الاثنين ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم نبيلة عيلان

و يأتي الحظّ المشؤوم.. بعد طول انتظار

ساعات قلائل و بعد صلاة الفجر.. تمدّ يدها عبر النافذة.. لتقطف من نسمة الصباح بذرة الحياة، و تغرسها مع من مال إليها قلبها في حديقة نادرة.. هناك على التلّة العالية قرب الجبل..حيث تسكن شجرة عالية دائمة الاخضرار.. تطلّ عليها كلّما آلت إليها الأحزان.. و أبكتها الأقدار.. لتسترجع ذكريات الماضي التي لا تغيب أبدا عن مخيّلتها.

تقضي وقتها أحيانا من الفجر حتى الأصيل..في أحضان حديقتها الصغيرة.. المستغرقة في سبات عميق.. تسقيها من مآقيها النّاعمة..و تمنحها قطرة من حبّها الدافئ حتى تنمو البذرة و تكبر.. و تكون بمقدار أملها في العيش في انتظار معانقة عيونها لعيون حبيبها.

يوم يمرّ و آخر يأتي، تنتش البذرة لتصبح وردة حمراء.. نمت و كبرت بين أحضان، تلك الطفلة البريئة الرّقيقة، ذلك الوجه المفعم بالحب.. تلك البراءة الناطقة بدون لسان. رغم معاناتها من جراء المرض، الذي غرس سمّه في جسدها النحيل.. ما يزال الأمل مغروسا في كيان شهرزاد.. أمل في عودة الحبيب الضائع في دهاليز الصحاري.

تنظر شهرزاد.. إلى أبعد نقطة من الأرض، بعيونها العسليتين..إلى الجبال العالية الصامتة.. إلى الشجرة الخضراء.. إلى الذين يمرون أمامها.. و ينظرون إليها بنظرة رثاء نظراتهم قاتلة.. يرشقونها بسهامهم دون أن ينطقوا بأية كلمة. بين كل هذا يسمع صوت قوي يخرج من أعماق قلب شهرزاد.. حاولت كثيرا كتمه و السيطرة على مشاعرها و أحاسيسها.. إلاّ أنها لا تقوى على التحمّل أكثر من عمر.. فليس لديها عمرا آخر تصبره.. الساعة قريبة و الأمل بات ضئيلا.

بصوت عال تصرخ شهرزاد و تنادي من تركها تتخبّط بين آهات قلبها..و تصارع الموت الذي بات يهدّد أملها.

سعيد.. الذي كان و لا يزال سبب وجودها.. و الشمس التي تنير طريقها.. لتناضل من أجل الاستمرار.. و تتحدى الأقدار و المرض.. إلى آخر نفس.

يخيّم الصمت فجأة على المكان شبه خال.. تنظر إلى القمة العالية من الجبل.. حيث غرست شهرزاد وردة الأمل. تشعر فجأة ببرد شديد، يداها ترتعشان..عيناها زادتا بريقا، ترتسم على شفتيها ابتسامة خفيفة خجلة..تتنهّد بعمق و تقول بصوت خافت و متقطع
"إنه هناك على القمة العالية.. سعيد عاد.. أخيرا عاد.."

تجري شهرزاد بسرعة..تجري..تجري، لكن دون جدوى.. شعرت فجأة بإرهاق شديد.. الداء تسلّل إلى كل شبر من جسدها..التلّة عالية..التعب يخنقها.. تحاول مواصلة السير..لكن قدميها لا تستطيعان الحراك.

"أف"

تقول شهرزاد ذلك بصوت ثقيل و مرهق.

"تعبت.. لكني أريد الوصول إلى القمة.. يجب أن أصل..يجب أن أصل.."

تقول شهرزاد ذلك محاولة مواصلة السير..لكنها و بعد زحفها بضع خطوات تقع أرضا..مغمضة عينيها، مستسلمة لذلك الصوت العذب..و الموسيقى الحزينة التي تصدرها الكمنجة في التلّة العالية.

تفتح شهرزاد عينيها فجأة.. و تصرخ بأعلى صوتها، منادية حبيبها العائد أخيرا من المجهول
_سعييييييييييييييييييييييييييد

صدى صوتها يصل إلى الجبل.. اخترق آذان حبيبها الذي شعر بها و كأنها موجة صاخبة.. يتوقف سعيد عن العزف.. ينظر إلى الخلف حيث توجد الوردة الحمراء و يقول مستغربا..
_ذبلت الوردة.. لكن لما أهملتها شهرزاد ؟ لما تركتها وحيدة هكذا؟

احساس غريب بداخله بدأ يتحرّك..يمدّ سعيد يده و يأخذ الكمنجة من على الأرض..و يسير بخطوات مسرعة.. يلمح أسفل التلة شهرزاد مستلقية على الأرض.. يجري.. يجري..يقترب منها و هو يلهث.. يمدّ يده إليها و هو يرتعش.. يمسك بيدها، يجلس على ركبتيه.. يمدّدها إليه تنجرف من عينيها دمعة باردة.. تقع على ركبة سعيد.. الذي عاد و في قلبه أمل كبير.. لاسترجاع تلك الأيام التي لا تنسى قضاها مع حبيبته شهرزاد.. في أحضان هذا المكان الصامت عاد و هو على أمل أن يعيش مع شهرزاد حبّهما و يحقّقا أحلامهما الصغيرة في كنف الحب. حبّهما الذي بقي قويا و عظيما رغم مضي السنين.. لكن سعيد لم يكن يعلم أن هذا الحبّ كان سبب مرض شهرزاد.. و أن نفسه هذا الحب الذي جمعهما يوما في هذه المدينة الخالية.. من يفرقهما اليوم في نفس المكان.

ينظر سعيد إلى شهرزاد و عيناه مليئتان بالأمل و الخوف في نفس الوقت.. تتعانق عينيه مع عيني شهرزاد التي تبتسم و تقول

_الحمد لله..الحمد لله..لقد خفت أن ترحل روحي قبل أن تشبع عيناي من رأيتك.. الآن أشعر بالارتياح و السعادة..

تصمت شهرزاد قليلا ثم تضيف بصوت متعب و ثقيل..

سعيد..أودّ أن أسمع الأغنية التي غنيتها لي يوم لقائنا الأوّل.

هل تتذكر تلك الأغنية سعيد..هيا لنغنيها معا..

يقول سعيد و هو يحاول امساك نفسه عن البكاء..

لا تجهدي نفسك كثيرا حبيبتي..أنت متعبة..تعالي سأوصلك إلى المدينة.. نبحث عن طبيب..

تقول شهرزاد و هي تتنفس بصعوبة

لست متعبة على الاطلاق..ألم تعد تحبّني كما في السابق؟ لما عدت إذن؟ أخبرني لما عدت؟ لما هذا الصمت؟ لا تقتلني بصمتك ؟ لا تنظر إلي بنظراتك الحزينة ؟

أنت تعلمين الإجابات عن كل هذه الأسئلة فلا تتعبي نفسك.. لأني أحبك.. أحبك حتى.. يتوقف سعيد عن الكلام، و تقول شهرزاد

حتى ماذا..؟لماذا سكتت؟ تودّ القول حتى الموت؟ أنا كنت ميتة بعد رحيلك و اليوم أعدت إليّ الحياة.. لا تقلق..قضيت عمري بين الآهات و الأنين، أنتظر هذا اليوم.. و أنا اليوم سعيدة حتى و إن كان آخر يوم

لا تقولي ذلك..اصمتي..اصمتي

سأصمت..فقط ابتسم و غنّي..

يبتسم سعيد مع شهرزاد..و تنفجر عيونهما بالدّموع و يبدآن الغناء.. "أغنية القدر"
أنا طائر يهوى الحرّية.. يعشق السحاب و السماء.. من شجرة لشجرة أطير معاندا الأقدار.. غير مبال بالأخطار.. المهم أني سعيد......

ينقطع صوت شهرزاد فجأة.. ما تزال الابتسامة مرسومة على محياها. وجهها يشع وينير رغم صفارته و تراسيم التعب البادية عليه و كأنها وردة يافعة افتتحت من جديد.. يواصل سعيد الغناء و الدموع تنهمل من عينيه.. ثم يصرخ بصمت و ينظر إلى شهرزاد نظرة مطوّلة و يقول

تركتني اليوم كما تركتك بالأمس.. لكني وعدتك بالعودة..و أنت رحلت دون أن تتركي لي أي أمل في لقاء قريب أو بعيد

يضع سعيد قبلة فوق جبهة شهرزاد..ثم يحضنها إليه و ينظر إليها في صمت.. سارحا في عبارات وجهها.. تائها بين أحكام الأقدار و قرارات الزمن الذي لم تعطي له فرصة لاختيار طريقه.

ينهض سعيد من مكانه.. يحمل بين ذراعيه جسد شهرزاد.. و شعرها يتطاير بمداعبة الرياح له.

يسير سعيد بخطى مثقلة.. تائها بين الحقيقة و الخيال.. يجرّ خلفه حقائب الخيبة و الانكسار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى