يا أخي في الذنب السماوي وشقيقي في الشقاء الدُّنْيَيِّ، يا ابن آدم وحواء، لا سعادة لك إلا متعلما، ولن تقوم لك خلافة على البسيطة إلا بالعلم، فاحمل ما شئت من سلاح وحاربْ، وخُض في الامصار وشيِّدِ المدن والطرق وتطاول في العمارة، إنك لن تعدل في معركة مادام الجهل ليس عدوا لك، ولا ثراء لك مُحَققٌ وعقلك هذا فقير، فاملك ما شئت من متاع الفضة وكنوز الذِّهْبانِ، ألا إنك لذاهب تارك دون ذكرى مالم تُبقِ علما ينفع الذين يأتون من بعدك.
أفلا أدلك كيف ترث الأنبياء، تأمّل الملائكة وهي خافضة أجنحتها لطلاب العلم، واخلع نعليك تواضعا كما جئت حافيا إلى الدنيا، وسِرْ بين جنات العلم تُظْلِلْك أشجارُه، وتلُفك أغصانُه وتسقيك جداولُه، فتبقى يانعا ما حييت، وتَحُول دنياك قبل أخراك إلى دار نعيم. وإياك وما سطره الحاكمون وكتبتْه الدول، فلجهلٌ مُطبق خير من منحى مُسَطّر، والمقدَّم المفروض سلعة معروضة لعلة استبداد في أنفس أصحابها، فانبش في ذاكرة الحق وصاحب الشك فهو مرشدك إلى اليقين.

وفي العلم لا تقنع، ففيه استُحِبَّ لك العسْمُ ما تشاء، وفيه حُرِّم عليك العجز، وفيه العناد لك جاز، فاركب رأسك واقتحِم لَجَّاته غير مكترثٍ بما تلقاه من ضروب القساوة والجفاء، فإنَّ طرقَ العظمة بالمكاره محفوفة، وإن الولادة بالحمل الثقيل ثم آلام المخاض مسبوقة، هو كنز نفيس حفِظتْه أممٌ فسادتْ وضيَّعته أخرى فبادتْ.

يا من صرخت بكاءً يوم وُلدت، إنّ العلماء أحياء وإن ماتوا، فابذل عمرك في العلم يبكيك الناس بعد انقضاء الأجل، وتفرح أنت بما تركت لهم. أنت نجمة الله في أرضه وبك الخلق يهتدي ، فإذا قرأتَ فاذكر فضل الله عليك، وإذا علمتَ فالله أعلم.

تنطفئ آخر جمرة من دخان البوهالي. انتهى الكلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى