الخميس ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
كائتات البعتي تغرق في فضاء تتزاوج فيه الحركة والسكون، وتتداخل فيه الأضواء والظلال
بقلم احميدة الصولي

الفنان محمد البعتي : أعمال في أوج انفتاحها

يدعونا طغيان الصورة على عالمنا إلى اكتساب القدرة على تفكيكها للاستفادة مما توحي به أو تتضمنه من خطابات أو أفكار. وما توحي به صورة قد يستغرقك وقتا طويلا للإحاطة به وتفسيره، وقد لا يتحقق ذلك إلا جزئيا. وتبقى الصورة حاملة لمدلولات قد لا يتفق عليها كثير من الناس، وهنا تكمن أهمية الصورة الفنية خاصة. وإذا تعلق الأمر بالعمل الفني، كمصدر للمعاني والصور والخيال، فإن الأمر يحملنا على التوسل بالحلم. وحتى تلك اللحظة الحالمة تبقى أهميتها محدودة لأنها لا تتكرر، فقط تمنح صاحبها شحنات دافعة ترسو به في خضمّ من الأحاسيس، وتجعله يبدع اللحظات المشحونة دلالات، عبر أشكال وحالات لا تهدأ عند أي نتيجة ينتهي عندها المتلقي.

وللغوص في أعماق الروائع الفنية لابد أن تتسلح بالخيال، أو فإن مصيرك أن لا تكون إلا خارجها. والروائع التي أتحدث عنها ليست فقط تلك التي ألقى الزمن بها في المتاحف أو المغارات أو سواهما ؛ فروائع الفن لا تتوقف عن التناسل ما دام هناك نبض يسري في الإحساس أو... في الخيال. وما يتشكل من الخيال أو بواسطته لا يتم اختراقه إلا بواسطة الخيال قبل كل شيء.

هكذا كانت هواجسي وأنا أهم باستكشاف أبعاد عالم الفنان محمد البعتي، وهكذا كان بعض توجسي وأنا أقترب من لحظات التكوين المحملة بالرؤى والحالات، وهو يصارعها ليبني بها ومن خلالها انهار العشق التي تفجرت شلاّلات ضوء وألوانا وحالات حائرة على جدران فضاء العرض برواق يحيى للفنون بالبالماريوم بتونس العاصمة، حتى منتصف جانفي 2006 وهو معرض ضم 22 عملا فنيا من أحجام متوسطة، وأخرى كبيرة نسبيا، جميعها من خامة الزيت على القماش.
لو قدر لأحدنا أن يرقب البعتي في مرسمه وهو يصارع حالات التكوين، فقد نفجأه منهمكا في تفكيك الحالات وإعادة تشكيلها في هيئات تجريبية، حتى أن كل حالة تصبح حشدا من الحالات التي تأخذ أشكالا خاصة، تشدها ألوان متداخلة وتتنافذ فيما بينها، لتحدث في هدوء اللوحة ضجة ومتاهات، هي مشاهد متداخلة قد يكمل بعضها الآخر، وقد يناقض بعضُها الآخر. وفي كل مراحل التكوين تتملك الفنان الحيرة والهواجس وهو ما بين ركوب المغامرة ومهادنة الأفكار، وينتهي من لوحته وكأنه يقول : "لو اكتملت فإنها لن تكون هكذا، لأنها الآن في أوج انفتاحها".

رحلة الفنان في مراودة الفكرة للإيقاع بها تتحول إلى عملية اصطياد ميدانها اللوحة، فهذه تهم بأن تتشكل والفكرة تعلن تمردها، والفنان يصارع الاثنين بحثا عن لحظة هدوء تتفاعل فيها عناصر اللاوعي ويُصبح المشهد مجمع أحلام وأخيلة تتمنع عن التجسد والإمساك بها. إنها – في البعض - تقترب من السريالية، ولكنها في الغالب تحاول الالتحام بهموم الآخر عبر حيرة الذات.

وتتضمن أعماله الجديدة بهذا المعرض توجها مختلفا عنه في السنوات الثلاث الماضية، حيث كانت مساحة اللوحة تختزل عنده في شريط تحشر به مختلف الوحدات والعناصر التعبيرية والتشكيلات اللونية التي من خلالها يوحي ويرمز ويقول الكثير من حالاته المبدعة. في أعماله الجديدة أصبحت اللوحة بكاملها مسرحا لكل ذلك وتتشكل من تلك المنتشرة أشكال لكائنات بحرية بالأساس.

ومن ذلك أيضا، الشخوص التي كانت شبه غائبة أو مستترة في أعماله. ففي هذه الأعمال أصبحت حاضرة، إما بكاملها أو ببعض أعضائها الدّالة على حضورها ذاك. وبالنسبة إلى الألوان فقد أدخل على النسق العام لألوانه تغييرات لافتة حيث تحولت الألوان الزرقاء المشيرة إلى هدوء البحر، أو تلك التي تتم في شدة انفعاله، فاتخذ من الأزرق مجالا للتدرج حتى درجة الخضرة، وتحولت تلك إلى ألوان صفراء تميل إلى البني مستخرجا منها أشرطة وحالات تعج بالعناصر المتغيرة، منها التي ترحل بالمتلقي إلى عوالم أعماق البحار.

ثمة ومضات تظهر هنا وهناك لامعة كبطن الحوت، تبدو نادرة لكن حضورها لافت، وتبدو بعض العناصر مستقلة عن بعضها لكنها تشكل مع بعضها سياقا تشكيليا يفضح حركة الباطن واختلاجات الأعماق والأحاسيس. وتظهر كائنات البحر بألوانها الفسيفسائية ثم تختفي مع المد والجزر عبر صفاء الشفافية وغيومها، وتشكل الأشرطة الضوئية في اللوحة مسارا لها في الماء. وقد ساهم استخدام الأشرطة أفقيا وعموديا في جعل تقنية التشاف تسهم في جعل فضاء اللوحة نبعا للأفكار والحالات المروعة. وما ينتجه سَفَر الفرشاة وتزحلق الأدوات الأخرى للرسم يمثل انفلاتا من سيطرة الإخفاء واستجابة لرغبة الفنان أو تهويماته أحيانا. فلم يكن هناك عمل في هذا المعرض لم تثبت فيه أشرطة تسهم في تحويل المشهد إلى وحدات تفاعلية يحاور بعضها البعض.

اللولبيات التي تظهر وتختفي في الماء حسب تحولات التيار حاول البعتي تحويلها إلى دوران ثابت ماثل أمام المتلقي بكل ما يحيل عليه من حركة الكائنات وتناوب المد والجزر فيما يبدو اصطيادها مستحيلا –لولا جرأة الفنان- خاصة إذا كانت لحظات المد والجزر خاضعة لتيار عنيف. وفي مواقع كثيرة تكون الكائنات البحرية مشابهة لأشكال الكائنات البرية، فإذا التداخل البصري يوحّد بين الأسماك والطيور لولا تدقيق النظر الذي يفرز كل مجتمع عن غيره. وإذا حالات المد والجزر تتحول إلى أشكال وصور وهمية تخرج الرائي من سياقها البحري إلى ما لا قرار له في الجو.

في بعض الأعمال يلوح الجانب الكتلي (من الكتلة) حيث يخرج الفنان الأشياء العديمة الجدوى لتصبح ذات وظائف جمالية وتعبيرية فتصبح مصدرا الإلهام الروحي أو للتعبير والاتصال.

ونشير هنا إلى أن الفنان محمد البعتي يتصرف بدقة في توزيع الأضواء والظلال حيث يصبح موضوع الانعكاس حالة ثابتة عبر الطبقات الشفافة في أعماله. ذلك أن الأبيض ليس الوحيد مصدر الضوء عنده، فالألوان الأخرى تجعلها تضيء بقوة فاعلة في فضاء اللوحة وكائناتها، ولكنها إضاءات تحاول اكتشاف أعماق الذات .

ثمة شيء بارز في معرض البعتي، انه التفكيك الذي شمل اللوحة، والفكرة، والألوان، والحالات. وهذه العملية التفكيكية اتخذت أكثر من أسلوب، ولكنها تصب جميعها في نهر واحد هو تجربة البعتي التي استندت إلى اللا متعارف واللاّ محدد واللا منتهي، أي إلى أن يكون عمله مفتوحًا يحتمل كل ’الإشاعات’ حتى المغرضة، وكل التفسيرات بما فيها ذات الأبعاد الشعرية. ولكن كيف تمت عملية التفكيك هذه ؟

 اللوحة : تحوّلت إلى أشرطة ومساحات تنغلق على نفسها، وأخرى تنفتح على نقيضها. وفيها مستويات تنتظم حينا وتلجأ إلى الفوضى أحيانا. يوهم المتلقي بأن بعض مشاهده مركبة أو ملصقة. ومنها التي تعددت فيها المشاهد، وتداخلت فيها الأفكار. وهي عموما قابلة للتمفصل وإعادة البناء.

 الفكرة : تبدأ واضحة وتدخل في إغماض يقترب من التشويه والفوضى، وتنتهي صورة لحالات غائمة تهم بأن تقول شيئا محددا، ولكنها تقول أشياء عديدة، جُلّها غير الذي يشاء الفنان.
 الألوان : تتدرج وتتمركز وتتصادم وتنفصل إلى أن تتحول الفكرة من خلالها إلى دفق من الحالات الأخرى. حتى الطبيعة أصابها التفكيك، فأعاد تشكيلها بالألوان وفق صياغة تصادمية، فأصبحت مروجا وصحارى وأفقا وأضواء تسبح جميعها في محيط من النبض الحارق، الذي يتوزع أشلاء حية على المشهد.

 الحالات : فيض المشاعر لم يتمكن من تحديده في هذه المساحة أو في تلك الأشكال. أصبحت الحالة الواحدة مزيجا من الحالات المتلاطمة. وبرغم مصدرها الواحد، فهي تحمل سمات التنوع والاختلاف. فتدفق الجزئيات من رحم الحالة ينبئ بعصور من التدفق الخفي للمعنى ولا يمكن محاصرته أو تحديد مواقع له. فقط ثمة ينابيع منه في الحس وفي المشهد.

كائتات البعتي تغرق في فضاء تتزاوج فيه الحركة والسكون، وتتداخل فيه الأضواء والظلال. كل شيء يبدو منشغلا بالخلاص مما وقع فيه، من دون أن يعرف كيف وقع أو لماذا ؟ حتى عناوين اللوحات تحيل الرائي إلى خارج اللوحة، فإذا المتلقي يزاوج بين المضمر والمجسد عبر الخيال، خاصة والفنان لم يبخل عليه بالخيوط المساعدة، والعناصر والعلامات التي تدله على الطريق ولا تفتحها له. يمكن أن تحمل كل لوحة - في لا وعيها - خلاصة تجربة حياتية، لأنها حوصلة تجربة وجودية لكائنات تصارع للانعتاق، فتنجدها الأمواج الصاخبة العنيفة، وتحملها إلى قرارة اللجة. لعلها خلاصة المصير المجهول للكائن البشري، في عالم يموج بالويل، ويتهيأ للارتماء في ذلك المجهول.

وليس أشق على المبدع من انتهاج طريق التجريب، لأنه في كل لوحة (في الرسم هنا) عليه أن يبتكر جديدا، وأن يتسلح باليقظة الدائمة لتجنب إنتاج ما سبق إنتاجه. وهو يطالب نفسه دائما باقتراح الغريب والمتفرد، وتلك لعمري مهمة في منتهى الصعوبة، لأنها محملة بالاستحالة غالبا.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى