الاثنين ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
رُؤى ثقافيّة «24»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

قصيدة النثر: مآزق وتحدِّيات!

الكلمات التي يُراد بها التنصُّل في الشِّعر الحديث من شرطٍ شِعريٍّ واحدٍ مؤرِّق، ألا وهو شرط العَروض- الصعب سُلَّمه- ومن الموسيقى الشِّعريَّة الشائكة القوانين، يكشف جملة مغالطات تنظيريَّة. أولاها، أن الزعم بأن «ليس في الشِّعر ما هو نهائي...، فمن المستحيل الاعتقاد أن شروطًا ما وقوانين ما، أو حتى أُسسًا شكليَّة ما، هي شروط وقوانين وأُسس خالدة»- في الوقت الذي ينصبُّ التمرُّد في الشِّعر على الموسيقى الشِّعريَّة- ينطوي على القول: إن ما عدا الموسيقى الشِّعريَّة، كقواعد النحو والصرف والأسلوب البلاغي، مقدورٌ عليه إلى حدودٍ ما في التجربة الحديثة، ومن هناك سيظلّ غير مستحيلٍ الاعتقاد في أنه شرطٌ وقانونٌ وأُسٌّ خالد! ويتبدَّى من خلال هذا أمران جوهريَّان، هما: عقليَّة رافضة للنظام، وعقليَّة عاجزة عن التجديد. الأُولى لا تَصْدُر إلَّا عن مبدأ تدميريّ، أو عن نزعةٍ بدائيّةٍ فوضويَّةٍ. لأن العقل البدائيّ غير نظاميّ بطبيعته، وإنْ كان راضخًا بالضرورة لنظام. من حيث إن الإفلات المطلق من نظامٍ أمرٌ مستحيل. وأمَّا المبدأ التدميريّ فصاحبه متكلِّف، يصطنع الفوضى، لكنه عدميّ المشروع، لا يُنتج إلَّا الأنقاض. وإذا كان رفض النظام دعوَى عبثيَّة؛ لأن الرافض خاضع- رغم رفضه- لنظام؛ فلا شيء في الوجود بلا نظام، فلم يبق به من داء هنا إلَّا داء العجز المبين عن التجديد. ذلك أننا حينما نسلِّم بأنه «من المستحيل الاعتقاد أن شروطًا ما وقوانين ما، أو حتى أُسسًا شكليَّة ما، هي شروط وقوانين وأُسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال»، فذلك يقتضي تلقائيًّا- وبحُكم هذا النصِّ- أن هناك شروطًا ما وقوانين ما، أو حتى أُسسًا شكليَّة ما، هي شروط وقوانين وأُسس متغيِّرة وغير خالدة. فأين هي في قصيدة النثر؟ وما البدائل التي أبدعها هؤلاء لتجديد مكوِّنات الشِّعر العربيّ أو غير العربيّ؟ لا شيء، سِوى التنظير والتهويم.
إنه لمن السهل جدًّا أن نتخلَّى عن الشِّعر حينما لا نستطيع شروطه، ثم نكتب نثرًا ونُلصق عليه شعار «قصائد».. فهل ذلك هو التجديد؟! نعم ليست هناك شروط ولا قوانين ولا حتى أُسس شكليَّة، هي شروط وقوانين وأُسس خالدة، ولكن السؤال: أين البدائل غير الخالدة التي أبدعها هؤلاء على مدى نصف قرن أو أكثر؟

ومن هنا فمن الواضح أن مآزق قصيدة النثر ليست تطبيقيَّة فحسب، بل هي نظريَّة قبل ذلك. فسيبقى المنطلَق البدهيُّ أن تطوير نظامٍ فنِّيٍّ لا يكون باجتثاثه من جذوره، ولكن بتجديده وتطويره، أو حتى باستبداله، ولكن بنظامٍ آخر من جنسه، يؤدِّي وظائفه، ضِمن طبيعة ذلك النوع الأدبيّ نفسه، لا بـ(لا نظام)، أو بـ(نظام نقيض)، كما يفعل هؤلاء، من عبيد الشِّعر للشِّعر (نظريًّا)، مفارقيه على محكِّ (التطبيق).

وهم- إلى ما سبق- يقعون كذلك في أنماط شتَّى من المغالطات التنظيريَّة في دفاعهم عن مشروعهم. منها:

ما يردِّدونه من الاحتجاج بالجماليّ على النوعيّ. أي أنهم يحتجُّون بجماليَّة نصٍّ ما وشاعريَّته لإقحامه في نوع الشِّعر، صاخبين: «ها هو ذا.. الله ما أجمله، وأبدعه، وأعمق رمزيَّاته ودلالاته!» ونقول لهم: «أجل، قد يكون جميلاً حقًّا، لكنه ليس بشِعر، في النهاية!». أليس بجميلٍ وشاعريٍّ في الأدب سوى الشِّعر؟!

احتماؤهم بالقول: الإبداع يعني الابتداع على غير مثالٍ سابق، لا الاحتذاء. وذلك صحيح كذلك. لكن أين الابتداع في ما يصنعون؟ إن الابتداع لا يعني الخروج عن النوع، ولكنه يعني تفجير طاقاته الكامنة فيه، واكتشاف جُزره المجهولة، وإحداث استجابة جديدة نسبيَّة لدى المتلقِّي. هنا الابتداع، وهنا الصعوبة التي على حدِّها الحدّ بين جدّ الفنّ وعبث العابثين. أما ترك النوع بالكليَّة والانتقال إلى نوعٍ آخر، ففعلٌ كسول، وسلوكٌ ادِّعائيّ. هذا فضلًا عن المعرفة بأنه محض تقليدٍ بدوره لكتاباتٍ في لغات أخرى، وحداثات مغايرة، في سياقات مغايرة. فهو، إذن، انتقالٌ كسولٌ من نوعٍ إلى نوعٍ. وانتقالٌ كسولٌ- ولا مسؤول- من ثقافةٍ إلى ثقافةٍ. وليس اكتشافًا، ولا ابتداعًا يحفر في النوع ذاته، والثقافة ذاتها، ويستنبط من أعماق تربتها الكنوز، ومن بحورها اللآلئ. ولا أدلّ على هذا الفرار من الابتداع والاكتشاف من أن يكون معظم هؤلاء منصرفين- أو بالأصح مصروفين- عن التراث منذ البدء، وعن رصيد التجربة العربيَّة منذ النشأة. فما الذي سيكتشفه أمثال هؤلاء؟ وما الذي سيبتدعون؟ وما الذي سيضيفون؟ وهم غرباء، بطبيعة الحال، على هذا المجال، معرفيًّا وفنِّيًّا؟! إن التجديد يعني، بالبداهة، معرفة القديم معرفةً عميقةً وشاملةً، تبعث على افتراع أسلوبٍ جديد. ولأجل هذا، فلا جواب عن سؤالنا لهؤلاء، مثلًا: ما دامت موسيقيَّة القصيدة العربيَّة عتيقةً ومستهلكةً، فلماذا لا تشمل دعاوَى التجديد لديكم: الموسيقى الشِّعريَّة نفسها، لتخرجوا على الناس بموسيقى شِعريَّة عذراء، لم يطمثها قبلكم إنسٌ ولا جان؟ لا إجابة هنا؛ بما أن هذا هو أصل المعوِّقات، وهو أُسُّ الداء، بل هو أصل القول بقصيدة النثر في السياق العربيّ، متمثِّلًا ثالوثُه في: الجهل بهذا العِلم العربيّ، نظريًّا، والعجز عن مجاراة الشِّعر العربيّ القائم عليه، تطبيقيًّا، مع الهوس بلقب الشاعر، ثقافيًّا. وهناك على هذا الخواء شهاداتٌ واعترافاتٌ علنيَّة، لا تدع سِرًّا في أنه لم يُوَجِّه أكثر الملهَمين بما يسمّى قصيدة النثر إلى مأواها الأخير إلَّا إخفاقاتهم في أن يكتبوا قصيدة عربية حيَّة مقبولة، وزنًا، أو حتى على التفعيلة. لتُختبر المهارات اللغويَّة الأوَّليَّة، فإن صحَّت واستجابت القرائحُ لنصٍّ من شِعرنا العربيّ، تذوُّقًا ومعارضة، أمكن التسليم بمشروع المجدِّد ما دام يمتلك الأدوات الأوَّليَّة، والعناصر اللازمة التي تُحِقّ انتماءه إلى حقل الشِّعر، أمّا وهو خُلْو الوفاض من تلك المكوِّنات، فسيظلّ محض دَعِيّ، طال الزمان أو قصر؛ فليلعب بعيدًا عن فنٍّ عُمره ألفا عام أو أكثر، نَفَى أُلوفًا من الطفيليِّين على مرِّ التاريخ. ذلك لأن التجديد لا ينشأ إلَّا من داخل البنية التكوينيَّة، لا مجتلَبًا من خارجها، وإلَّا بات تجديفًا لا تجديدًا. والمعروف أن مجدِّدي الفنون قاطبةً لا يُعجزهم أن يُبدعوا وفق الأنماط التقليديَّة، بل هي أيسر عليهم، لكنهم يزهدون فيها، فيتمرَّدون عليها بعد أن يُتقنوها بهدف التطوير. أمَّا أن يكون الأمر بالعكس، أي أنْ يأتي مَن يُسمِّي نفسه مجدِّدًا وهو عاجز أصلًا عن الإتيان بمِثل الأنماط التقليديَّة ومحاكاة قوالبها، أو حتى فهم ما يقال فيها، بل ربما ظَهَر عَيِيًّا عن معرفة اللغة العربيَّة والأساليب التعبيريَّة، فذلك برهان مسكنته، وإنْ ادَّعَى أنه وُلِد هكذا: بشهادة «حداثيّ مجدّد»! المفارقة هنا أن السؤال أصبح يُطرح أحيانًا مقلوبًا، إذ يُقال: هل يستطيع الشاعر الفلانيّ كتابة قصيدة نثر؟ وكأن قصيدة النثر باتت التحدِّي المؤرّق للشاعر! فيما السؤال الواجب طرحه: هل يستطيع كاتب قصيدة النثر أن يكتب قصيدة شِعر عربيَّة، ما دام يرى نفسه شاعرًا؟ هنا التحدّي الحقيقيّ لمن يتسمَّى باسم شاعر، ناهيك عن اسم مجدِّد. أمّا قصيدة النثر، فلا تشكِّل تحدِّيًا يُذكر للشاعر، على صعيد شِعريَّتها. ربما شكَّلت تحدِّيَها على صعيد النثر، لكن ذلك ميدان آخر. غير أن ما تشهده الساحة الأدبيَّة والنقديَّة اليوم لا يخلو من قلبٍ للأوراق، وتزويرٍ للتاريخ، وتزييفٍ للحقائق، وتذويبٍ للمفاهيم، وخلطٍ للشاعر بالناثر، في واقعٍ أدبيٍّ معتلٍّ، يأبى العلاج، ويستنكف منه.

وهكذا اندثر النثر، بدعوى الشِّعر. اندثرت المنفلوطيَّات، والمازنيّات، وأسلوب طه. لم يعد للنثر احترام، ولم يعد له في النفوس مقام، في عصر (قصيدة النثر). فما هو إلَّا أن يأنس الكاتب في قلمه شِعريَّة الأسلوب، حتى يركب موجة الاستشعار، ويدخل في حركة ابتزاز النوع والمصطلح. إنها حركة تخلُّف، لا حركة تطوُّر. حركة ارتجاع بدائيَّة إلى تقديس الشِّعر، ولكن على نحو يجمع إلى عبوديَّة الشِّعر وازدراء النثر، إهدارَ دماء هذين الجنسين معًا. وهو ما لم يحدث في تاريخ الأدب قط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى