الخميس ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحمن الوادي

عشق يمشي على عكازه

اهتز هاتفي محدثا طقطقة راقصة على سطح مكتبي، فتلقفته بسرعة قبل أن يتدحرج فيرتطم بالأرض. تفحصت الرقم المتصل، فإذا بالمكالمة صادرة من بيت أهلي. على التو فتحت الخط.

ـ مساء الخير أماه.. لقد كنت على وشك أن أتصل بك؛ لأطمئن إن كانت أمي حنة قد وصلت بالسلامة. لقد صممت ـ فور تناولها وجبة الفطور هذا الصباح ـ على مغادرتنا، رغم تحايلي عليها أنا وهند بكل الحيل؛ طمعا في أن تبقى معنا ليومين آخرين، أو ثلاثة لا غير. ولكنها رفضت حتى أن أوصلها بسيارتي، ومن ثم أراك أماه، بدعوى أنها تريد أن تسافر عبر القطار هذه المرة؛ لكونها تشعر بأنها لن تركبه أبدا. فقلت لها: كلا يا أمي حنة، سيطيل الله في عمرك أكثر، فتستقلينه مرات ومرات. أنا متيقن يا أماه أن ياسمين ستحزن كثيرا حين تعرف برحيلها، لدى عودتها من المدرسة. خاصة وأنها ذهبت دون أن تودعها. أماه ما بك؟ لماذا تنتحبين هكذا؟ هل حدث مكروه ما لأمي حنة في الطريق؟ أرجوك أجيبيني أماه!

ـ لا يا ولدي

ـ هل وصلت بالسلامة؟

ـ أجل.. ولكن إلى الرفيق الأعلى

ـ ماذا؟ ماتت أمي حنة! متى؟ وكيف؟

ـ لدى وصولها، طلبت مني أن أدعها تستريح في سريرها بعض الوقت مما أصابها من السفر ووعثائه، قبل أن تطلعني على كل أحوالكم خلال المدة التي قضتها معكم. لكن حين أردت إيقاظها، بعد استغراقها الطويل في سبات عميق، وجدتها قد فارقتنا إلى الأبد.

دون وعي مني بما أصنع، رميت الهاتف جانبا، وأجهشت بالبكاء، فارتمت علي زوجتي التي كانت متسمرة بمحاذاتي قبل هنيهة، وهي تبكي بصوت متهدج.

دفعت هند بقرص القرآن داخل جوف مسجل السيارة، فانطلق صوت المقريء بتجويد اقشعر له بدني، في غمرة الصمت الكئيب المخيم علينا. وعندما رفعت بصري إلى المرآة، رأيت عبرات مترقرقة في عيني ابنتي السائحتين إلى أبعد نقطة في الأفق. ما

لبثت أن فاضت من إحداهما، فسالت على خدها الأيمن الصغير، فزادت تورده احمرارا. سبحانك اللهم، يا لجلال قدرتك، جعلت الماء يصاحب النار في الدموع.

انتبهت إلى الطريق أمامي، ثم عاودت النظر في المرآة، فرأيت ياسمينتي ترمقني باستفهام شرس يتوشح مشنقته، ويتوجه نحوي حاجلا بكل قوته:

ـ هل حكاية ليلة البارحة كانت آخر الحكايات يا أبتي؟

هي تدرك الآن يقينا، بما لا يدع مجالا لأدنى شك ولا ريبة، أن أمها حنة؛ التي تعلقت بها أيما تعلق ـ منذ أن فتحت عينيها عليها ـ لن تحكي لها حكاية أخرى بعد اليوم. ولن تضع رأسها في حجرها كما فعلت بالأمس، غير آبهة بما استجد من حلقات سلسلتها المفضلة. فتظل يدها العظيمة تعبث بشعرها، وهي تقص عليها حكايتها. كما لو كانت تدسها بإحكام بين ثناياه في ذاكرتها، بصوتها الحنون المرتفع الشديد تارة، والمنخفض اللين تارة أخرى.

كانت لها طريقة لا تضاهى في سرد الوقائع، يزيدها التشويق جمالا وفرادة. تضطر حتى المستعجل من أمره إلى أن يقعد فاغرا فاه، مصيخا السمع إليها، غافلا تماما عما كان يحث الخطى إليه. طالما أحببتها أنا بدوري إبان طفولتي، عندما كنت أندس كالنمس بين مناكب إخوتي وأبناء عمي المتحلقين حولها. والطريف في الأمر أنها كانت توقف السرد في قمة الأحداث؛ حتى تمنحنا فرصة الذهاب إلى الحمام والعودة منه بسرعة، قبل أن تحدث الكارثة تحتنا؛ لأنها كانت تعلم أننا مقيدون بشريط محكم. لا قدرة لأحد منا على قطعه تحت أي طاريء. سكوت تام. كل الجوارح موجهة الآن صوبها، لقد انطلقت المتعة الجديدة.

"بعد الحمد والشكر لربنا المنان، والصلاة والسلام على نبينا العدنان، كان يا ما كان، كان في غابر العصر والزمان، كان يعيش في إحدى القبائل، المشهورة المنازل، بواحة غناء في أطراف البيداء، فارس مغوار، لا يشق له غبار. تخشاه السباع قبل الضباع. كان في كل معركة من المعارك، لا يتوانى لحظة في أن يعارك. وبعد الانتصار، وفرار جيش العدو، يجر ذيول العار، يحظى بنصيبه من السبايا والغنائم، قبل أن يجف سيفه البتار.

لكن حدث ذات يوم من أيام الحرب والقتال؛ يوم شديد النزال، عسير الأهوال. أتى على الزرع والضرع، وفرق بين الأصل والفرع. حدث أن سبا من بين ما سبا أميرة هيفاء؛ ذات حسن وبهاء. لها عينان تسحران، خلف أهداب كالنبال، وتحت حاجبين كالهلال. فارعة الطول، صمتها يقول أعذب الأقوال. منحوتة القد، ثغرها يظهر بالكاد بين الخد والخد. وكأنها حورية من الحور، خرجت من فورها من الجنة الفيحاء، تختال في هالة من نور. أناملها مخضبة دون أن تلمس الحناء. فوقع في حبها كما وقعت، بعد أن أمنت جانبه، وإليه سكنت، حين وعدها بأن يحرر رقبتها. ويعيدها إلى أهلها، فيطلب يدها للزواج، من أبيها صاحب التاج؛ ليقيم لها عرسا لا قبل للإنس به ولا الجان. تسير بأخباره الرجال والركبان، عبر البلدان، على مر العصور والأزمان.

إيييييه.. لكن للدهر في غالب الأحيان تدبير يخالف تدبير الإنسان. تسلل شبح مترصد تحت جنح الظلام، والعسس نيام، في فصل الأنواء والعواصف، فهربها خفية وقلبه خائف، أن يلحق به الفارس قاهر الفوارس، فيعجل بموته المحتوم. عندما حل الصباح ولاح، بلغه النبأ المشؤوم، طار عقله، ولم يعد من الناس، ففقأ عيون الحراس. وساح على وجهه هائما في الصحراء، ليسأل عنها بين الأموات والأحياء. دون أن يعثر لها على أثر يذكر، أو خبر يسر.

مرت سنوات وأعوام، فلم تزده إلا غراما على غرام. شاخ وخارت قواه، وابيضت عيناه قبل الأوان، وكذلك فعل بها الزمان. رفضت جميع الخطاب والعرسان. مهما علا شأنهم بالجاه والسلطان. ظلت لسنوات تعتلي تلة على مشارف كافة المسالك، عسى في إحداها يظهر من لروحها مالك، فيحضر ليخمد نيرانها المستعرات. ألسنتها بعدد الثواني لا الساعات.

في مساء يوم ربيعي دافيء، تجمهر بعض الأهالي على شيخين هرمين، يتبادلان حديثا مندفع الحماس بعكازيهما؛ لتعذر تبادله بما سواهما. حديثا لم يستطيعوا فك شفرته، ولكنهم فطنوا إلى كونه حديث حب وغرام؛ ظل صامتا لأعوام وأعوام.

بعد لحظة، قام العجوزان، ونزلا أسفل التلة بما بقي لهما من الإمكان، وابتعدا بمهل عن العيان، في اتجاه مغرب الشمس. فصرخ أحد الحاضرين في بحر الهمس:

ـ هل رأيتم ما أرى؟ هل رأيتم كيف يمشي العشق على عكازه؟"

بادرت أمي حنة بسؤال مازح: ألست أنت هذه، وذاك جدي تولاه الله برحمته؟ ضحكت، ووكزتني بعكازها في بطني، فبقيت أتلوى من الضحك؛ حتى كدت أفعلها، فيتشتت الجمع من دويها المفاجيء.

ابتسمت في وجه ياسمينتي. فأفرجت أساريرها عن بسمة ندية رقيقة. ما أجمل أن يبرز الشيء فجأة بين أضداده.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى