السبت ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

يحيى الصابئي

في فجر شتاء قارص البرودة، وجده يحيى الصابئي أمام عتبة باب داره، ملفوفا بقطعة قماش بيضاء؛ يبدو حديث الولادة، موضوعا في سلة مصنوعة من أوراق سعف النخيل الصفراء، يرتجف ويبكي من الجوع والبرد دونَ انقطاع...

انحنى الصابئي بعوده الرفيع ورفع الطفل الوليد برفق، كأب يحمل ابنه المريض. عرف عن يحيى في منطقته التي يسكنها في الجزء الجنوبي من بغداد بتحفظه الشديد في آرائه حول الأديان، يحب دينه كثيرا، ولا يرضى بغيره، دينا، رغم تحفظه وآرائه... وغالباً ما كان يردد شعاره الذي يتغنى به أينما وجد: الدين هو الأخلاق! ثم يهتف بتفاخر عجيب: كن على خلق، فأنت مؤمن والله يحبك. لقد كان الرجل وحيداً، حيث ترمل بعد وفاة زوجته وهي مازالت في مقتبل العمر، لم تلد له طفلاً، ولم يقبل بالزواج من بعدها بأية امرأة أخرى... لحين ما عثر على الطفل الذي وجده في ذلك الصباح الذي تلسع برودته كلسعة النحلة.

حمله إلى داخل داره، وهو يتألم لمنظر الطفل المروع، قبله ووضعه أمام الموقد في الغرفة الجانية من مكتبه، وأعد له زجاجة من الحليب الدافئ، رضعها الصغير دونَ أن يأخذ نفساً للراحة... نظر الطفل إلى وجه يحيى وابتسم، كابتسامة الصيني؛ لم يستطع الصابئي من تحمل هذا المنظر، ذرفَ الدموع دونَ شعور، فسقطت على وجه الطفل... ثم تورد وجه الرجل إشراقاً، مدَ يده نحو الطفل برقة... فاستجاب الصغير له ورفع إصبعه الصغير الذي يشبه نواة التمر، فانحنى يحيى عليه وقبله مرةً أخرى وهو يخاطبه، كالراهب:

أمكَ تحبك كثيرا، فلا تغضبُ منها أبداً، ثم استطرد بصدق وبسرور:

ماذا أسميك ؟ سأسميك رسولا، ما رأيك؟! ثم أردف: رسول كلمة رائعة، فالرب بعث للبشر عدة رسل، وأوصاهم بنشر العدل والحب على الأرض، ها... ماذا تقول؟!

 حرك الطفل قدمه بخفه، كرعشة عصفور مبلل.

 إذن اتفقنا!

شبَ رسول قوياً، ذكياً، مسالماً في أحضان دار الصابئي، له عينان واسعتان، جميلتان وكأنهما تعودان لفتاة، طيب القلب، نقي السريرة، واضحا، مباشرا وصريح الحديث وقد اعتادَ على عمله اليومي الذي يبدأ منذ الفجر وعند ظهور الخيوط الأولى من أشعة الشمس الذهبية التي تشبه سنابل القمح؛ يهمُ بالذهاب مباشرةً لأبيه يحيى، يساعدهُ لاستقبال يوم جديد بفرح وهمة، يكنس الدار، يرتب أدواة المطبخ... بعد أن كان قد أنهى دعاءه بصمت وهو يقول في سره:

يا رب، أنا لا أريدُ شيئاً، ولكن لا تجعل أبي يتألم في كبره، ولتكن حياة شيخوخته، كلحظات غروب الشمس، تنسحب وهي صامته، إنه يسعلُ كثيراً هذهِ الأيام، إنه عبدك يا رب جعلته ودوداً وطيباً، فأعطه بمقدار ما يعطي، وخذ منه بنفس القصد... أمين.

ثمَ يذهب مودعاً، إلى ورشة النجارة التي يتعلم فيها مهنة النجارة، والتي لا يعرفُ غيرها في الحياة. بدأ منذُ الصغر وهو يفكر بأشياء تبدو له كبيرة وصعبة المنال؛ لكن لا شيء في الحياة مستحيل( هكذا كانَ يقول له أبوه ) فيقنع نفسه بالتمني، ويسعد بأوقاته أثناء عمله... خاصة تلك التي يقوم بحفر الخشب فيها ليصنع منها لوحات جميلة مزخرفه، وبأحجام متنوعة، تهدى مجاناً ، لبعض دور الأيتام والمستشفيات الخاصة، وفي إحد الأيام طلبَ من أبيه أن يحضر له خارطة أفريقيا، فأستغرب أبوه وقال: ماذا ستصنع بها؟

 سأقوم بنحتها.

 ولكن، لماذا أفريقيا؟

 لأنني أريد زيارتها عندما أكبر وسأجمع من المال ما يكفي لرحلتي تلك.

 شيء جميل يا بني، عندما يحلم الإنسان بشيء ويود تحقيقه، وإن كانَ صعب المنال، سأحضرُ لك ما طلبته غداً.

 شكراً يا أبي، فأنا أحبك كثيراً.

نحتها وعلقها في الممر المؤدي إلى الورشة... لقد كانت رائعة، فقد استغرقَ نحتها خمس سنوات، بعد أن طعمها بأنواع كثيرة من الأخشاب والأحجار، لتكون في نهاية المطاف لوحة جميلة جداً، لا تقدر بثمن.

أصبحَ عمرهُ ثلاثين عاماً، التقى بأبيه كالعادة، وكانَ في وعكة صحية فسأله الأخير برقة:

متى ستسافر إلى أفريقيا؟ وهو يسعل كالمصاب بالسل.

 لدي الآن نصف المال، وعلي أن أجمع النصف الآخر.

 لكنك الآن في الثلاثين يا بني!

 أعلمُ ذلك يا أبي، لكنني مازلت أعيش الحياة، إذن سأبقى أحلم... وهو يقبل يده.

ماتَ أبوه يحيى عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، فيما كانَ ابنه يبلغ من العمر التاسعة والخمسين، في حين حادثة الوفاة سببت له أثراً مؤلماً وبالغاً في حياته، فهو لم يشعر بيد ترعاه، كما كانت يده، ولم يسمع كلمة حب، كما كان يجدها من أبيه، فقد عوضه عن حنان الأم المفقود، قدر المستطاع، وأصبح له مثلاً يقتدي به، حتى باتَ يقلده دونَ شعور، في الكثير من حركاته، طريقته في الكلام، مشيته الصامتة ، فقد كانَ يمشي وكأنه يزحف! باتَ يقضي أوقاتا أكثر من ذي قبل في مكتب أبيه، وكأنه يعوض الفراغ الذي خلفه. لكنهُ ظلَ يحلم ويجمع المال الذي سيسافر به لمشاهدة حلمة على أرض الواقع.

شاخَ رسول سريعاً، صارَ عجوزاً وهو في الخامسة والستين، نحيفاً كعصا، فقرر السفر أخيراً... لم يأخذ معه سوى نقوده، ونظارته الكبيرة ذات الإطار الأسود، التي بدونها يصبح كالأعمى، فأستقلَ القطار الذي ينقله إلى سبر اغوار حلم حياته، لطالما سهرَ الليالي وهو يحاكي طيور أفريقيا، ويتغنى بأسماء فيلتها، ليعبر القارات من أجلها.

بعدَ رحلة مهلكة لعجوز مثله، وفي شتاء بارد جداً، لم يتوقعه أن يكون هكذا في أحر قارات العالم، وصلَ إلى عاصمة جنوب أفريقيا، وجهه منهك من النعاس والتعب ومعفر بالغبار، وشعره الذي بلون الرصاص، أشعث، وكأنه ليفه استعملت كثيراً في التدليك، أول قدم وضعها على أرض محطة القطار هي اليمنى، بينما مازالت قدمهُ اليسرى على عتبة باب القطار، عندها استقبله مباشرةً، شاب أفريقي شبه عار، ومنظره يدلُ على أنه شحاذ، قالَ بصوت جهوري مسموع:

أعطني يا أبي يدك، سأساعدك في النزول، رفع بصره ليرى رجلاً كالفيل، لكنه جائعٌ جداً، لأنه رآه وهو يرتعش رغم ضخامته، سلمَ يده بكل ثقة وأمانة، لكنه تفاجأ، عندما رفع الشاب علية سكينة جيب صغيرة، يكسوها الصدأ، لا يمكن لها حتى أن تجرح طيراً، فقالَ له آمراً:

أعطني ما تملك يا هذا، أنك لا تحتاج إلى النقود وأنت بهذا العمر، فكم ستعيش بعدَ الآن؟ هيا... أعطني مالك وإلا قتلك!

 ابتسمَ له رسول ومدَ يده في جيبه ليخرج ما جمعه من مال طوال خمسة وستينَ عاماً، وقدمها له وهو يقول: خذه يا بني لأنك فعلاً بحاجة له أكثر مني.

لم يصدق الشاب الأفريقي نفسه، فإنه سيحصل على نقود كثيرة وبهذه السرعة... بدون أي إصابات أو جروح، ولا ندب ودماء وآثار!

أخذَ النقود كلها، وهم بالفرار وهو مذهول من المفاجأة، لكن رسول استوقفه وخاطبه بلطف:

لحظة من فضلك، إني أراك ترتجف من البرد، ستموت لو بقيت هكذا عريان! خذ هذا... فنزع عنه معطفه، وهو يبتسم كشمس الصبح، وهو يرى حلم حياته ينساب ويتسرب من غربال عريض الفتحات. ليسأل المارة برجاء أبوي:

أرجوكم، بالله عليكم، قولوا لي، أينَ هي القنصلية العراقية؟ وكلمات أبيه ترن في أذنيه، كالطنين: الدين هو الأخلاق، كن على خلق، فأنت مؤمن ويحبك الله...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى