السبت ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

امرأةٌ وعربةٌ ورَجلْ

رجلٌ ينثر ابتسامةً.... يزرع ضياء على قمح الطريق.....!!

رجلٌ يدفع عربة تمشي أمامها امرأة...

هو يسير شامخا مخترقا شوارع القرية الغافية، يسير مختبئا في الكبرياء، مزدانا بالنجوم،متوشِّحا بالانفلات، متحررا من الألم. تسبقه امرأة بخطوات واثقة و نظر متقد، تحيّ نساء القرية باحترام و تعرض عليهن ما عندها، تتبادل معهن حديثا قصيرا، ترغب في الوقوف عندهن لتبادل الأخبار و لكنها لا تستطيع فالعربة وراءها و هي لا تنتظر. أما هو فيبدو من بعيد و كأنه كائن غريب بمشية مترنّحة و قد وضع على رأسه منشفة قديمة و ارتدى " بلوزة" رمادية طويلة تصل حدّ الركبتين و بنطال باهت اللون و قد لبس في ساقه اليسرى حذاء بلا لون أما اليسرى فتظهر من بعيد و كأنها عمود لحم متشقق بلا قدم و لا أصابع، كل صباح خلال مروره اليومي يتأمل الأطفال وهم يلعبون، يوزع عليهم أدعية و ابتسامات يختبئ وراءها شعور الحرمان و الوحدة، أما الأطفال فينظرون إلى عربته وكأنها صندوق عجائب تزخر بالأمنيات والحكايات و الرياح العاتية، يدفع عربته بكل إصرار، تتقدمه هي تبعد عنه الرياح والهموم، كانت دائما تضع " ملحفة " داكنة تشدها إلى وسطها بحزام أبيض عتيق و تضع على رأسها "بخنوق" هرب منه بياضه، كانت تمسك بطرفيه بأسنانها لتبقى دائما مغطاة الرأس و بذلك تصبح يداها متحررتين من أي شيء حتى تقوما بوظيفتهما اليومية و هي إبعاد حصى الطريق عن عجلات العربة أو مسح العرق عن جبين الرجل كلما توقف، تسير أمامه لتدله على الطريق و في كثير من الأحيان تلتفت إليه لتحتضنه بعينين يملأهما الإشفاق والمرارة...تنظر إليه دون أن يُحسّ هو بذلك لأنه رغم كل شيء مازال فارسها الذي كان و إن بدا مع الزمن بلا سيف ولا صوت ولا ذاكرة...و مع ذلك يحيّ بإشارة من رأسه الرجالَ الجالسين في المقهى فيردّ على تحيته قلة منهم. يواصل طريقه يجرّ بإرادة خرافية رجله اليمنى كخرقة بالية خالية من الحياة..يسير دون أن يفكر لحظة في التراجع عن عزمه أو التوقف عن رحلته الصباحية، تسبقه امرأته بوجه متيقظ و نظرة متعبة..

يسير شامخا دون أن يتراجع عن عزمه أو يتوقف عن رحلته. كان ينثر فيها ما يزخر بصندوقه الثقيل و يوزع فيها الأمنيات والكلمات الحريرية الفياضة. إنه فارس قريتنا الوحيد الذي يتوقف عند كل نداء لينجد رغبة رجل أو إشارة امرأة، يُوقف العربة، يتركها الرجل تهنأ بالراحة على الأرض فتناوله المرأة زجاجة ماء ثم ترجعها إلى العربة فترسل له نظرة حب وارفة حتى تطمئن إلى أنه قد ارتوى منها...

رجلٌ يسير على مهل أمامه عربةٌ مثقلة تتقدمها امرأة مثقلة...ثلاثة يسيرون على مهل بحثا عن الضياء، وهم دون تردد يتابعون حياة الناس و لا أحد ينتبه لهم....كأنهم جزء من الناصية أو امتداد لأشجار الطريق و رغم ذلك لابد أن يواصل طريقه قدما فيمر كعادته على حلاق القرية حتى يأخذ منه الجرائد القديمة ليقرأها في راحاته المتقطعة الهاربة..في تلك الأثناء تمسك هي بالعربة حتى يعود و تنتظر عودته بشغف مزمن..يعود هو ليدفع عربته بيمناه القوية أما اليسرى فكانت مخبأة في جيبه لا يعرف أسرارها إلا امرأته و الظلام،أهالي المدينة يتابعون العربة بتوجّس و غموض و كأنها سر من القدر أو أحجية من الزمن أما هو فسعيد بحركته لأنه يقاوم الريح و يصارع المطر و لا يثنيه عن جولته تلك جنون المطر و لا عناد الشمس أو ثرثرة الغيوم....

تنتهي الرحلة بعربة مثقلة تدفع امرأة مثقلة وتجرّ رجلاً مثقلا..

و عند الغروب يخرج فارس القرية من بيته المتداعي في أطراف البلدة بدون عربة هذه المرة، يخرج حزينا بائسا بلا امرأة و لا أمنيات، يلفه الوجل و تخترقه الرعشة...يسير بيد واحدة تنهشه ذاكرة عرجاء و يراوده أمل لعوب..يسير متوجها إلى مبتغاه يجر حزنه و خرقة رجله المتعبة، يمشي ووجهه يزرع الضياء و يحصد الظلام في ليل كاذب رسمته يد الزمان و ظلال الكلاب.. يسير وحيدا بجسد منهك و ذكريات متعبة....تلاحق العيون العنيدة رجله الواحدة و يده اليتيمة....يطارد الليلُ خطواته و يحسب أنفاسه ويردد حركاته..يمشي منكسرا مترددا منهكا حتى يصل إلى مبتغاه وقد لبس الليل الحياة..في حين تروي ذاكرته حكايات المرارة و صراخ الفزع في الأقبية المظلمة...في النهاية يصل وقد أنهكته الحياة شبحا من الألم..يطأ عتبة المبنى بقدم منهكة و يصافح الأيام بيد عاتية كالشبح بلا أصابع ولا تجاعيد... تلك اليد التي طالما دفعت عنه البرد والقيظ و ثرثرة الكلاب...يخرج من المبنى و قد أصبح خاويا و قبل أن يقفل راجعا يتفقد ما بقي منه... يتفقد يده الأخرى الخجول ويتحسسها كمن يتفقد لحمة ميتة..كان يبيع الأمنيات في النهار و يخبئ الحزن في ثياب الليل..بعد ذلك يقفل عائدا إلى بيته وحيدا كما بدأ بلا عربة و لا امرأة و لا ذكريات...يعود إلى بيته مخبِّئا يده في جيبه، جارًّا خرقة رجله...يتلمّس الطريق.....

عند الباب تستقبله زوجته ممسكة بمصباح الزيت..تكتسحهاالفرحة حين تراه يقترب، فتُسرع إليه متقدمة إياه تنير له الطريق و تفتح له أبواب الحياة، عند الباب تمسكه من مرفق يده المخبأة و تفتح له الباب ليتقدمها بالدخول..يلج البيت و يلتفت كعادته دائما ليتأكد أنها وراءه...
كل ليلة يخرج و الظلام يفتّته بلا رحمة فيبكي سطوة الزمن...يعود إلى بيته ليفترش الجرح و يلتحف الأدعية و يحلم بالكلاب...

إنه البائع المتجول في قريتنا و قد كان ككل ليلة في مركز الشرطة لأنه كان سجينا لعدة سنوات!!!

كل ليلة يتوسد جراحه و يختبئ في زوجته متأهبا لرحلة الغد التي لا تنتهي: امرأةٌ مثقلة وراءها عربة مثقلة وراءها رجل مظلم...

رجلٌ ينثر ابتسامة يزرع ضياء على قمح الطريق.....

رجلٌ بيد واحدة و ساقٍ واحدة و كثير من الأحزان!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى