الاثنين ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
رُؤى ثقافيّة «23»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

ما بعد الحداثة!

تزدهر في أيّام الناس هذه حركة (ما بعد الحداثة)، التي لم تعد تؤمن بالقطيعة مع التراث، بل تستلهمه. ولقد نشأت أجيال، في ضروب الفنون والآداب، أشدّ وعيًا بالذات وبالآخر، وأوسع معرفةً بالتراث وبالحاضر والمستقبل. تعبِّر عن هويَّتها دون أن تغرق في الغبار، وعن عصرها، دون أن تمَّسِخ ذَوَبانًا فيه. لقد انتهت على يديها العُقـَــد العتيقة للأصالة والمعاصرة، والصراع الموروث للقدامة والحداثة، والتأزُّم (الجِينيّ) بين النحن والآخر. فظهرت فلسفةٌ جديدةٌ في توليف الأبعاد، التي كانت تبدو لجيلٍ سَلَف متنافرة، لا يقوم أحدها إلَّا على رفات الآخر. ومنذ عِقد من السنوات تقريبًا أخذ هذا التيار يتصاعد في العالم العربي، في الشِّعر، كما في الفنون التشكيليَّة، وفي سواهما. وهو ما كنتُ أسميته منذ عِقد من السنوات تيَّار «الحداثة الأصيلة». ذلك أن مصطلح «ما بعد الحداثة» يبدو مضلِّلًا، بدَوره، فإنما هي، في الواقع، «حداثة أخرى»، لا «ما بعدها». لكي نتجنَّب تلك المصادرات القطائعيَّة، بمصطلحاتها، التي كانت أحد المآخذ على الحداثة. بل لعل مصطلح «ما بعد الحداثة» نفسه ما هو إلَّا من نتاجات تلك المرحلة نفسها، المهووسة بالنفي، والإلغاء، والتصنيفات، و«الما بعديَّات». هذه (الحداثة الأصيلة) اليوم هي محصِّلة التجربة والفشل، والبحث الدؤوب عن أهدى سبيل إلى (الجميل الأثيل)، المخصِب، الباني، الذي ظلّ هاجس كلّ نزوعٍ إبداعيٍّ حقيقيّ، في كلّ زمانٍ ومكان.

إن من غير الحقّ القول إن ما يكتبه أحمد الملّا- على سبيل الشاهد- من نصوصٍ، تُراود في بعضها (النثريلةَ) إيقاعيًّا، كما في نصِّه «وقصصت رؤياك»، (جريدة «الحياة»، الثلاثاء 17 يناير 2012)، ليس بنثرٍ أدبي جميل:

... خذ يدي بعصاك
ناولني طرفَ ثوبك
اِرم حبلكَ لأصعد
ضاقتْ بيَ البئرُ (...)
فجرِّد الروحَ حرفًا حرفًا
وانحتْ كلّ ناتئ
حتى تسمعَ سحجة العظمِ
وتسري الرعدةُ في الثياب...

غير أنه من الظلم له، في الوقت عينه، تصنيفه في خانة الشِّعر، فقط لما فيه من سمات الشِّعريَّة، والخيال، والكيمياء اللغويَّة. مثلما أن مِن التأطير (التقميئيّ) لكاتبه كذلك ترسيمه شاعرًا. ليست المسألة هاهنا مسألةً تراتبيةً في القيمة الفنيَّة: أعلى سلَّمها الشِّعر، وأسفل سافليها النثر. كلّا، تلك محض سذاجة عاطفيَّة، تستفحل عربيًّا بصفة خاصَّة، وبصفة خاصّة لهالة الشاعريَّة في المخيال العربي، وآن لها أن تنقشع. وإنما ينبغي الفهم الأعمق: أن ميدان النثر فضاءٌ جماليّ لا نهائي، من الغباء النوعيّ حشره في قمقم الشِّعر، كلما لاح بارقٌ شاعريٌّ في الغمام اللغوي. الفهم الأعمق الذاهب إلى أن ما يُسمَّى (قصيدة النثر) هو جنسٌ نثريٌّ أرقَى، مستقلُّ الهويّة، ليس بشِعرٍ، ولا بنوعٍ من الشِّعر. وأن كلمة «النثر»، المضافة إليها كلمة «قصيدة» في هذا المصطلح، هي الفيصل بين «الشِّعر» و«النثر». أمَّا أن يودّ الوادُّون اليوم إسقاط كلمة «النثر» كي يُماهوا بين «قصيدة النثر» و«قصيدة الشِّعر»، فلا تثريب عليهم؛ فـ«إن النثار بأرضنا يستشعر»! لا على تشبيه «النثر» بالبُغاث، و«الشِّعر» بالنسور، بل على تشبيه أصحاب تلك الدعوى الفارغة بالبُغاث، في جهلهم، أو في مغالطتهم، واستخفافهم بالمفاهيميَّة النوعيَّة للجنس الأدبي.

إن قصيدة النثر لا تُفهم- كما ينبغي لها أن تُفهم- إلّا على أساس تلاقح الأجناس الأدبيّة لإنتاج أجناس جديد، لا تلاقحها لإنتاج الأجناس نفسها، أو بالأصح الإصرار على أنها هي هي؛ فيُحشر المولود الجديد ضمن هويَّة الجنس القديم، مع تسميته باسم أحد آبائه أو أمهاته، وإن طار بعيدًا عنهما! أجل، لقد أخذنا اليوم نشهد مراجعةً عربيَّة أكثر نضجًا من ذاك الفكر الستِّيني، الراكض وراء الشعارات الجوفاء في كل الأنحاء، مراجعةً حتى من بعض أرباب «مجلَّة شِعر»، أو قل: (كِتاب الحداثة المقدَّس). فمنذ تسعينيَّات القرن الفارط اشتقّ الكُتّاب أساليبهم الأكثر نضجًا، لغةً ووعيًا، متساوقين مع تيَّار ما بعد الحداثة، المستلهم للتراث، العائد عن القطعيَّات التي كانت تَسِم الخطاب الحداثيّ العتيق. فعاد بعض شعراء قصيدة التفعيلة، عن قناعةٍ، إلى القصيدة العربيَّة البيتيَّة. واتَّجه آخرون وجهتهم النثريَّة السليمة، إلى فنون كتابيَّة أخرى، كالقِصَّة القصيرة، والقِصَّة القصيرة جدًّا، أو الرواية؛ فأبدعوا وتَجَلَّوا، متخلَّصين من ديانة «مجلَّة شِعر» الأرثوذكسيَّة، التي أرادت أن تجعل الشِّعر نهاية الكتابة الإبداعيَّة في العالم، وأن تُشعرن كلّ شيء، وتسمِّي كلَّ نصٍّ شاعري شِعرًا، مهما بدت الشِّعريَّة فيه باهتة معاقة. أمّا بعض فلول هؤلاء، فما زالوا في سكرتهم يعمهون! ويبدو أنهم سيظلون في ضلالهم القديم هذا، يناضلون إلى ما شاء الله، متغنِّين بتنظيرات من القرن الماضي، يحتفلون، ويأتمرون، ويغضبون، ويتشنَّجون، ويشنُّون الحملات على ناقديهم. وهم، في الحقيقة، لم يُحرموا الموهبة بالكليَّة، لكنهم حُرِموا البصيرة، وحُرِموا الشجاعة على مواجهة الذات ونقدها، والتخلُّص من عُقدة (الشِّعر-نثر)، وهالة الشِّعر والشعراء الطاغية؛ للاعتراف بأن النثر قد يكون أعظم من الشِّعر، وأنهم بإصراراتهم تلك على الاستشعار، يرتكبون حماسات غير منهجيَّة بحقِّ أنفسهم، حينما يتقيَّدون بأنهم شعراء، وأن ما يكتبونه شِعرٌ، رُفعت الأقلامُ وجفَّت العقول.

نعم، «ليس في الشِّعر ما هو نهائيّ»، كما يقول لنا (أُنسي الحاج، (1960)، لن، (دار مجلَّة شِعر)، ص19)، ولكن ذلك يجب أن يكون «في الشِّعر» نفسه، وفق نظامه ونواميسه. أمَّا أن ينتهي الشِّعر إلى النثر، فنقول: إذن «ليس في الشِّعر ما هو نهائيّ»! فذلك كمن يُحدث أمامنا قَرْعًا ونَقْرًا وخبطًا، بطرائق عشوائيَّة غريبة، ثم حين نسائله: ما هذا؟! يقول: «هذه سيمفونيَّة جديدة»! وحين يقال له: لكن هذه الضوضاء لا علاقة لها بفنِّ الموسيقى أصلًا، بل هي نقيضة الموسيقى أساسًا! يقول: «يا عمِّي، ليس في الموسيقى ما هو نهائي!»
ثم كيف يصحّ القول: ما دام صنيع الشاعر خاضعًا أبدًا لتجربته الداخليَّة، فمن المستحيل الاعتقاد في الشروط والقوانين والأُسس، خالدة أو غير خالدة؟! ذلك أن تجربة الشاعر الداخليَّة، إنْ كان لا ينوي إخراجها إلى العالم، على سبيل التواصل الفنّي والثقافيّ، فهو حُرٌّ. أمَّا وقد أراد أن تتحوَّل إلى تجربة خارجيَّة تواصليَّة، فهنا سيقال له: قِف! عليك أن تحترم أُسُسًا وشروطًا وأعرافًا ونُظُمًا مرعيَّة وحتميَّة. إنَّ الإنسان كائن لغويّ بطبعه، وهو كائن اجتماعيّ أيضًا، وكائن ثقافيّ، ولكلّ تلك الانتماءات أُسسها واشتراطاتها وقوانينها. وهي أُسس واشتراطات وقوانين متواطأ عليها بين أهل اللغة، وبين ذوي الانتماء إلى المجتمع والثقافة، فإمّا أن يتواصل المرء من خلالها، وإلَّا فليغرّد وحده، ولنفسه وحدها، ولتبق تجربته الداخليَّة «المقدَّسة» رهينة داخله، قابعةً في سردابها الذاتيّ! لا مفرَّ للإنسان، ومنذ يعي الحياة، أن يُدرك أنه، لكي يكون إنسانًا سويًّا اجتماعيًّا، لا بُدَّ له أن يخضع لشبكةٍ من الأنظمة والقوانين، شاءها أم أباها، وإلَّا بقيت تجربته، كما أشرنا، ذاتيَّة. وهو، إنْ طمح إلى تجديد الخطاب، وإلى تغيير آليات الشبكة التواصليَّة، وَجَبَ عليه أن يطوِّرها هي، وبما يناسبها هي، وبما يوائم طبيعتها النوعيَّة ووظيفتها البلاغيَّة، لا أنْ يقفز عليها إلى غيرها، ثم يتبجَّح بأنه قد جاء بما لم يستطعه الأوائل! وإلَّا، فما أهون التجديد! لأجل هذا، فإن ما يزعمه الحاج هو تهويمٌ في المستحيل، وهرطقة لفظويَّة، لا تستقيم على منطق عقل، ولا سويَّة فنٍّ، ولا أرضيَّة واقع، ولا رؤية ثقافة. ثم هب- جَدَلًا- أنه يؤمن بأن «من المستحيل الاعتقاد أن شروطًا [ما] وقوانين [ما]، أو حتى أُسسًا شكليَّة [ما] خالدة»، فما باله يخضع هو لشروط اللغة العربيَّة الخالدة، إذن، برسمها، ونحوها، وصرفها، وقواعد إعرابها، بقوانينها الصارمة في ذلك كلِّه؟! وهي قوانين أشدّ وطأةً وأكبر عبئًا من موسيقى الشِّعر. إنه ينفي شيئًا، ويخضع لأضعاف أضعافه في الوقت نفسه؛ من حيث كان قد أخذ على نفسه أن يقول بما لا يستطيعه هو، وهو يكتب هذا البيان، أو وهو يكتب نصوصه الأدبيَّة؛ لأنه في ذلك جميعًا خاضع، لا محالة، لما لا حصر له من الشروط والقوانين والأُسس، شكليَّة وغير شكليَّة. فأين ذهبت هناك الاستحالة؟ وأين غدا منه التمرُّد؟! إنما الاستحالة ما يقوله هو: من رفض الشروط والقوانين والأُسس؛ بدليل أنه مغموسٌ فيها غمسًا، ولا يستطيع التعبير- حتى نثرًا- عن رؤاه إلَّا من خلال ما نفاه من قواعد! وبذا يتبيَّن أنَّ معضلة المعضلات- المحرِّضة على إصدار مثل ذاك البيان «الهيلمانيّ»- وأنَّ (أُمّ المعارك الفاصلة) في ربيع الشِّعر العربي في القرن العشرين، إنما كانت تدور رحاها حول التخلُّص من: العَروض، (الصعب سلَّمُه)، بل من موسيقى الشِّعر العربي، جملةً وتفصيلًا، كي يتسنَّى بعدئذٍ لمن شاء إلباس النثر عباءة الشِّعر، أن يفعل، وبكلِّ أريحيَّة.

فيا لقرب السماء هذه.. ويا لمُنـتــفــــَى الطموح!-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: "ما بعد الحداثة!"، المصدر: صحيفة "الراي" الكويتية، العدد 12135، الجمعة 21 سبتمبر 2012م، ص23]


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى