الأربعاء ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

النخلة

بين ليلة وضحاها، أصبح بلد عرق واق، عبارة عن بركة ماء راكدة، لا يصلح لشيء بعد، ولا ينمو فيه سوى الطحالب الخضراء العقيمة ويطوف في أجوائها البق، مصاص الدماء اللعين، وبعض الضفادع التي لا ينقطع نقيقها أبداً. ومع ذلك جاؤوا بالنخلة، لديهم ثمة أمل ربما؟ أو مازالت بقايا من حلم سرمدي أبيض، معلق في أذهانهم؟ كل شيء جائز في بلد أصبح بركة ماء راكدة كما قلت... حضروا وهم يدمدمون ويغمغمون، مطأطئين الرؤوس حاملين النخلة، وكأنهم يسيرون بجنازة والمرحوم على أكتافهم... ثم عند نقطة تقاطع ولايات البلد الأربعة، حديثة التقسيم، طرحوا النخلة على الأرض، فبدت وهي ممدودة، كعملاق نائم، بائس وحزين، جائع وعطشان، فاستسلم للرقاد... والقوم حولها يتناقشون بأصوات مزمجرة، بنظرات لا ترحم، وكأنها صادرة عن أشخاص جاؤوا لينتقموا، دون إشفاق لحال النخلة، وهم يرددون، كالنشيج: أين سنزرعها؟!

من بين الجموع المتجمعة، علا صوت جنباوي الذي يتمتع بشارب قروي غليظ طلي حديثاً بلون أسود جيري غامق! وصاح عالياً، هادراً في الأفق الأصفر الترابي، وهو يرفع أصبعه الوسطى وسبابتيه المعقوفتين، كالملقط في الهواء، بعد أن عدّل من عقاله الذي كاد يسقط من على رأسه الأشيب: لا يمكن أبداً، فالثورة بدأت من من هذه الأرض الطاهرة، ثم أدرك وملقطه اللعين مازال معلق في الفراغ، أرضنا خصبة وصالحة للزراعة، ومياهنا عذبة رقراقة، كمياه الجنة، إذن، لابد للنخلة أن تزرع هنا.

 رد عليه شملاوي بلهجة نصف عربية، وهو يزفر، بعد أن داهمه التعب وتربه الغبار، وكرشه بارز عن جسمه بنصف متر تقريباً، كما يتوسط وجهه، أنف كبير يشبه أذن أبن آوى إلى حدٍ ما: هذا الكلام غير صحيح، أخي؛ لقد كنا ضد الاستعمار وحاربناهم بكل ما نملك من دهاء وقوه، بدءاً من أرضنا، ثم أردف (بدا وكأنه يغني موالا) وجبالنا مازالت شاهدة على ما أقول... لذلك، يجب أن تزرع النخلة في أرضنا، ثم سكت فجأة، وكأنه أصيب بسكتة قلبية.

 لملم غرباوي عباءته ورفعها على كتفه بوقار وعصبية، فنثر الغبار الذي كان يطليها، على الواقفين حوله دون اكتراث، وخطب صائحاً، وتجاعيد جلد وجهه، التي تشبه كتلك الموجودة في فخذ امرأة في الثمانين! ترتفع وتنخفض، تتمدد وتتقلص مع كل حركة يقوم بها أثناء الحديث: صحراؤنا ومازالت هي الأصل في كل شيء، منها وعليها عبر أشرف الرجال في التاريخ، ومنها وسمت ورسمت معالم العالم الحديث، ولولاها، لما كنا هنا واقفين؛ ثم استطرد بنفس الحماس، فأنا لا أرضى إلا أن تزرع هذه النخلة، هنا، والتي ستكون رمزاً لبلدنا وعلماً عالياً يرفرف على كل الآفاق.

 فح شرقاوي، كالثعبان وهدر هاتفاً، كالرعد: نحن أبناء وأصحاب هذه الأرض الطيبة التي منها بزغت كل العلوم والآداب والفلسفة، والله والتاريخ شاهدان على ما أقول؛ فلا نقاش ولا تفاوض في هذا الموضوع، ثم تابع غامزاً بمكر، أنتم تعرفون ما أعني ومن نحن... والنخلة لا تزرع إلا هنا والسلام!!
ظلت المناورات والمناوشات والجدل والزجر بين الفرقاء الأربعة ولم يحدث شيء ولم يتوصلوا إلى رأي محدد في أي أرض تزرع النخلة؛ في حين بقيت النخلة عطشى، تريد أن ترتاح في أرضها، فهي لا يمكن لها المكوث هكذا طويلاً، ممدودة، كالساقية الجافة... ستموت حتماً، تنظر لهم وهي حزينة، تبكي بصمت، تتألم في داخلها ولا تستطع أن تعبر عما يجول في خاطرها، فهي وحيدة، كسيرة، لا تستطع الوقوف إلا على الأرض، والأرض مازالوا يتنازعون عليها...

انتصب أحد العقلاء، كالرمح وسطهم وصرخ بالقوم: لا تخافوا لا تهابوا، فالعاقل لا يرفع السلاح، منطقه الكلمة وطريقه الكفاح، وجهه سمح ونظرته صلاح... ثم سألهم بامتعاض: لماذا لا نحل هذا الموضوع الشائك سلمياً؟!

 صاح الأربعة بصوت واحد، وكأنهم يزغردون: كيف يا عاقل؟

 لنأخذ من التاريخ عبرة!!

 صاح جنباوي به، بعد أن اشتعلت عيناه بالغضب: كيف يا عاقل؟ قل ما تريد قوله وخلصنا، يأخذ عزرائيل روحك قبل أوانها.

أجابهم العاقل بغرور مفتعل: لنفعل كما فعل محمد من قبل... عندما بني للمسلمين أول مسجد، احتكم لناقته وأنتم تعلمون، ثم صمت وهو يقرب ما بين عينيه ويغمز.

تقدم منه كرش شملاوي أولاً وقال له هازئاً، نكياً، وأنفه يتمايل لضخامته: ومن أين نأتي بجمل؟ ثم تابع، فزمن الجمال ولى ومات... دلنا يا عاقل عن حل سلمي آخر...

 أجابه العاقل سريعاً وهو يتلمظ: لنستدل بحمار بدل الجمل، ثم استطرد بفرح، أنا لا أرى مشكلة هنا، فالناقة حيوان والحمار كذلك... المهم أن نحل الصراع الدائر عن طريق تدخل الحيوان!! هذا هو المهم، ثم صاح، بعد أن نسى نفسه، أليس كذلك؟!

بدا على الوجوه الامتعاض وعدم الرضا؛ ثم تنحنح جنباوي وقال: أنا لا أثق كثيراً بالحمير، ثم تابع، عُنُد وأغبياء... ومن ثم الحمار لا يعرف الجلوس إلا ما ندر وشذ؛ وهذه مشكلة، فالحمار يعمل ويأكل وينام وهو واقف، فكيف سنستدل على الأرض التي نزرع فيها النخلة والحال هكذا؟ ثم صرخ بهم منفعلاً، ها... هل منكم من يجيب؟ والله سيسير بنا الحمار إلى ما شاء الله أو أن يقف، كالصنم لا يأتي بحركة... وعلى مزاجه، حمار ماذا نقول؟ ثم واصل، أنا لا أوافق، وأفضل أن يكون كلبا، وأرضنا مشهورة بكلابها الأليفة والمسعورة، نختار منها ما يناسبنا، ثم أنهى خطبته بكلمة، يا ساتر، لا نطلب سوى عفوك ومن ثم رحمتك!!

تدخل شملاوي وهو يلهث، وزمجر: ماذا تقول؟ نتحكم ونمتثل إلى كلب؟! على جثتي... لا... لن يكون، ثم أردف، إذا كان ولابد من التحكم إلى حكمة حيوان، فلنأت ببغل من بغالنا الجبلية العتيقة العريقة القوية التي لا تتذمر أو تمل أو تتعب... فهي رفيقة كفاحنا الطويل وحاملة متاعنا وهمومنا، لذلك أرشح البغل على الكلب، ثم قال مستهزئا، كلب... قال!!

نكث غرباوي عباءته مرة أخرى، فثار عاصفة من التراب، وقال، بعد أن استعاذ بالله ثلاثا: أما أن يكون أحد ثعالبنا الصحراوية أو لا يكون!! فهذا حيواننا وهو الذي أرهب أعدائنا، وبه نستدل... ثم عقب متمماً، أراهم يريدون تلويث شرف تأريخنا؟ لا... لن يكون لهم هذا ما دمت حياً...

مص شرقاوي شفتيه، وخطب: أقسم بالله العظيم... أن كل ما جاء فهو افتراء على الحقيقة... ثم واصل بنفس النغمة، فكل تلك الحيوانات ليست راقية وغير جديرة بالتقدير أو الاحترام، فهي لا تنفع بشيء! ونحن وحسب علومنا وإنسانيتا التي ترعرعنا عليها، لا نرضى ولا نؤمن إلا بالخراف، فهي صديقة الإنسان ومطعمته وليس لنا غيرها... ثم دعا، حفظها الله لنا من كل سوء!!

تقدم العاقل منهم مهموماً، بعد أن فشلت فكرته فشلاً ذريعاً، فصاح بهم دون حذر: يقولون اسمع كلام الواعظ ولا تفعل ما يفعله!! إنكم يا أخوان جميعكم تكذبون، تقولون نعمل لكم ولمصلحتكم وهذا غير صحيح، ومصيبتنا هي إننا نصدقكم وننتظر أفعالكم... ولكن إذا بقي الحال كما هو عليه (وهو يصرخ، وكأنه يجرب حنجرته) سوف لن نستطع زرع هذه النخلة ولا حتى غيرها...

 هتف الزعماء الأربعة، بنسق واحد، وكأنهم ينشدون: بلا، سنتفق وسنزرع النخلة، ولكن لا تغضب!

 أجابهم العاقل بمكر غائم، غير واضح، بعد أن استيقظ الخبيث الذي كان نائماً في داخلة، فأصبح كالمسخ ممتقعاً، شريراً، لا يعرف ما يضمره وما يختلج به قلبه من هواجس، كإبليس بعد أن مسح الكتابة المقروءة على صفحة وجهه: ما دام الأمر كذلك، إذن اسمعوا ما سأقوله لكم، وأنا متأكد بأنكم ستصفقون لهذه الفكرة وترقصون لها، داعين لي بكل ما يطيب النفس ويلذ الجسد...

 قاطعوه برنة مستغيثة وبصوت مبحوح: قل ما تريد قوله يا عاقل، ثم ناحوا، خلصنا وليأخذ عزرائيل روحك ليستطيب بها ويفرح!

 همس في سره، علي وعلى أعدائي... لعناء كالبق الذي يسرح ويمرح في آفاقهم؛ خسف الله بهم الأرض الواقفون عليها، كما خسفها بقارون؛ ثم نوه بنوع من مباهاة وقال: لنتحكم إذن للقوة، توقف قليلاً ليجس وقع كلماته عليهم ثم تابع، تلك اللغة التي تجيدون النطق بها، بل تحبونها كأولادكم وربما أكثر!! وكل رئيس منكم، يدفع برجل، والخاسر أو المتقهقر أو الذي يموت... تنتهي مهمته، والفائز ومن يبقى في الحلبة... تزرع في أرضه النخلة! وعندها هتف بجسارة: ها... ماذا تقولون؟! في حين ظلت النخلة ممدودة على حالها، يبس سعفها وأصفر لونها وهي تئن وتنوح بصمت جنائزي مكبوت وهي تسمع مجروحة... صهيل الموت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى