الأحد ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم حسن توفيق

بيت العندليب يتحول إلى مخبز!

أضحك مع أصدقائي وهم كذلك يضحكون معي، حين نقرر التوقف فجأة عن إجهاد أذهاننا، بعد أن تكون مناقشاتنا قد طالت وتشعبت حول ما يجوز وما لا يجوز، وحول ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، لكني حين أسهر وحدي لكي أتابع أو أتفرج على ما يجري على الأرض العربية أكاد أحس أن أشباح الكآبة والتأفف والضيق تضيق الخناق حولي، خصوصا حين أقارن بين ما يجري على أرضنا وما يجري في العالم المتقدم في الغرب وفي الشرق على حد سواء!

إني أقلب صفحات الجرائد اليومية في الليل، لكني أصبحت مدمنا على قراءة صفحات الحوادث في تلك الجرائد، لأن ما فيها ليس أكاذيب ملفقة، وإنما هو حقائق ثابتة ومؤكدة، تعكس كيف تغير المجتمع في مصر لا إلى الأمام وإنما للوراء .. عاملان يطرقان باب جارتهما العجوز التي يتجاوز عمرها سبعين سنة، وحين تفتح لهما الباب يقومان بقتلها على الفور لكي يحصلا على قرط ذهبي وستمائة جنيه! .. فتاة مسيحية صغيرة ، عمرها لا يزيد على أربع عشرة سنة، يقوم المتشددون المتشنجون بخطفها، ثم يؤكدون – فيما بعد- أنها قد أسلمت وتزوجت شابا مسلما! .. والذين يقولون إنهم مجاهدون يقومون بقتل أفراد بسطاء مجندين في الشرطة المكلفة بحفظ الأمن في سيناء، وهؤلاءالذين قاموابالقتل كانوا يحملون مدافع رشاشة مهربة من ليبيا، أما أفراد الشرطة المقتولون فليس بحوزتهم سوى بنادق عتيقة، كما تقضي بهذا اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة!
لو أنني ظللت أدون هنا بعض تلك الحوادث لملأت صفحات كاملة، ولهذا سأكتفي بالإشارة إلى الخبر الذي استوقفني هذه الليلة، وهو خبر يتعلق بعبد الحليم حافظ الذي كنا نسميه العندليب الأسمر، وكنا نتأوه مع آهاته في الحب، ونتحمس حين يغني للسد العالي، ولجماهير الشعب التي كانت تدق الكعب، ولناصر زعيم الشعب، الصادق والناطق بانتصاراتنا وانكساراتنا على امتداد المعارك بين أبناء العروبة والقوى الأجنبية الأخطبوطية.

ماذا جرى لعبد الحليم حافظ؟ كلنا- بالطبع- نعرف أنه قد رحل عن عالمنا يوم 30 مارس سنة 1977 بعد مسيرة فنية شهدت ما شهدت من مواقف ومن أحداث، وكانت هذه المسيرة قد بدأت بغنائه لقصيدة لقاء لصلاح عبد الصبورسنة 1951 وخاتمتها بغنائه لقصيدة قارئة الفنجان سنة 1977 أما ما جرى في هذه الأيام العصبية والعصيبة، فهو أن البيت الذي شهد طفولته وشبابه المبكر، وهوأحد بيوت قرية مصرية صغيرة اسمها قرية الحلوات، قد تحول من بيت تاريخي – كما يفترض- إلى مخبز بلدي ومخزن للدقيق! .. هذا ما جرى بمنتهى البساطة، وعلينا ألا نسأل أنفسنا : كيف جرى هذا الذي جرى؟ فلم يعد أحد قادرا على الفعل الجاد في زمن الفوضى والعبث، وعلينا ألا نسأل وزارة الثقافة أو الآثار في مصر عما جرى، فلم تعد هناك ثقافة تستحق هذه التسمية، أما الآثار فإنها أصبحت معرضة للنهب أو للتلف والدمار، لا في الليل وإنما في قلب النهار!

منذ أكثر من ربع قرن، كنت قد كتبت مقالا بعنوان كرمة قديمة للبيع، عندما عرفت أن ورثة أمير الشعراء أحمد شوقي قد عرضوا للبيع بيته الذي سماه كرمة ابن هاني- تيمنا بأبي نواس الذي كان يعشق شعره، ووقتها أحسست بنشوة النصر حين كتب آخرون سواي بعد ذلك عما كان يمكن أن يجري، حيث سارعت وزارة الثقافة المصرية لشراء بيت أمير الشعراء، لكي تحوله إلى متحف جميل، يضم مقتنيات ومتعلقات هذا الشاعر العبقري، أما الآن فإن مئات المقالات عن بيت عبد الحليم حافظ الذي تحول إلى مخبز لن تستطيع أن تحرك ساكنا، تماما كما قال المتنبي: ما لجرح بميت إيلام، و يبدو أن المتنبي يتابع ما يجري الآن من عالم الغيب، لأني أسمع صرخته الساخرة والحزينة تتردد: .. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، أما العندليب فربما كان يغني الآن.. موعود بالعذاب يا قلبي- حتى بعد موتي!

يبدو لي كذلك أني لم أكن مبالغا ولا متحاملا على أحد عندما كتبت منذ فترة قريبة مقالا بعنوان ربيع الثورة وخريف الثقافة، ولابد لي أن أعتذر لكل من يقرأ هذه السطور إذا كانت عدوى الكآبة قد انتقلت مني إليه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى