الأربعاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠١٢
مصافحة..
بقلم بلقاسم بن عبد الله

مفدي زكريا.. و زمن الحصار

طبعة ثالثة مزيدة ومنقحة

.. وهل أعددنا بالفعل خطة محكمة مدروسة لتخليد ذكرى أدباء وشهداء وأبطال ثورتنا المجيدة ضمن البرنامج العام للإحتفال بخمسينية الإستقلال؟.. تساؤل شرعي مثير للجدل، واجهني هذه الأيام قبيل تخليد الذكرى الخامسة والثلاثين لوفاة شاعرنا الثوري الوطني مفدي زكريا يوم 17 أوت 1977.

هل كتب فعلا كل ما يمكن أن يكتب عن تنوع و تشعب تجربته، عن تضاريس حياته الخاصة، و طقوس علاقاته العامة؟.. لماذا أهملنا تماما تجربته الصحفية؟.. وهو الذي أصدر العدد الأول من جريدة:الشعب، بتاريخ 27 أوت 1937 و اعتقل مباشرة مع الزعيم مصالي الحاج، ليتولى الأصدقاء بعده إصدار العدد الثاني و الأخير الذي صودر بدوره، قبل أن يلتحقوا به ليذوقوا معه مرارة السجون الاستعمارية.

الآن.. وفي ذكرى وفاة شاعرنا مفدي زكريا، استظهر ملامح وجهه ونبرات صوته وهو يلقي إلياذته الخالدة في الملتقى السادس للفكر الإسلامي بالجزائر العاصمة أواخر جويلية 1972 تـذكرت حواراتي معه، و مقـالاتي العـديدة عن غـبنه و مضايقـاته و ضـرورة إنصافه، رجعت و راجعت كتابي عنه: مفدي زكريا شاعر مجد ثورة.الصادر في طبعتين أنيقتين منذ 1990 في إنتظار صدور طبعة ثالثة منقحة ومزيدة، و عدت إلى نفسي، لأطرح مجموعة تساؤلات صغيرة، ذات دلالات كبيرة..

ـ هل حقا مات مفدي زكريا يوم 17 أوت 77 بسكتة قلبية، كما قيل وقتئذ، أم قتل مسموما، كما تشير بعض الاستنتاجات؟.. إنه سؤال كبير خطير لا يزال مطروحا، في انتظار كشف و توضيح ملابسات أيامه الأخيرة بتونس الخضراء، كما يحكيها الباحث و المؤرخ محمد قنانش، ضمن حوار مطول منشور بكتابي المذكور.

ـ لماذا اكتفت الصحافة الجزائرية يومئذ، بنشر خبر وفاته في سطور محسوبة محدودة معدودة. و لم تذكر شيئا عن دفـن جثـمانه بمـقبـرة بني يـزقن، مسقط رأسه. بل و لم تشر، و لو باختصار، إلى حياته النضالية و شاعريته الفذة..

ـ لمـاذا اضطر مفـدي مكرها إلى الإقـامة الجبـريـة بـكل مـن الـمـغرب و تونس، و لمدة تزيد عن عشر سنوات، وهو الذي أحب وطنه الجزائر إلى درجة العبادة.

ـ لماذا حرم من إلقاء قصيدته المطولة عن حضارة و أمجاد تلمسان، أثناء الملتقى التاسع للفكر الإسلامي المنعقد من 10 إلى 19 جويلية 1975 بمدينة تلمسان، حيث فر خفية إلى المغرب الأقصى، بعد أن شعر بالمضايقة و الملاحقة. و قد نشرت هذه القصيدة كاملة بخط الشاعر في كتابي المذكور.

ـ لماذا يتأخر ترسيم النشيد الوطني الخالد: قسما بالنازلات الماحقات.. إلى غاية 26 جانفي 1986 بعد أن ظل يملأ الدنيا طيلة ثلاثين سنة.أي منذ 1956
ـ ما موقعه و موقفه من السلطة الحاكمة في الجزائر منذ فجر الاستقلال؟.. كيف كـان ينـظـر إلى المـنجـزات التي تـتحقـق في الميدان؟.. ما عـلاقـته مع رجـال الحكم و الثـقافة و الصحافة؟.. هل كان يحمل لواء المعارضة خارج الديار؟..

زمن الحصار و المضايقات

.. يا له من شاعر عظيم و مظلوم!.. سخر أدبه و نضاله من أجل الوطن المفدى. فكان أن تعرض لأصناف الظلم و القهر من المستعمر، و لقي من أبناء وطنه ألوان الجحود و الإجحاف، لولا أقلام وطنية محدودة و معدودة، حرصت كل الحرص على إنصافه و رد الاعتبار إليه، و من خلاله، لكل مثقف غيور على شخصيتنا الوطنية.

و اليوم، و تخليدا لذكرى وفاته،نسترجع زمن الحصار، و أصناف المضايقات التي تعرض لها و واجهها كالطود الأشم طيلة سنين عديدة..

ـ من اجل الوطن المفدى، سجن شاعرنا مفدي عدة مرات، من طرف قوات الاستعمار، و كان أول اعتقال مع قادة حزب الشعب الجزائري في 29 أوت 1937 بعد ظهور العدد الأول من "جريدة الشعب " التي كان يترأس تحريرها. و توقفت هذه الصحيفة بعد أن صودر عددها الثاني في المطبعة.

ـ من غياهب السجن في الفترة الممتدة من 1937 إلى 1939 نظم نشيد الشهداء: اعصفي يا رياح..كما أنشأ جريدة ’’البرلمان الجزائري’’ من داخل سجن الحراش.

ـ كتب معظم قصائده الثورية و أناشيده الوطنية بسجن بربروس الرهيب، و منها نشيد: قسما.. الذي كتبه سنة 1956 وليس سنة 1955 كما هو شائع لدى العامة.

ـ واصل بعد الاستقلال تخليد ذكريات الثورة بقصائد يفتخر بها، كما يقول في الحوار المذكور، منها ما وجه لبعض صحفنا اليومية و الأسبوعية، فقطع طريقها دون المجتمع بعض الذين لم يتخلصوا من المركبات و العقد.

ـ كثيرة هي الكتابات التي نشرت في صحف و مجلات ما بعد الاستقلال، حول موضـوع: النضـال و الثـورة في الأدب الجزائـري. حاولـت أن تـتجاهل هذا الـشـاعـر الـقـديـر، لحسابات ظرفية، بعيدة عن النظرة الموضوعية.

ـ ظلت المضايقات تحاصر شاعرنا الكبير، و تلازمه كظله، و امتدت إلى محاولة تغيير النشيد الوطني، حيث لم يتم ترسيمه إلا في 26 جانفي 1986 من طرف المجلس الشعبي الوطني، بعد أن حذفت وقتئذ مقطوعة: يا فرنسا قد مضى وقت العتاب..

ـ وتمتد يد الحصار لتمنع شاعرنا مفدي من إلقاء قصيدة جديدة مطولة عن أمجاد تلمسان، أمام المشاركين في الملتقى التاسع للفكر الإسلامي مطلع جويلية 1975 رغم إلحاح الشاعر بمذكرة خطية دون جدوى، وحين شعر بالمضايقة و الملاحقة، سافر خفية إلى المغرب الأقصى فرارا، و قد نشرت القصيدة كاملة بخط الشاعر مع مذكرته الشخصية في كتاب: مفدي زكريا شاعر مجد ثورة.

ـ حتى خبر وفاته في 17 أوت 1977 همش تماما، بل أن عائلة الفقيد دفعت نقدا ثمن نشر إعلان صغير عن نقل جثمان المرحوم إلى أرض الوطن، ليدفن بمسقط رأسه، بلدة بني يزقن قرب غرداية، و قد نشر الإعلان بصحيفة يومية بالفرنسية بعد أربعة أيام، في زاوية مظلمة وسط الإعلانات الكبيرة.

ـ إنتاجاته المغمورة تمثل ثلثي الإنتاج المطبوع، و تلك مهمة أخرى، ينبغي أن يضطلع بها المقربون و المهتمون، قبل أن يلفها النسيان و الإهمال.

.. تلك باختصار، نماذج مختصرة من حالات الحصار، و أصناف المضايقات التي تعرض لها شاعر الوطنية و الثورة، و مفخرة شعراء المغرب العربي. و مع ذلك، قد نغمط الأديب أو المفكر أو الفنان حقه حينا من الزمن، نتيجة حسابات ظرفية أو حساسيات شخصية، غير أن قيمته الحقيقية تظل بارزة ناصعة، سواء في حياته أو بعد مماته. و لعل أفضل و أروع تخليد لهذا الشاعر العظيم يتمثل في العمل الجدي لإخراج أعماله الكاملة إلى النور، ونشرها وتعميمها بين أبناء الجيل الجديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى