الاثنين ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

«الطريق إلى المجهول» ليوسف نعيم

من المعلوم أن الأدب هو نتاج إنسانيّ، يتميّز بالمرونة والتطوّر، لذا فإن أجناسه متداخلة، يتماهى أحدها في الآخر، بمعنى أن الأنواع الأدبية تبقى ممتزجة، ولا تنفصل، ومن بين الأجناس الأدبية التي تمتاز بالتداخل، وتملك القدرة على استعارة عناصر أجناس أخرى السيرةُ، وقد أصبحَ تمييز الرواية عن السيرة أمراً عسيراً؛ لتداخلهما وتوالدهما من بعضها بعضاً. فليس ثمة آليات تعمل داخل الشكل الفني، تحول دون تداخل الأشكال الفنية وتمازجها

ورواية السيرة الذاتية فنٌ أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته، يجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيته الحيوية، كأن يكون المجال الفني أو الاجتماعي أو السياسي أو العسكري.. إلخ، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير، ويحاول الراوي الإفادة من كلّ الأساليب السردية؛ لتطوير نصّه ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، كما ترتكز رواية السيرة الذاتية إلى آلية السرد الاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة للعمل في حقل السيرة الذاتية.

ورواية "الطريق إلى المجهول" هي باكورة نتاج الكاتب يوسف نعيم، صدرت عام 2007 م، وهي تنبئ عن مولد كاتب ذي مواهب روائية غنية.

تمتد الرواية عبر (291) صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على اثني عشر فصلاً، يحمل كل فصل منها رقماً ولا يحمل عنواناً معيناً هكذا: (1)، (2 ). والقارئ لهذا العمل الأدبي، يكتشف هذه الفصول متلاحمة، مترابطة عضوياً، يستحيل فصل أحدها عن الآخر، يلفلها جميعاً وشاح شعوري وفكري واحد يجسد فيه الكاتب رؤيته الذاتية، وتجربته الإنسانية، إنه عمل أدبي ناضج، امتلك مبدعه أدوات الإبداع الروائي، ووظفها بجدارة، إلى الحد الذي يدفع الدارس إلى القول بأن الكاتب بعمله الأدبي الأول "قد وُلِدَ روائياً كبيراً".

يعثر المتلقي في رواية "الطريق إلى المجهول" على علامة إجناسية هي عبارة "رواية" تصاحب العنوان موجهة القارئ منذ البدء على تلقيها باعتبارها "رواية"، غير أن القارئ العارف بحياة الكاتب يجد نفسه أمام نص من تلك النصوص التي يَعثر فيها على التشابهات، وعلى تطابق بين المؤلف والشخصية، فبالتطابق بين الكاتب والراوي والشخصية تكشف السيرة الذاتية عن نفسها. إذ إن الغالب على السير الذاتية أنها تكتب بضمير المتكلّم المفرد "أنا" الذي يصهر كلاً من الراوي والشخصية والكاتب في بوتقة واحدة. فالروائي "يوسف نعيم" تعمّد استعمال ضمير الغائب "هو"؛ لكي يُوهم القارئ بأن نصّه سيرة غيريّة، ويؤكدّ الانفصال بين من عاش الرواية (الشخص)، ومن يسردها (الراوي)،بيد أنّه يمكن الحصول على تطابق بين الراوي والشخصية في حالة الحكي "بضمير الغائب" وذلك بإقامة المعادلة المزدوجة التالية:

المؤلف = الراوي

المؤلف = الشخصية

المؤلف = الراوي والمؤلف = الشخصية

إذاً الراوي = الشخصية

فرواية "الطريق إلى المجهول" رواية لجأ فيها الكاتب إلى اسم مستعار؛ ليختفي وراءه وهو يونس، فيونس (الشخصية الرئيسية) تتقاطع في الكثير من المواطن مع رواية "يوسف"(المؤلف)، ذلك أن "يونس" يحمل الكثير من السمات المشتركة بينه وبين المؤلف ابتداء بالاسم، فالاسمان يشتركان في حرفين متتابعين هما: الياء(يـ) والواو (و)، فاسم؛ (يـ-و-س -ف) يشبه كتابة (يـ - و- ن – س) من اليمين إلى اليسار، ويبقى تشابهٌ آخر في حرف السين(س) الذي جاء مشتركاً في الاسمين بغير ترتيب، أمّا بقية السمات، فتظهر في مسقط رأس كلِ من الراوي والمؤلف، وهي بلدة "بيت حانون" إحدى بلدات شمال غزة والتي تبعد عنها حوالي سبعة كيلومترات، فضلاً عن أن الراوي قام دراسة تخصص التجارة بالجامعة، وامتهن العمل في شركات ذات طابع تجاري. أما أسماء الأماكن التي وردت في الرواية فكانت في جلها أسماء حقيقية واقعية، تنقّل بينها وقطن بعضها، وتجيء محاولة الكاتب تطعيم روايته بذكر أماكن حقيقية واقعية؛ للتدليل على واقعية الأحداث في روايته.

وفي محاولة من الكاتب لإيهام المتلقي بأن ما ذكره من شخصيات، وما رصده من أحداث ليس في مجمله حقيقيا، فقد عمد إلى خلق أسماء مستعارة غير حقيقية لسائر أسماء الشخصيات الأخرى؛ ليعطيها طابعاً روائياً مثيراً.

إنّ استخدام الكاتب لأحداث وشخوص وأماكن ترتبط بحياته الشخصية؛ بقصد تأليف روايته الأولى يمثل ظاهرة لا يمكن أن تغيب عن أي قارئ جادّ. فالكاتب ينطلق في نصوصه الأولى من كل ما يتصل بحياته، مركّزاً فيها على تاريخه الشخصي، وسبب ذلك، ربما، ثقلُ الذاكرة على مخيّلة الكاتب.

إن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها النص السيري تنهض على تجسيد حياة شاب فلسطين طرد قسراً من وطنه، وعانى الغربة والتشرد واللجوء في أرض المنافي والشتات، غير أنه كوّن نفسه بنفسه، معتمداً في ذلك على عزيمة ماضية، وإرادة صلبة، وثقة راسخة بقدراته؛ الأمر الذي جعله يتغلب على ما لاقاه من متاعب وما صادفه من عقبات، فصمد أمام العاصفة، ولم ينحن أمام رياحها الهوج، وعاد إلى أرض الوطن ليمد جذوره فيها من جديد، ويواصل المسير.

استعان الكاتب بعناصر الفن الروائيّ في تصوير الوقائع والأحداث التي ذكرها في روايته، مع ما يضيفه من عنصر الخيال الضروريّ ؛ لتكوين أو استكمال النسيج الفني للرواية بالعناصر المطلوبة، وكذلك شهد النص تطابقًا فكريًا حول قضايا عديدة بين السارد والمؤلف ومنها: رحلة التغريب والنفي والتشرد والمعاناة التي يلقاها الفلسطيني النازح والمشرد خارج وطنه.
تمكن الكاتب من خلال هذا العمل الروائي الأول له من أن يقدم تجربة روائية ذاتية خاصة، تجلى فيها الصدق الفني، مع رهافة الموضوع، وهذا أمر طبعي؛ ذلك أن التحام الكاتب بالقضية الفلسطينية، وهموم أبناء أمته، إنما يجيء عبر عالمه الخاص، فمن خلال الخاص يتكشف العام، مع توافر عنصري الصدق والانتماء من ناحية، والوعي الموضوعي والفني من ناحية أخرى منذ الفصل الأول يتولى الراوي مهمة الحكي، ليمتد ذلك على كامل الرواية، غير أنه تتخلل هذا السرد حوارات مطولة بين الشخصيات.

رصدت الرواية بدقة رحلة الإنسان الفلسطيني الأوديسة، رحلة الغربة والنفي والترحيل القسري عن أرض الوطن إلى بلاد المنافي والشتات، فالرواية تبدأ أحداثها بكشف الجرائم التي اقترفها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني عند احتلاله لقطاع غزة: مخيماته وقراه ومدنه سنة 1967م، من تدمير وقتل وأسر، والتي أقدم لإي أثنائها على جريمة الترحيل الجماعي لشباب القطاع، وإبعادهم قسراً عن أرض الوطن عبر قناة السويس إلى مصر، حيث انضموا إلى قوافل النازحين اللاجئين المشردين في ظروف قاسية غير إنسانية. يقول السارد في تجسيد إحدى مشاهد ترحيل الشباب القسري عن أرض بلدته "بيت حانون:" ... أمرهم الجنود بأن يرفعوا أيديهم، وأن يصطفوا في طابور واحد طويل، ثم بدأوا سيرهم متجهين شرقاً إلى جرن البلدة، ثم أمروا بالصعود إلى عدد من الناقلات العسكرية، فصعدوا جميعاً ... كان القلق بادياً على الوجوه، وكان الوجوم سيد الموقف، فلا أحد يعرف ما هي الوجهة؟ وما هو المصير؟ هل في مقبرة جماعية في صحراء النقب ؟ أم فرادى في هذا الصعيد الواسع من الأرض..".

تم يأخذ الكاتب في رسم ما لاقاه في رحلته من معاناة قاسية، وما تعرض له من آلام ومتاعب، وعلى الرغم من حجم المعاناة وعمق المأساة، فإن تلك الظروف لم تحل دون تحقيق ما يطمح إلى بلوغه من آمال وطموحات، فحصل على درجة علمية من الجامعة، وحصل على عمل يليق بمؤهله العلمي، وتمكن من بناء أسرة جديدة، فكان بذلك نموذجاً صادقاً، ورمزاً مجسداً مثابراً لسائر الشباب الفلسطيني المكافح في بلاد الغربة والشتات.
ويعمد الكاتب إلى استثمار إمكاناته التصويرية إلى رسم مشاهد ولوحات لبلدته التي أبعد عنها قسراً: أماكنها ووديانها وتلالها وحيواناتها ونباتاتها.إنه يمتح تلك النمشاهد من مخزون ذاكرته ، موظفاً في ذلك تقنية الاسترجاع المختلطة بتقنية التذكر، يقل في إحدى تلك اللوحات التصويؤية:" ...يقلب الماضي، ومغامراته الصبيانية مع أترابه ومع رعاة الأغنام، في مرابع الصبا وملاعب الشباب: وادي الدوح، ووادي النزازة والقطبانية،هذه الربوع التي كانت جنته على الأرض، وقد شاهد في إحدى المرات أثناء نزهة لهم عند الحدود سريلً من الغزلان، يقفزن ويمرحن في مشهد رومنسي رائع، وكأنهن حوريات يتهادين مع النسيم، بين التلال الواسعة داخل الأراضي المحتلة شرقي البلدة، ذلك المشهد الذي لم يبرح خياله أبداً، ولشدّ ما أثاره هذا المشهد الفريد الخلاب في نفسه من نشوة كبيرة، وما خلّفه في أعماقه من حسرة وألم في آن واحد".

استثمر الكاتب ما يمتلكه من طاقات إبداعية في تجسيد هذا المشهد من طبيعة فاتنة، ومناظر خلابة تمتعت بها بلدته الحدودية، ولم يكن يقصد في هذا التصوير نقل حقيقية هذه الصورة، وإنما أراد أن يجسد أثرها في نفسه، وما ترمز إليه من حالات نفسية مستكنّة في أعماقه، ودلالات غنية، إنه يصور حالة السعادة الغامرة والأمن والأمان التي كان يشعر بها أهل هذه القرية، وقد استغل دال "الغزلان" وما ترمز إليه من محمولات متعددة من حرية وانطلاق وجمال وحيوية، إلى أن ابتُليت قريته بالاعتداءات الصهيونية، واحتلال أجزاء غالية منها؛ لتكون مستعمرة للعصابات الصهيونية تجثم على أراضي المواطنين شرقي البلدة، وتجلب لهم الدمار والخراب، فتحولت أرض البلدة إلى أرض جرداء قفر، وغابت عنها نباتاتها الطرية اليانعة وهجرتها حيواناتها، وجفت عيونها النزازة، فحلّ الأسى والحزن والخراب في النفوس، إن هذه المفارقة التصورية التي عمد إلى بنائها في لوحته بين حالتين متضادتين، قد عمقت بلا شك من من رؤية الكاتب إلى الواقع المعيش، وأضفت عليها مسحة إنسانية راقية.

ولم تخلُ النصوص الروائية من التجارب العاطفيّة التي تعدّ من أهم عوامل خلق السيرة ونجاحها، فعرض لنا حبّه لسارة، التي كانت الشخصيّة الأكثر تأثيرًا في نفسه، والأبعد أثرًا في تلوين مواقفه. يقول في حوار داخلي معبراً عن تجاربه العاطفية في عهد المراهقة والشباب:" يا إلهي.. صاح في داخله: وماذا حل بسارّة وأهلها، ساحرته الصغيرة ذات الستة عشر ربيعاً، والعينيين المشرقة البريئة، التي لم يشغله سواها..."، ويقول في مكان آخر مجسداً شوقه إليها بعد أن حال العدوان الصهيوني دون لقاء الحبيبيْن، فالاحتلال قضي على كل ما هو إنساني نقي، سحق كل المشاعر والعواطف الإنسانية التي تربط بين المحبين؛ ذلك أن المحبوبة لم تتمكن هي ولا أهلها من العودة إلى القرية، فظلوا مشردين في قرية أخرى مجاورة بعد أن دمر الاحتلال بيتهم:"... إلا أن ما كان يشغله بالفعل هو رؤيته فاتنته سارة ولو بنظره خاطفة تطفئ ما يعتمل بداخله...".

إن الاغتراب في بلاد المنافي والشتات قد أشعل في أعماق شخصية الراوي مشاعر الحنين إلى الوطن، وزاد من شوقه إليه، إن صورة الوطن لم تغب عن ناظريه ولم تفارقه، فالمعاناة والغربة لم تنسه الأهل والأحباب، وإنما ظلت صورة الوطن معلقة كتميمة مقدسة محفورة في أعماقه، إن رؤية القمر الساحر المعلق في كبد السماء تثير في نفسه لواعج الشوق والحنين إلى الوطن والأهل، إنها وسيلته الوحيدة للاتحاد والاندغام بعناصر الطبيعة، فالقمر هو الذي يوحّد بين البطل والأحبة على صعيد المحبة والود والوئام، فإذا به يناجي القمر ويطلب من أن يضيء دروب وطنه كما أضاء دروبه في الغربة، يقول مناجياً نفسه في حوار داخلي دافئ، ولغة تصويرية شفيفة تنم على مشاعر إنسانية رقيقة، وصيغة استفهامية متكررة"هل" تفجّر في النفس أحاسيس الشوق واللهفة والحنين:"ترى هل يُطلّ هذا القمر ذاته على الأهل والأحبة في ربوع الوطن خلف آلاف الكيلومترات التي قطعها مبتعداً عنهم؟ وهل ينظرون إلى هذا القمر وينظر إليهم كما يفعل هو الآن، حتى كاد أن يخاطب ذلك القمر البعيد..يبثه شجونه ونجواه..ويسأله الخبر..".

وإن كانت الرواية قدّمت أحداثاً عاشتها الشخصية الرئيسية التي تنقلت في غير ما بلد ومدينة ما بين غزة ومصر وليبيا وسوريا وتونس وقبرص في منتصف السبعينيات والثمانينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، فقد واكبت من جهة أخرى التحولات التي عرفها الواقع الموضوعي على الصعيد العربي والعالمي. يقول الكاتب في حوار داخلي بعد أن مرّ في طريقه للعمل بالصحراء الليبية حيث شاهد آثار معركة العلمين، يقول:" .. سبحان الله بلادنا العربية من مشرقها إلى مغربها كانت وما زالت ساحة للصراعات والمعارك بين القوي العالمية في حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ونحن نتحمل وزرها عاجزين، لا حول لنا ولا قوة". وبهذا السرد المتدفق يخرج الكاتب من نطاق تجربته الشخصية؛ ليسجل للقارئ رؤية الإنسان العربي للمواقف والآراء القومية الوطنية التي تتعدى بدورها هذا الحيز الضيق، لتحلق في آفاق الإنسانية بعامة.

هذه قراءة نقدية سريعة لهذه الرواية، سعى أن تدفع القارئ إلى مطالعتها والتمتع بأسلوبها الروائي الرائع، والاطلاع على تجربة إنسانية غنية بالمواقف والرؤى. ولعلها تفتح طريقاً أمام الدارسين للتعرف على مكوناتها الروائية وإمكاناتها الفنية الغنية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى