الأحد ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم صالح الشاعر

من صور التناص في شعر الجواهري

التناصُّ رابط خارجي للنصِّ بنص سابق، قد يستعمل جزءًا من ذلك النص السابق، وقد يشير إليه ويلمِّح، وذلك الجزء يترابط مع بنية النص الجديد ويصبح كالتطعيم له، سواء ارتبط به من جهة اللفظ أو المعنى أو كليهما معًا.

وورود التناص نتيجة طبيعية لكون النص لا يبدأ من فراغ وإنما هو مزيج من القراءات المختلفة للنصوص المختزنة في ذهن مبدعه بالإضافة إلى الإبداع الذاتي له، فهو يقرأ قبل أن يكتب، وحين يكتب يحدث منه ـ عفوًا أو قصدًا ـ أن " يحيل بالمعهود على المأثور " (#)، فيفتح نافذة للنص رابطة له بإبداع سابق، ومرتبطة به بنوع ارتباط لفظي أو معنوي.

وقد تحدَّث النقَّاد العرب عن مفهوم التناصِّ تحت عنوان السرقات الشعرية، وهو عنوان أقرب إلى الإثارة الإعلامية منه إلى الدقة العلمية، فالسرقة ربَّما تصدق على الإغارة أو الغصب، كما يُحكى عن الفرزدق من أنه كان إذا أعجبه بيت غصبه من قائله ورُوي له دونه (#)، ومن يفعل ذلك إنما " يرى نفسه أولى بذلك الكلام من قائله " (#)، وأمَّا ما سوى ذلك، فمجال القول أوسع من الوصم بالسرقة، وإذا كان وجود عمل أدبي يخلو من آثارٍ لأعمالٍ سابقةٍ ضربًا من المستحيل، فليس يُعاب ما يوجد من الجميع بلا استثناء.

وقد تفنَّن النقَّد العرب في تقسيم السرقات وتفريعها، فممَّا ذكره ابن رشيق من المصطلحات: الاصطراف، والاستلحاق، والانتحال، والاسترفاد، والاهتدام، والملاحظة، والإلمام، والاختلاس، والموازنة، والعكس، والمواردة، والتلفيق، وهذه الأقسام والفروع تتعلق باعتبارات عدَّة، كاللفظ، والمعنى، وبنية الكلام، ومقدار المأخوذ، والمعاصرة وعدمها.

وقالوا: " من أخذ معنى بلفظه كما هو كان سارقًا " (#)، وربما صح هذا بين المتعاصرين، أما في حالنا الآن، فربما كان الشاعر العظيم هو من يطعِّم شعره بأبيات من التراث، فهو دليل على قراءته للموروث الشعري وإعجابه به، وهو كالتَّحدِّي أو إثبات الشاعرية؛ لأنَّ الشاعر الضعيف يفتضح إذا وضع وسط شعره بعض الأبيات أو التراكيب التراثية؛ إذ هي تبرز ضعفه بقوتها، وقد يُخفق في وضعها بشكل صحيح بحيث تمتزج بنصِّه ويصبحان كالشـيء الواحد من غير أن يضرَّ ذلك بنصِّه، ومصداقًا لهذا نجد بعض الشعراء المحدثين " يشيرون إلى مصادر نصوصهم وكأنهم يوجِّهون القارئ قصدًا إلى إدراك نصوصهم في ضوء علاقاتها بمصادرها أو مؤثراتها " (#).

وعلى كل حال فالتناصُّ يهمُّنا في الدراسات النصية؛ سواء كان ذلك لأنَّه:

وسيلة لإثراء النصِّ بفتحه على نصوص أخرى.

أو لأنَّه نوع من الربط.

أو لأنَّه نوع من الإحالة.

ونظرة خاصة إلى التناص تجعله يبدو لي على قسمين، إذ لا يخلو تداخل النصوص من أن يكون ذا طابع لفظي تركيبي، النص القديم فيه مرتبط بالنص الجديد بوسائل سابكة ظاهرة في النص، أو أن يكون ذا طابع مفهومي، النص القديم فيه مرتبط بالنص الجديد بوسائل حابكة ملموحة ومفهومة، وهذا المقال يلقي الضوء على النوع الأول من التناص في شعر الجواهري، وهو على قسمين: أحدهما في الربط النحوي، والآخر في الترابط المعجمي.

التناص في الربط النحوي:

المقصود بالتناص في السبك النحوي أن يستعين الشاعر بعناصر سبك نحوية في ربط نصوص أخرى بنصِّه، فيكون العنصر النحوي هو الأبرز في علاقة النص الجديد بالنص القديم، وفي شعر الجواهري كثير من نماذج هذا التناص، وسأقدِّم بعضًا منها.

فمنها قوله في قصيدة (الثورة العراقية)(#) :

هَبُوا أنَّ هذا الشرق كان وديعةً
فلا بُدَّ يومًا أن تُردَّ الودائعُ

وفي البيت تناص ضمَّن الشطر الثاني بكامله من قصيدة للبيد بن ربيعة، والبيت هكذا في ديوانه (#):

وما المالُ والأهلُونَ إلاَّ ودائعٌ
ولا بُدَّ يومًا أن تُردَّ الودائعُ

فالجواهري هنا في سبيل ربط صدر البيت بعجزه قد غيَّر أداة الربط (الواو) السابق لكلمة (لا بدَّ) وحوَّلها إلى الفاء، ففي حين يصلح الربط بالواو في بيت لبيد يبدو الربط بالفاء أوفق في بيت الجواهري؛ لتفيد التعقيب الذي اقتضاه الطلب في شطر البيت الأول (هبوا)، كما أنَّه في سبيل الربط بين الشطرين أوحى بكلمة القافية بقوله: (وديعة) في آخر الصدر، وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعه لبيد في بيته.

من نماذجه كذلك قوله في (المقام في لندن) (#):

مللتُ مُقاميَ في لندنا
مُقامَ العذارى بدُورِ الزِّنى
مُقامَ المسيحِ بدار اليهودِ
مُقامَ العذابِ ، مُقامَ الضَّنى

وهو في صدر البيت الثاني ناظر إلى قول المتنبي (#):

ما مُقامي بأرضِ نخلةَ إلاَّ
كمُقامَ المسيحِ بينَ اليهودِ

إلاَّ أنَّ الجواهري حوَّل النَّصَّ المضمَّن من مشبَّه به مجرور بالكاف إلى مفعول مطلق منصوب، وصار مُقام المسيح (بدار اليهود) بدلاً من أن يكون (بين اليهود).

ومن اقتباس الجواهري من القرآن الكريم قوله في (بنت بيروت) (#):

يا نبتةَ اللهِ في عَليا مظاهرِهِ
آمنتُ باللهِ لم يُولَد ولم يَلِدِ

فهو في قوله: (لم يولد ولم يلد) ناظر إلى سورة الإخلاص، وفي سبيل ربط النص المقتبس بالنص الحالي فقد جعله حالاً للفظ الجلالة الواقع بعد حرف الجر، وقد قدَّم إحدى الجملتين على الأخرى المتقدِّمة في الأصل من أجل إقامة الوزن.

ومن التناص كذلك قوله (في مؤتمر المحامين) (#):

أفي الغُنمِ أشجعُ من قَسْوَرٍ
وفي الغُرمِ أجبنُ من صافرِ؟

فقوله: (أجبن من صافر) نصٌّ لمثل عربي (#)، وقد جعله بكامله جزءً من المعنى في حين كان نصًّا مكتملاً، وقد استعان بالمقابلة في المعنى والتكرار في التركيب لسبكه سبكًا جديدًا.
التناص في الترابط المعجمي:

المقصود بالتناص في الترابط المعجمي أن يكون مناط التناص عنصرًا من عناصر السبك المعجمي، وهو في الغالب مختصٌّ بقضيَّة المصاحبة المعجمية، وأغلب ما وجدت منها في شعر الجواهري كان من الاقتباس من القرآن الكريم، وقد كان ذلك على وجهين:

أحدهما: إضافة لفظ إلى آخر، أو اتِّصاف أحدهما بالآخر، ورغم أن الإضافة والنعت عاملان نحويان إلا أن فكرة المصاحبة المعجمية أقوى في هذا المقام؛ نظرًا لأنَّ معجم الألفاظ القرآنية هو الذي فرض كون اللفظين معًا، وليس السياق القرآني، ونظرًا لأن القضية ـ في النهاية ـ تخصُّ مفرداتٍ بعينها، لا جملاً أو سياقًا من عدَّة جمل.

والثاني: مجرد ورودهما في سياق واحد.

وسأعرض هنا نماذج لكلا الوجهين، فمن الألفاظ المضافة:

(فصل الخطاب) في قصيدة (درس الشباب، أو بلدتي والانقلاب) (#)، حيث قال:

يا بني العشرينَ في أعـ ـمالكم فصلُ الخِطابِ

وهذا التركيب الإضافي من الآية الكريمة: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (#) ، فالجواهري أخذ التركيب الإضافي ليكون متمِّمًا للفظ البيت ومعناه وموسيقاه، وربَّما استدعاه بدافع من لفظ القافية وحرف الروي.

ومنها كذلك (حَمَّالة الحطب) في قصيدة (أنغام الخطوب)(#) ، حيث قال:

ثقافة الشعب قل لي أين تَنْشُدها أفي الصـحافة مزجاةً أم الكتبِ
هذي كما اندفعَت عشواءُ خابطةٌ وتلك فيما حوتْ حمَّالةُ الحطبِ

حيث أخذ التركيب الإضافي من الآية الكريمة ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ (#)، وإن كان الجواهري هنا قد نظر إلى التركيب مشفوعًا بنظرة أخرى إلى معنى قول العرب: فلان " حاطب ليل: يتكلَّم بالغثِّ والسمين " (#)، فالاقتباس هنا من الآية لفظي مجرد، ومن دواعيه أيضًا مراعاة القافية.

وجاءت ألفاظ كثيرة لدى الجواهري على وجه الصفة والموصوف، منها:

(كأس دهاق) في قوله في قصيدة (على حدود فاس) (#):

حتَّى إذا الصيفُ انبرى واغتدتْ تُصبِّحُ الأرض بكأسٍ دِهاقْ

فالتركيب الإضافي من الآية الكريمة ﴿ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴾ (#)، وتبدو القافية محرِّكًا قويًّا لاجتلاب هذا التركيب واقتباسه.

ومنه كذلك قوله في (درس الشباب – أو بلدتي والانقلاب) (#):

قد قرأتُ الشِّعرَ في القر
آنِ منْ عهدِ التَّصابي
بِقُدُورٍ راسياتٍ
وجفانٍ كالجوابِ

أخذًا من قوله تعالى: ﴿ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ (#)، والتناصُّ هنا آخذٌ شكلَ الاقتباس الصريح مع الإشارة إلى المصدر، حيث يشير بقوله: (قرأت الشعر في القرآن) إلى وجود الجمل الموافقة للأوزان الشِّعريَّة داخل النص القرآني، فأتى بهذين التركيبين مع قلب ترتيبهما لموافقة قافيته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى