الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢

مدينة النحيب

حسن يارتي

سيوف، خناجر ومجانيق، تمطر شرا في الليالي الموحشة. صهيب يرتعب خوفا، ووالدته تحتضنه بشدة وعلى وشك أن يلتحم جسده الصغير ببدنها، قلبها يخفق عشرة أضعاف المعدل الطبيعي آملة أن لا يلمحها أحد.

ترى يوسي المتوحش حاملا سيفه، ينسف كل من أبى الخضوع أو جرب المقاومة. لا تريد الأم سوى بلوغها المسكن آمنة سالمة.

فسرعته، قوة عضلاته وضخامة بنيته تمكنه وجيشه من حرمان قوم المدينة من مفهوم الهناء.

هذا حال مدينة النحيب، مدينة لا تعرف النوم على أنغام الهدوء وآمال الغد المشرق بشمس الحرية، مدينة لا يغمض لها جفن أو تمر لها هنيهة دون اشتداد رقبه أحدهم.

تتحرك أم صهيب بخطوات سريعة، خفيفة من جذع شجرة إلى صخرة دون أن تصدر صوتا، وهي تبصر نور قنديل بيتها من بعيد لكن العراقيل المشئومة تحول بينها وبين بلوغ مسكنها.

عند الصخرة الكبيرة وجدت إسماعيل، شاب في مقتبل العمر يحتمي خلفها مرتعشا من الخوف هو الآخر. آملت أن تجد فيه خصال الشهم الصنديد ليقاتل ذلك البربري عديم الرحمة، لكن هيهات.. بدل أن تسعى لحمايته سبقها لذلك، فلم تجد خيارا سوى أن تبرح مكانها.

انتقلت أم صهيب وغلامها الهادئ إلى صخرة أخرى، تلتفت يمينا وشمالا، وبين الفينة والأخرى ترفع رأسها لتستسقي أخبار موضع يوسي الجديد وعدد ضحاياه الذي يرتفع بالعشرات دون تراجع، فقبل أن تعيد رأسها إلى أقرب كتفيها ترى جثتا تتقطع إربا، وهذا ما يزيد من فجعها. رباه !! أبلغني مسكني رفقه فلذة كبدي، هكذا كان دعاء أم صهيب راجية أن يبزغ الفجر وهي على قيد الحياة.

تزحزح يوسي من مكانه الذي استعمره لساعات متيحا للأم فرصة التحرك لجذع شجرة يستقر قرابة مسكنها، رغم أنه يبعد ببضع أقدام قليلة عن الصخرة، لكن بدت رحلة انتقالها كأنها ستعبر المحيطات الخمس أو أن الجذع في مشارق الأرض و الصخرة في مغاربها.

استوطنت الجذع و إيقاع أنفاسها يرتفع شهيقا بعد شهيق، أما صهيب يتألم من شدة إحكامها إياه بين يديها.

ما إن يظهر كائن في محيط يوسي إلا و لقي مصرعه لحظة وقوفه أمام المتوحش، كأنه يتلذذ بإزهاق الأرواح و يستطعم ملوحة الدم الأحمر الغامق.

أدار ظهره لأم صهيب حتى انتهزت فرصة العمر لتدخل مسكنها بعد أن تعدو لمسافة تبدو أطول من سابقتها، ركضت متحملة ثقل ابنها بكل ما أوتي لها من سرعة و قوة. فلمحها المتوحش بعين شريرة توقف نبض كل قلب يترنح.

في لمحة بصر و ارتداد طرف، وجدت الأم نفسها أمام ذلك الضخم، أبشع المنظر و قبيح الصورة رافعا سيفه ليقطعها و ابنها إلى نصفين.

قبل أن تدرك ما الذي يجري أو سيجري، حتى ألقت صهيب إلى داخل المسكن، جاهلة مصيره.. هل سيعيش أم سيلقى مصرعه بسبب صلابة الأرض التي ستستقبل بدنه الهشيش، كل ما أدركته قبل أن يتطاير دمها الطاهر ليمطر الأرض شهادة هو أن غلامها لم يجزر على يد يوسي المتوحش.

حسن يارتي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى