السبت ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
مصافحة..
بقلم بلقاسم بن عبد الله

ثورة الأمس وكتاب اليوم

.. وماذا سيحكي المجاهد الوقور لحفيده العزيز عن ذكريات سنوات البطولة في ثورة التحرير؟.. ماذا سيقول عن تضحيات الشعب الجزائري الأبي طيلة سبع سنوات ونصف في مكافحة الإستعمار الفرنسي الذي يأبى أن يعترف بجرائمه الشنعاء؟.. كيف نكتب عن هذه الثورة ونبدع ونجيد؟.. ماذا تمثل لوحتها اليوم بالنسبة لكتاب ما بعد الاستقلال؟.. تساؤلات مشروعة تطرح اليوم من جديد قبيل تخليد ذكرى ثورة أول نوفمبر المجيدة، في غمرة إحتفالنا الثقافي بخمسينية الإستقلال.

كيف نكتب عنها الآن؟.. هل تـتحمل القصيدة أو القصة برقعتهما الضيقة؟.. وهل تتسع الرواية أو المسرحية بلباسهما العريض؟.. أم هل تستطيع المقالة الأدبية أن تتخلى عن نمطيتها لتعوض بهدوء أعصاب ورباطة جأش ما فات بقية الفنون الأدبية الأخرى؟ ..

الحق نقول: إن البيان مهما بلغ من السحر والشعر لا يرقى لبلوغ قمة الواقع، بجمالياته وامتداداته، بعنفه وسكونه، والثورة الجزائرية هي واقع وفعل أصدق وأبلغ من الحلم والخيال، وأعظم سحرا وشعرا من البلاغة والبيان. هل معنى ذلك أن ننكمش داخل ذواتنا، ونتقوقع وسط شرنقـتـنا الهادئة، نمزق الأوراق، ونكسر الأقلام، ونلعن الظلام لنعيش في سلام؟.. أم نعود والعود أحمد من جديد، لنملأ الدلو من معين هذه الثورة الصافية المعطاء ؟..

هناك من يقول بأن الأدب الثوري الحقيقي هو الذي يحس بحجم وعنف الحدث أو المأساة، قبل الوقوع، فيندفع إلى الأمام ليدق أبواب الغيب، ويستشف معالم المستقبل، يحلم بالثورة، ويمهد لها قبيل وقوعها. وهناك من يردد: بل هو ذاك الذي يأتي أو قد لا يأتي بعد مرور فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، حسب مقتضيات الظروف والأحوال، بعد أن تستقر الأوضاع، وتتضح الأمور، وتختمر الأشياء والأفكار في الذاكرة، وتنمو تلك البذرة الطيبة فإذا هي شجرة مباركة جذورها في الأرض، وفروعها في السماء .. وهناك من يرى بأن أدب الثورة هو الذي يعيش معها ويتابعها عن قرب، ملتصقا بلحمها وعظمها، يحتضن همومها ومكاسبها، يواكب عن كثب أحداثها ووقائعها، يغمس قلمه في دمها ولهيبها.

ما شأننا الآن بكل هذه الآراء .. هل نقف اليوم مكتوفي الأيدي، نتأمل في صمت وإجلال وإنبهار لوحة الثورة، أو ما تبقى من ملامح صورتها في الأذهان؟... ننكمش كالقنفوذ تحت قشرتنا ونردد في أعماقنا: يكفينا الانتظار، لنعد إلى الديار، لقد فاتنا القطار ..

ومع هذا وذاك، هناك أعمال أدبية على قلتها وعلتها كان لها فضل الريادة في الحلم بالثورة، والدعوة لها، تلميحا أو تصريحا، أي أنها تنبأت بصفة أو أخرى بهذه الثورة، وهي تتململ تحت قشرة التربة الجزائرية. ولا ننكر مدى مواكبة الأدب بوجه عام، والشعر بوجه خاص لمسيرة ثورة التحرير مترصدا لأحداثها ووقائعها، محتضنا لعذابات وطموحات الجماهير، وهي تساهم بكل ثقلها مساهمة فعالة في إبداع ملحمة ثورية خالدة.

هل ننسى تلك المبادرات الرائدة، لبعض كتابنا المشهورين؟.. من منا لم يقرأ ويتفاعل مع نجمة كاتب ياسين ، ولاز الطاهر وطار،وثلاثية محمد ديب ،واللهب المقدس لمفدي زكريا..من خلال هذه الأعمال الإبداعية الثورية يمكن الإطلاع على صفحات مطوية من مجلد الثورة ..

لكن .. ماذا يفعل الكتاب من جيل الاستقلال، الذين حرموا من شرف الكفاح المسلح؟..كيف يكتبون ويبدعون؟..هل يستنجدون بشهادات وتصريحات مجاهدي الأمس؟..أم ينقبون بين الأوراق والكتب المتناثرة هنا، وغالبيتها هناك من وراء البحر؟.. أم يعتمدون على صور خلفية مترسبة بقاع الذاكرة، وأخرى ترسمها المخيلة في لحظة اتزان وإشراق؟..

الواقع أن كل الأزمنة تؤدي إلى بقعة الثورة الجزائرية، وكل الأمكنة تمر على رقعة التربة الجزائرية، كل الطرق والوسائل ممكنة نحو هدف تخليد ملحمة هذه الثورة الجبارة. هناك أصداء وظلال عشرات المواضيع التي تكتب نفسها بنفسها، عندما تجد قدرة الفنان المبدع:

ـ الفلاحون الذين تذمروا من الإقطاع والإستغلال، فتمردوا على القهر والظلم والطغيان، واندمجوا في الثورة كوسيلة للتشبث بالأرض، وكهدف للخلاص والتحرر.

ـ الطلبة المثقفون الذين تركوا كتبهم وحبهم جانبا، ليلتحقوا بإخوانهم ورفاقهم في السهول والوهاد، في التلال والجبال.

ـ وهذا الفدائي المسبل الذي يضع قدميه علي قنبلة موقوتة، حتى إذا ما مر من معه من مجاهدين، انفجرت القنبلة ليسجل اسمه في قائمة الشهداء الخالدين.

ـ وتلك البطلة المحاصرة من طرف جيش الأعداء، تبحث لها عن منفذ أو مخرج، ولما لم تجد ترمي بنفسها في بئر عميق، حتى لا تقع أسيرة بين أيدي المستعمرين.

ـ وذاك الأب الذي يبيع بقرته الوحيدة ليتبرع بثمنها للمجاهدين بعد أن منعه مرضه العضال من رفع السلاح، والإسهام المباشر في الكفاح.

ـ وتلك العائلة التي يتجمع وينام أفرادها الخمسة في غرفة ضيقة ليتركوا الغرفة الباقية لإيواء المجاهدين المعطوبين الذين يقتسمون معهم الخبز والملح والطعام.

ـ وهؤلاء المجاهدون الذين يقفون أمام العلم الوطني المرفرف، بإجلال وفي خشوع المتصوفين، ماذا ينشدون في سريرتهم؟ وماذا تحقق من أحلامهم وطموحاتهم؟..

إنها بالفعل لحظات إنسانية ثابتة، ومواقف بطولية خالدة، انصهرت في بوتقة هذه الثورة العظيمة، ولا تتطلب الكثير من الجهد والبحث، بقدر ما تحتاج إلى قليل من المعاينة والمعاناة، حتى تجسد في أعمال أدبية ناصعة البياض، تقدم إضافة نوعية متقدمة للإبداعات المتوفرة في هذا المضمار، حتى تتضح ملامح ملحمة ثورية خالدة، يعتز بها أبناء الأحفاد أبد الدهر.

ترى.. ما رأي كتاب جيل الاستقلال الذين حرموا من شرف الكفاح المسلح ولم يتمتعوا بحرقة اللهب المقدس؟.. ماذا يكتبون عن ثورة جبارة تعيش في بؤرة الشعور، وعلى هامشه في آن واحد؟.. كيف يكتبون الآن ويبدعون عن ملحمة ثورتنا المجيدة؟.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى