الأحد ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
إلى كل أم أو من يقوم مقامها...
بقلم محمد نبيل

حسناء

أعرف أن الكتاب الذي كان بين أصابعي يحجب عني شمس الحقيقة و يخفي الأفكار التي كانت تمر أمامي كالسراب. حاولت أن ألمس خطوطه بيدي كالريشة. كنت هائما هناك حيث لا أحد يرى بقلبه.

تلك الصبيحة، بدأت وكأنني أقرأ. دققت النظر في اسم غريب سرده الكاتب وهو يتحدث عن ثدي أمه. رحلت بعيدا عن مكان عزلتي بالمترو. كانت الوجوه مصفرة. لا أرى في جفونهم سوى لعنة الدولار... لكن كانت هي أمامي، تضحك و أحيانا تقهقه. أشرب معها القهوى الممزوجة برائحة الزعتر. تمنحني إحساسا بأنني كائن وسط ركامات من الموجودات. تقدم لي الكوب الساخن كباقة من الورد أشمها كل عشية. حنانها فياض. عندما أدخل إلى غرفتها أجدها ممدة على الأرض، تنتظر قدومي كي أفتح لها الشهية لقراءة بعض الحروف التي تركها المرحوم. كانت تساؤل حماقاتي، تستفزني عندما تتفتق فرعونية أناي المسكونة بهم البلاد من بين ثنايا جسدي النحيف. تضحك عندما أحزن كي تخفف علي عناء المكر اليومي.

في تلك الساعة، لم أكن بشوشا كعادتي، أوزع الضحكات على وجوه فقدت روح الفرحة منذ أن تحطمت الأسوار و اختفت الأبراج. قالت لي بنبرة فيها الكثير من اليقين:
عقلك طار من مكانه و حلق في أجواء لا تعلمها. لكن انتظر، غدا غادي يطلق الله سراحك.

آه، كم كانت هذه الكلمات وكأنها جاثمة فوق صدري. سكنني إكتئاب غريب فانتظرت حتى أتت لتعد طقوسها الليلية قبل أن تنام. كانت لا تضع رأسها على المخدة قبل أن تغرس أصابعها الشاحبة في شعري. تداعب أرقي إلى أن أدلي رأسي على ساعدها. تعود إلى سريرها النقي لتحلم في هدوء و سكينة بعيدا عن أضواء النهار الخادعة.

أحس بالنشوة عندما توقظني بعد أن تدفئ ساقي بكلماتها الصباحية. أدشن نهاري بنغمات وصاياها العشر. كانت لا تتوقف عن الحركة. تتفوه بعبارات مصنوعة على مقاس من يتأهب للموت. أتذكر عندما تخاطب حركاتي البهلوانية :

 تعال يا مخبول.لا أعرف كم بقي لي من هذا العمر و لا أدري كيف سيكون مصيرك أنت الذي لا تقف ساقاك إلا برائحة الزعتر ولا تأكل إلا اللحم المطبوخ بعناية على فوهة نار حارقة. كيف ستتحول أحلامك بعد أن تفقد ذاكرتك ؟ إني حائرة، الموت تطاردني كشبح يهز كتفاي كلما رمشت عيناي .
أجبتها بلا تردد:
 كلامك الكثير عن الموت يفقدني الرغبة في تذوق كل ما اختلسه من حالات الانتشاء.
ردت علي بلغة فريدة:
الموت رحمة للمزاليط بحالي. إنها تستر عورة اليائسين.
حاولت أن أرطب من عنفوانها اللغوي. أمسكت برأسها. يداي كانت تقفز على جوانبه. كنت مرحا، منشرح الصدر. همست في يدها اليمنى ثم قلت لها:
 الموت تهاب الأحياء مثلك. لا تنزعجي...
مدت يدها اليسرى و أدخلتها في جيبي المثقوب. رمت بعض الدراهم التي سقطت على الأرض. تعرف إنني ألتهم الورق كما ألتهم الخبز عندما يقتلني الجوع.

لم أكن أصدق كيف أنسى بسرعة وصيتها الرابعة:
ـ إياك و العين الخبيثة. إنها مدمرة لهيامك و لعشقك الأبدي. لا تنسى أن لك فم يضحك و قلب يحب كل جميل في زمن لا يعترف بمعنى الحب. تجنب المشي ليلا على حافة الوادي و لا تخترق السواقي العامرة بالماء الراكد. لا تتفوه بكلمات قدسية داخل أماكن لا يستطيع أن ينصت أصحابها إلى صوت الندى عندما ينزل من كبد السماء.

أغرقتني هذه الوصية في دموعي الساخنة التي كانت تخرج من بين رموشي كحبات رمل يتيمة. خرجت لأغير هذا الفضاء الجنائزي عسى أن يأتي ملاك الحرية الذي يقض مضجعي كلما اشتد علي حصار الكلمات...لكن لم أستطع طرح أسئلتي المعتادة. فكرت في العودة إليها لأنها وحيدة وترفض النوم بعيدا عن شخيري.

عدت و في نفسي رغبة جديدة.وجدتها تئن ثم بدأت تضحك بكاءا. شدت ظهري من الوراء. قبلتني بجنون. لم أستطع مقاومة صوتها المريض. حملتها على سريرها المائل. بدأت أغني لها أغنية العهد. كانت تفتح فاها لأقطر فيه العسل المزوج بماء الورد. كانت تنظر إلي باستغراب و كأنها لا تعرفني. لمست وجهي و شدت على نواجذها حتى قالت:
لا تخضع للعبة الحياة...
راحت حسناء و في صدرها الضيق شيء من الحسرة لأنها لا تريد ان تراني في حلة المغترب عن الحق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى